التطبيع مع التجويع

بينما نقبع هنا صامتين عاجزين، ونتخذ وضعية الموتى الواقفين، هناك في غزة، لا يموت الناس لأنهم يقاتلون، بل لأنهم يطلبون الخبز.
غزة اليوم ليست ساحة حرب، بل ساحة اختبار لما تبقّى من إنسانية العالم، ومن ضمير الأنظمة، ومن ذاكرة الشعوب.
بينما يسقط الأطفال وهم يلهثون خلف كِسرة خبز، يصعد في المقابل صوت التطبيع ليُغطي على صوت المجاعة. لم يعد هذا تطبيعا سياسيا، بل بات تطبيعا مع التجويع، ومع الإبادة البطيئة، ومع جريمة تُرتكب باسم الواقعية، بصمت مريع يلطخ كل من يختبئ وراءه.
أنا لم أكن يوما من رافضي التطبيع بدافع أيديولوجي صرف، ولا ممن يُحرّمون أي شكل من أشكال التعامل مع إسرائيل تحت أي ظرف، لأنني أومن بأن السياسة، في جوهرها، فن إدارة الممكن، وتوازن المصالح، وتقدير التعقيد التاريخي للوقائع والارتباطات.
لقد كنت، قبل السابع من أكتوبر 2023، أتفهّم اعتماد مقاربة براغماتية ترى في إعادة العلاقات مع إسرائيل خطوة خاضعة لميزان دقيق، يفترض أن يراعي المكانة التاريخية للمغرب في القضية الفلسطينية، وموقعه الرمزي في ضمير الأمة، والمزاج العام لشعبه، قبل أن يكون تماشيا مع متغيرات إقليمية ودولية.
لكن ما يجري اليوم لم يعد يُبقي لهذا التوازن معنى. لم يعد بالإمكان التذرّع بالواقعية السياسية لتبرير صمتنا، ولا يمكن لأية سردية دبلوماسية أن تُقنع ضميرا حيّا بأننا لم نصبح طرفا -بالتواطؤ أو بالصمت- في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية بالتجويع التي شهدها العصر الحديث.
أكثر من ألف فلسطيني قُتلوا حتى الآن وهم يحاولون الحصول على المساعدات الغذائية، وفق ما أكده مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وفي كل يوم يموت ما بين 15 و20 فلسطينيا بسبب الجوع.
هؤلاء لم يموتوا تحت الأنقاض أو بفعل الصواريخ، بل تحت نيران القناصة وهم يركضون خلف كيس دقيق أو علبة حليب، أو وهم يتلوّون من وجع سببه غياب اللقمة.
في غزة اليوم، قد يعني الوصول إلى وجبة ساخنة أو زجاجة ماء نهايتك. يموت الناس لأنهم “جاعوا في الوقت الخطأ”، أو “اقتربوا من الحاجز قبل الموعد”، أو “حاولوا تجاوز سلك شائك”.
يتم كل ذلك تحت إشراف ما يسمّى “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي تحولت إلى مصيدة موت يديرها الاحتلال برعاية أمنية كاملة.
المشاهد التي تصلنا من القطاع ليست فقط مروعة، بل مدوية أخلاقيا. أطفال يتساقطون في الشوارع، نساء يمتن بصمت في غرف مظلمة، عشرون روحاً أزهقت خلال يومين فقط بسبب الجوع.
المنظمات الإنسانية الكبرى، من أطباء بلا حدود إلى أوكسفام، أطلقت نداءات جماعية تحذّر من “مجاعة جماعية” غير مسبوقة، ومخازن المساعدات تقبع على مرمى البصر خارج غزة، لكنها محرّمة على أصحابها.
وسط هذا الجحيم، خرجت مجموعة من الإسرائيليين يوم أمس في قلب تل أبيب لتتظاهر ضد تجويع سكان غزة. نعم، هناك داخل الكيان من يرفض هذه الهمجية، في وقت يقف فيه العالم العربي والإسلامي متفرجا، وصامتا، وخائفا حتى من إصدار بيان شجب.
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، قالها بصوت متهدج: “ما يحدث في غزة لا مثيل له في التاريخ الحديث”.
ومع ذلك، لم يصدر المغرب كلمة إدانة واحدة لقتل المدنيين الباحثين عن الغذاء، ولا لتعمّد قصف نقاط توزيع المساعدات، ولا حتى للعدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا. صمت مطبق لا يليق بتقاليد المملكة ولا بتاريخها ولا بضمير شعبها.
أنا الذي طالما دافعت عن مقاربة واقعية في التعامل مع الملف الإسرائيلي، أجد نفسي اليوم عاجزا عن تفهّم موقف الدولة المغربية. هذا ليس سلاما، بل استسلام. وليس تطبيعا، بل انخراط ضمني في مشروع إبادة جماعية، تجري على مرأى ومسمع من العالم.
لا أتحدث هنا بلغة المزايدات، بل بلغة الوقائع والمآسي. التطبيع في شكله الحالي لم يعد “سلوك دولة”، بل صار “خيانة ذاكرة”، وخيانة شعب يؤمن بأن فلسطين ليست مجرد ملف خارجي، بل جزء من وجدانه الوطني.
ألا يكفي كل هذا الصراخ في الشوارع وهذه النداءات التي تستجدي إحياء الضمير؟ لقد خرج المثقفون المغاربة من صمتهم، ووقّعوا بيانا أشبه بمحاكمة أخلاقية للموقف الرسمي.
أسماء وازنة من كل المشارب الفكرية والسياسية، من أمثال عبد اللطيف اللعبي، ومحمد بنيس، وأحمد شحلان، وسعيد بنكراد، وامحمد جبرون، وصلاح بوسريف، وغيرهم كثير، قالوها بصوت واحد: لا شرف للمغاربة في بقاء العلاقة مع كيان متورط في التجويع والإبادة الجماعية.
يحدث كل هذا بينما بعض مسؤولي إسرائيل يجتمعون داخل الكنيست لتدارس خطط تحويل غزة إلى “ريفييرا” خالية من سكانها، ويجري قصف المدنيين بالجوع والرصاص، وتُسجَّل مجازر أمام عدسات الأمم المتحدة، ولا نسمع من الرباط غير الصمت.
هذا السكوت ليس حيادا، ولا شطارة، ولا دهاء. إنه اصطفاف، شاء من شاء وأبى من أبى.
التطبيع، في ظل هذه الجرائم، لم يعد مجرّد اتفاق سياسي، ثلاثي أو رباعي أو خماسي، بل صار شهادة زور على القتل. وما لا يُقال اليوم في الرباط سيُقال مستقبلا في محاكم التاريخ.
إن أبسط واجب اليوم هو وقف كل أشكال العلاقة، وسحب السفير، وتجميد التعاون، والتعبير العلني عن الرفض التام والمطلق لتجويع شعب، وقتل أطفاله، وتحويل خبزه إلى أداة حرب.
إننا لا نطلب المستحيل، بل نطالب بالممكن الذي يحفظ ماء وجهنا.
نطالب بأن يكون لنا شرف الوقوف مع الإنسان لا مع المجرم.
التطبيع مع التجويع ليس سياسة، إنه خيانة متعددة الأبعاد:
خيانة لفلسطين، وخيانة لضمير المغاربة، وخيانة لمعنى أن نكون مغاربة حقا.