تقرير: التصدير يزدهر في المغرب والفلاحون الصغار خارج دائرة المكاسب

“تتحرك يدا لالة فاطمة بخفة بين صفوف نبتات الطماطم قرب مدينة أكادير، خلال يومين فقط، ستصل محاصيلها إلى متاجر باريسية كبرى، شاهدة على طموح المغرب التصديري. لكن في بيتها، يقتسم أفراد أسرتها خبز العشاء، تقول بابتسامة خافتة: “نزرع فواكه أوروبا، لكن أحيانًا لا نجد ما نضعه بجانب كأس شاي”.
مفارقة إنسانية تختصر صورة أوسع رصدها تقرير حديث لمؤسسة “فريدريش ناومان”، الذي أكد أن المغرب اختار منذ بداية الألفية الثالثة سياسة انفتاح تجاري جريئة، جعلته طرفاً في أكثر من 54 اتفاقية تجارة حرة عبر أوروبا وإفريقيا والأمريكتين، كما ساهمت في جذب استثمارات أجنبية مهمة وتحديث قطاعات صناعية، لكنها لم تنعكس بالقدر ذاته على الفئات الهشة والمناطق الداخلية.
وبيّن التقرير أن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2000 شكّلت نقطة تحول كبرى، إذ ارتفعت نسبة التجارة من الناتج الداخلي الخام من 59% سنة 2000 إلى 79% سنة 2019، مضيفا أنه فيما يخص الصناعة، تحوّلت طنجة إلى مركز استراتيجي بفضل مصنع “رونو-نيسان” الذي يصدر سنوياً 400 ألف سيارة، ما رفع صادرات السيارات إلى 14.2 مليار دولار.
كما أبرز أن القطاع الزراعي استفاد بدوره، خاصة المجموعات الكبرى المتخصصة في الحمضيات والفواكه الحمراء في سوس-ماسة والعرائش، إذ وفّرت الاتفاقيات لهذه الشركات إمكانية النفاذ إلى الأسواق الأوروبية وتطوير لوجستيات متقدمة، ما عزز موقعها كمحركات رئيسية لقصة النجاح المغربي في التصدير الزراعي.
في المقابل، أوضح المصدر أن هذه المكاسب لا تصل إلى صغار الفلاحين الذين يمثلون 80% من اليد العاملة الزراعية، بحيث أنه في قرى الداخل مثل بني ملال-خنيفرة أو أزيلال، يعاني المزارعون من غياب البنيات التحتية ومن ضيعات صغيرة تقل مساحتها عن خمسة هكتارات، ما يجعلهم عاجزين عن مجاراة متطلبات الأسواق الدولية.
وأشار إلى أن ضعف تجهيزات النقل والتبريد يمثل عقبة رئيسية، إذ لا يتجاوز عدد صغار الفلاحين الذين يمتلكون وسائل تبريد 12%، ما يؤدي إلى خسائر بعد الجني تصل إلى 30%، وبيّن تحليل الجاذبية المكانية أن القرب الجغرافي من الأسواق لا يكفي، إذ تظل البنية التحتية والتمويل عناصر أكثر حسماً في تحديد النجاح التجاري.
ومن جانب آخر، لفتت “فريدريش ناومان” إلى تجربة قطاع النسيج في اتفاقية التبادل الحر مع تركيا سنة 2006، حيث أدت المنافسة القوية والتطور التكنولوجي الذي تتميز به الشركات التركية إلى تراجع عدد العاملين في المغرب من 200 ألف سنة 2010 إلى 140 ألفاً سنة 2023، موضحة أن هذه التجربة لم تكشف عن فشل التجارة الحرة بقدر ما أبرزت الهشاشة البنيوية للاقتصاد المحلي.
واستخلص التقرير أن مجرد توقيع الاتفاقيات ليس ضمانة للنجاح، بل يتطلب الأمر سياسات مواكبة لتعزيز التنافسية، مبرزا أن غياب الاستثمار المستمر في التكنولوجيا والبنية التحتية يجعل قطاعات بأكملها عرضة لانكماش مؤلم، ما يؤكد بحسبه أن الانفتاح دون جاهزية يتحول إلى مصدر إقصاء اقتصادي داخلي.
وفي السياق نفسه، حذّر المصدر من الاعتماد المفرط على أوروبا، التي تستوعب 68% من صادرات المغرب، مؤكدا أن موقع المملكة كبوابة إلى إفريقيا وانضمامها لاتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية يعد أمرا مهمّا ويمنحها فرصا جديدة، إلا أن الفوارق الجهوية لا تزال قائمة بسبب تركّز الاستثمارات في الموانئ الساحلية مقابل تهميش المناطق الداخلية.
وشدّدت الوثيقة على أن الحل يكمن في جعل التجارة أكثر شمولاً عبر تبسيط الإجراءات وتقوية البنية التحتية الريفية، موضحة أن شبكات التبريد، وتحسين الطرق الفرعية في مناطق مثل أزيلال، وتسهيل انسياب المنتجات نحو نقاط الجمع، كلها إجراءات عملية يمكن أن تقلّص الخسائر وتمنح الفلاحين الصغار فرصة للاستفادة من الانفتاح.
كما أوصى التقرير بأن ينظر المغرب، في إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، إلى إمكانية الاستثمار المشترك مع الدول الإفريقية في مثل هذه البنى التحتية، كوسيلة لتعزيز الترابط الإقليمي وتسهيل التجارة البينية القارية، مشددا على أن هذه الخطوات رغم أنها ليست ثورية، إلا أن أثرها المتوقع على التنمية الاقتصادية سيكون كبيراً.
وخلصت مؤسسة “فريدريش ناومان” في تقريرها بالإشارة إلى أن أطفال لالة فاطمة يذهبون اليوم إلى مدرسة بُنيت بعائدات صادرات الطماطم، ما يشير إلى وجود تقدم، لكنها أكدت رغم ذلك، أن نجاح المغرب في التجارة الحرة يتطلب رؤية موحّدة تربط بين الساحل والداخل، وبين المزرعة والمصنع، وبين السياسة والمواطنين، مدعومة بإرادة سياسية قوية واستثمارات فعلية في البنيات التحتية الضرورية.