سامحينا يا غزة!

كان الصباح هادئا على نحو خادع هذا الأحد 20 يوليوز 2025. وصلتُ إلى ساحة باب الحد في الرباط على عادتي المبكرة، أستطلع ما إن كانت المسيرة الشعبية التي دعت إليها الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع ستلقى صداها في الشارع.
لكن الساحة بدت فارغة، لا لافتات، لا هتافات، لا حشود. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا، ولا شيء يوحي بأن الرباط ستغلي بعد لحظات.
عدتُ أتمشى على الرصيف الفاصل بين باب الحد ومحطة القطار، حتى سمعت صرخة بعيدة تقترب، ثم موجات بشرية تتدفق كما لو أنها تنبع من الأرض.
عند تمام الحادية عشرة، كان شارع محمد الخامس قد غرق بطوفان بشري هائل، يهدر بالغضب، ويعلو بالتكبير، ويبكي بصمت مكتوم من أخبار التجويع والتقتيل والإبادة القادمة من غزة.
لم تكن المسيرة حدثا عابرا. بل كانت نداء ضمير في زمن الخرس. لم تكن مسيرة بالمعنى التنظيمي للكلمة، بل موجة بشرية مشحونة بشعور الفضيحة والعار. إذ كيف يصمت العالم على جريمة تتشكل بالصوت والصورة؟ كيف يستقيم أن تخرج قوارب حقوقيين وسياسيين من أوروبا، تمخر البحر من إيطاليا نحو غزة، بينما تقف حكوماتنا ونخبنا عاجزة حتى عن إيصال كيس طحين؟
هناك، في غزة، لا شيء على الأرض غير الجوع، ولا نازل من السماء غير اللهب. التقى الألم على أمر قد قُدّر: شعب يُباد بناري الخوف والمسغبة.
يقضم الجوع في غزة الأجساد المتعبة، يقرّبها إلى الموت زلفى، وللموت هناك ألف وجه، لكن سحنته الأعتى تأتي عبر صرير أمعاء فارغة، لا تلبث أن تسكتها الهُزال، فيخر صاحبها معلنا نهاية حياة قاسية بموت أقسى.
أشباح الجوع تهاجم كل بيت في غزة. يروي الناس هناك أن رجلا مسنا خرج من خيمته يحمل إناء صغيرا، يسابق الأنفاس لينال شيئا من الطعام، فلم يصمد. وقع قبل أن تملأ آنية الانتظار. لم تمتد له يد، ولم تُسعفه قوة، ولم يبقَ له من الحياة سوى صدى جسده المنهار.
المنظمات الدولية تتحدث عن مرحلة خامسة على سلم المجاعة. نصف مليون إنسان في غزة وصلوا إلى مستوى المجاعة الكارثية، بحسب اليونيسيف، و71 ألف طفل ينتظرهم موت وشيك إن لم تصلهم مساعدات عاجلة، فيما يقف العالم مكتفيا بالفرجة والبكاء أمام شاشة أو التفاعل بصورة من صور التضامن الرقمي، بينما موائد الدول الغنية غارقة في البذخ، والنفوس مشغولة بحسابات الانتخابات، أو عناوين التفاهة.
لم تفلت سهام الجوع أي روح في غزة. لم يعد هناك من يملك ترف النُبل في الصبر. حتى مراسل الجزيرة أنس الشريف، الذي كان صوت الصمود، خرج عن صمته وجأر قائلا: “نترنح من الجوع”.
وما أنس إلا مرآة لآلاف الصابرين، الذين بدأ الجوع ينحت من أرواحهم قبل أجسادهم.
في مشهد يختصر الجريمة، يقف أطفال غزة وقد صاروا خرائط حيّة للهياكل العظمية. وجوه شاحبة تسكنها عيون غائرة، لا تبصر سوى الموت القريب، وبطون منتفخة من الهزال المزمن، وأرجل لا تقوى على حمل أجساد أنهكها الجوع ونحتها الألم. لم يعد هناك مكان للبراءة في ملامحهم، فقد اختطفتها المجاعة، وتركت بدلا عنها وجعا صامتا لا تقدر الكلمات على وصفه.
أكثر من 900 شخص، وفق وزارة الصحة في غزة، لفظوا أنفاسهم جوعا منذ بدء الحرب، أغلبهم من الأطفال، والرقم مرشّح للارتفاع كل يوم.
وما زالت آلاف الأرواح تحوم على حافة الموت، دون دواء يوقف انهيار أجسادها، ودون غذاء يسد رمقها، ودون حتى الأمل، وهو آخر ما يفقده الإنسان عادة.
ليس الجوع في غزة مجرّد حرمان من الطعام، بل هو سلاح إبادة ممنهج، يُستخدم ببطء قاتل، تحت سمع العالم وبصره. فالمجتمع الدولي يعرف، والمنظمات الأممية تحذّر، والصور تتدفّق يوميا من بين الركام، لكن لا أحد يحرّك ساكنا.
كأن أطفال غزة خارجون من حسابات الإنسانية، أو يدفعون ضريبة الوجود في وطن يقاوم.
المساعدات نفسها تحولت إلى مصائد موت. إسرائيل تنتظر تجمع الجوعى في طوابير الخبز، ثم تقصفهم. من قُتل وهو يمسك علبة تونة، ومن استُشهد تحت وطأة الزحام، ومن قُصفت عليه نقطة توزيع الأغذية.
كأنهم، وهم يطلبون الحياة، يعطون مبررا للقتل.
تؤكد وكالة الأونروا الأممية أن لديها ما يكفي من الغذاء لأهل غزة لأكثر من ثلاثة أشهر، لكنه محجوز في الجانب المصري من معبر رفح.
فقط لو يُرفع الحصار. فقط لو تُفتح الأبواب. فقط لو يتوقف القتلة عن القتل. فقط لو نملك قليلا من الكرامة.
بات السؤال في غزة بسيطا حد الألم: هل إلى اللقمة من سبيل؟
سؤال يُطرح من بين الأنقاض، وتحت الخيام، وعلى أسرّة المشافي التي تضيق بمن فيها. وتقول وزارة الصحة إن الأجساد باتت واهنة، لا تقوى على المقاومة، وإن المجاعة بلغت من الحدة أن الإنسان صار يموت، لا لأنه قُصف، بل لأنه جاع.
في هذه الأثناء، أطلقت الرباط صرخة مدوية. خرج الناس عن صمتهم. مشيتُ وسط الحشود أتذكر صورة الشيخ المنهار، وصوت أنس الشريف الجائع، وصور الأطفال الذين باتوا خرائط جوع.
عدتُ إلى ساحة باب الحد، المكان نفسه، الساعة نفسها تقريبا، لكنني لم أعد الشخص نفسه. هذه المسيرة، لم تكن مجرد مسيرة، بل إعلان أخلاقي بأننا، إن لم نكن قادرين على إيصال رغيف إلى غزة، فما قيمة تطبيعنا؟ ما فائدة صمتنا؟ وما معنى أن نملك السيادة ولا نستطيع إيصال الحياة إلى طفل يحتضر؟