1- غرفة العمليات.. الرئيس هو الخطر!

في السياسة، كما في الجراحة، هناك لحظات لا تحتمل التردد. تتجمّد فيها عقارب الساعة، وتُختزل فيها كل تعقيدات السلطة إلى قرار واحد: أقصف أم لا؟ أعلن أم أخفي؟ أُنقذ أم أُضحّي؟
تلك اللحظات لا تُعاش في قاعات البرلمان ولا في قاعات المؤتمرات الصحافية، بل تُصنع خلف الأبواب الموصدة، في مكان واحد يتردد فيه صدى العالم كله.. هو “غرفة العمليات” في البيت الأبيض.
في هذا المكان الذي لا نراه إلا في مشاهد السينما أو لقطات الأزمات الكبرى، تدور قصص حقيقية، أشبه بالخيال.
وهناك، كما يكشف جورج ستيفانوبولوس في كتابه “The Situation Room: The Inside Story of Presidents in Crisis”، تتكثف كل عناصر الدراما السياسية: السلطة، والخوف، والأخلاق، والمصير.
في هذه السلسلة من المقالات، لا أسعى فقط إلى استعادة سرديات القرار الأميركي تحت الضغط، بل أحاول أن نقرأها جميعا من زاوية مختلفة:
ماذا تقول هذه اللحظات عن طبيعة القيادة؟
كيف تُصاغ السياسات في لحظة ارتباك؟
كيف يتصرف أقوى رجل في العالم عندما لا يملك كل المعطيات، ويعرف أن كل خيار سيفضي إلى موتٍ ما أو مصير ما؟
هذه ليست مقالات عن أميركا فقط. إنها دعوة للتأمل في معنى الحكم عندما يصبح امتحانا أخلاقيا قبل أن يكون قرارا استراتيجيا. ودعوة لفهم كيف تُدار الأزمات حين تسقط الأقنعة وتُختزل السياسة إلى سؤال بدائي: من يحيا ومن يموت؟
هذه ليست “مراجعة كتاب” بالمعنى الكلاسيكي، بل رحلة إلى أعمق نقطة في عقل الدولة الحديثة…
قراءة ممتعة.
..
يتناول كتاب “غرفة العمليات: القصة السرية للرؤساء في أوقات الأزمات، والكواليس السرية والدراماتيكية لما يعرف باسم “The Situation Room” في البيت الأبيض، وهي المركز العصبي للقرارات المصيرية في الأزمات الوطنية والدولية التي تواجه الرؤساء الأميركيين.
يروي ستيفانوبولوس، الذي شغل مناصب بارزة في البيت الأبيض في عهد إدارة بيل كلينتون وأصبح لاحقا من أبرز الإعلاميين السياسيين في أميركا، أحداثا حاسمة وقصصا لم تُروَ من قبل عن لحظات اتخذ فيها الرؤساء قرارات مفصلية تحت ضغط كبير، بما في ذلك قرارات الحرب والسلام، وملاحقة زعماء الإرهاب، والتعامل مع كوارث طبيعية وهجمات مفاجئة…
صدر هذا الكتاب عام 2024، واعتمد فيه الكاتب على مقابلات حصرية ووثائق غير منشورة، ليغوص في طريقة عمل الرئاسة الأميركية في أحلك الأوقات.
“قبل أن تشرق شمس السادس من يناير 2021، كانت سيارة تويوتا كامري زرقاء اللون تشق طريقها بصمت نحو البيت الأبيض. السائق ليس زائرا ولا متظاهرا ولا موظفا عاديا. اسمه مايك ستيغلر، محلل استخباراتي في الثلاثينيات من عمره، يتجه إلى مكان لا يعرفه كثيرون، ولا يدخله إلا القلّة القليلة: “غرفة العمليات” في قبو البيت الأبيض، المعروفة باسم The Situation Room”.
بهذه اللمسة السردية يفتتح الكاتب فصله التمهيدي في بداية الكتاب، مواصلا الحكي: “عند الرابعة والثلث صباحا، نزل مايك من سيارته وأحس بشيء غريب، رغم أنه اعتاد الدوام في هذه الساعة المبكرة.
“كأنّ هناك شيئا لا يبعث على الاطمئنان”، قال محلل الاستخبارات الشاب في قرارة نفسه. فقد كانت شوارع واشنطن مكتظة بأشخاص لا يُفترض بهم أن يكونوا هناك، وسيارات مركونة في أماكن غير معهودة، وصمت ثقيل يسبق العاصفة.
في ظهيرة ذلك اليوم، كان الكونغرس الأمريكي يستعد للمصادقة على انتخاب جو بايدن رئيسا جديدا للولايات المتحدة، فيما كان الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، يرفض الخروج من البيت الأبيض، ويحشد أنصاره لـ”منع” ما اعتبره “سرقة الانتخابات”.
كان موظفو غرفة العمليات بالبيت الأبيض، أولئك الرجال والنساء الذين اعتادوا على التعامل مع الكوارث الخارجية والمخاطر الأمنية العابرة للقارات، يتابعون بتركيز شديد مؤشرات ذلك اليوم المتوتر. مهمتهم واضحة كما هو الحال في كل أزمة: رصد تطورات الأحداث، تحليل المعطيات العامة والخاصة، دمج المعلومات الاستخباراتية السرية مع ما يتداول علنا، وإعداد تقارير مركزة تُرفع إلى رئيس الولايات المتحدة متى دعت الحاجة.
كان ذلك جزءا من بروتوكول العمل اليومي داخل “غرفة العمليات”، التي لا تنام.
لكن هذه المرة، ثمة شيء مختلف ومفزع. جميع الأنظار التي تتجه عادة نحو الخارج، أي صوب العواصم الأجنبية أو جبهات النزاع الساخنة، باتت تتركز على الداخل الأمريكي، وتحديدا على الرئيس نفسه. للمرة الأولى في تاريخ الغرفة، لم يكن المطلوب تنبيه الرئيس، بل كان المطلوب احتواء تداعيات تصرفاته.
ترامب، وبخلاف كل الأعراف، لم يتصل بالغرفة، ولم ينتظر تقاريرها، بل تجاهل وجودها بالكامل. أما موظفو الغرفة، فلم يتصلوا به أيضا، ليس لأن الأمر لا يستدعي، بل لأنهم أدركوا أن القائد الأعلى نفسه هو مصدر الأزمة. لقد خرج من مربع المتلقي للتنبيهات إلى دائرة صانع الخطر.
كان ترامب يشاهد كل شيء من مكتبه في الجناح الغربي، يحتسي مشروب “كوكا دايت”، ويتابع على شاشات التلفزيون الحشود التي اقتحمت مبنى الكونغرس بدعوة منه. لم يكن على خط التماس مع غرفة العمليات، بل كان في موقع المتفرج الشامت، والفاعل المحرّض، في آنٍ واحد.
هكذا، انقلبت الوظيفة الحيوية للغرفة من إدارة أزمة وطنية إلى محاولة تفادي انهيار مؤسسة الرئاسة نفسها، في سابقة لم تعرفها الديمقراطية الأمريكية منذ تأسيسها.
وبينما كان الموظفون يراقبون تصاعد التوتر، خرج ترامب يخطب أمام حشد من أنصاره قرب البيت الأبيض، ويدعوهم إلى “القتال كالجحيم”، وإلا “فلن يبقى لكم وطن”، ويحثهم على الزحف نحو مبنى الكابيتول.
لقد طلب دونالد ترامب الانضمام إليهم، لكن جهاز الحماية الرئاسي رفض، فقد كانت الفوضى قد انطلقت.
اقتحم المحتجون الحواجز، وانهارت خطوط الشرطة، وتسرب المقتحمون إلى قلب المؤسسة التشريعية الأمريكية. هناك، حيث يفترض أن تُكتب القوانين، سُمعت الطلقات التحذيرية، وتبعثرت الوثائق، وتسلّل الرعب إلى الغرف العتيقة للكونغرس.
في هذه اللحظات العصيبة، تحولت غرفة العمليات إلى ساحة لما يسميه البروتوكول الأمريكي: “وضع استمرارية الحكومة” (continuity-of-government) . وهو مصطلح قد يبدو بيروقراطيا باردا، لكنه في الحقيقة، يُخفي سيناريوهات كانت توضع لمواجهة احتمال اندلاع حرب نووية: غرف سرية، وقيادات بديلة، وخطوط خلافة دستورية، وكل شيء يتحرك تحت الأرض، حيث تختبئ الدولة العميقة لتنجو.
حدث ذلك في 11 شتنبر 2001، عندما فُعّل هذا الوضع لأول مرة. أما في 6 يناير 2021، فقد أعيد تفعيله، لكن هذه المرة ضد عدو من الداخل: رئيس يريد أن يوقف التداول السلمي على السلطة.
قالها ستيغلر، ضابط الاستخبارات الشاب، ببساطة تقطر ألما: “لقد اقتربنا كثيرا من فقدان نائب الرئيس”، وأضاف: “ما جرى ذلك اليوم لا نعرف كيف نتحدث عنه، ولا لمن نحكيه”.
ليست غرفة العمليات قاعدة حربية كما في تبدو أفلام هوليود، بل هي قاعة ضيقة في الطابق السفلي للبيت الأبيض، بلا نوافذ، وغير جذابة، لكن فيها يُتخذ القرار.
إنها عقل الدولة عندما تهتز. ومع ذلك، كما قال أحد الدبلوماسيين السابقين، فهي ترمز أحيانا للمشكلة نفسها: بُعد القرار عن الحقيقة، وضيق الحيز الذي تُصاغ فيه مصائر الأمم.
لا يتحدث الكتاب فقط عن هذه الحادثة، بل هو سرد لتاريخ غرفة العمليات منذ تأسيسها زمن كينيدي، مرورا بأزمات الحرب الباردة، إلى اليوم. لكنه يبدأ بهذا المشهد العنيف، ليقول لنا إن التهديد الأكبر للديمقراطية قد لا يأتي من الخارج، بل من داخل المؤسسات نفسها حين تُختطف من قبل إرادة مهووسة بالسلطة.
سنسافر خلال الحلقات المقبلة، معا وعبر صفحات هذا الكتاب، لنكتشف كيف صيغت قرارات الحرب والسلم، ومن جلس في تلك الغرفة، ومتى انكسرت الجدران، وكم مرة نجحت في إنقاذ الرئاسة من الانهيار.