story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جبروت الفساد

ص ص

مرة أخرى، تطفو إلى السطح واحدة من تلك القصص التي تبدو للوهلة الأولى مجرد مادة دسمة لوسائل الإعلام، لكنها في العمق أشبه بمرآة مقلوبة تعكس ملامح نظام حكم سياسي آخذ في الغرق في مستنقع يتحلّل فيه القانون وتنعدم معه قواعد السلوك.

التسريبات الأخيرة التي نشرتها قناة “جبروت” على تطبيق “تلغرام”، واستهدفت وزير العدل عبد اللطيف وهبي، تتحدث عن قرض عقاري بقيمة 11 مليون درهم (مليار و100 مليون سنتيم بحساب الفقراء)، حصل عليه الوزير نهاية سنة 2020 من أحد الأبناك لاقتناء عقار في الرباط، قبل أن تتم تصفية القرض بعد أقل من أربع سنوات، ونقل الملكية باسم زوجته عبر عقد هبة، صُرّح فيه بقيمة لا تتجاوز مليون درهم للعقار نفسه.

عندما كنت أتحدّث هاتفيا مساء أمس إلى مسؤول سياسي، من خارج حزب الوزير عبد اللطيف وهبي، وطلب مني ملخصا للقضية التي تفجّرت في اليومين الماضيين، ووصلت هذه المرحلة من الشرح، قاطعني هذا المسؤول متسائلا باستنكار: وهل هذه هي الفضيحة التي يتحدثون عنها؟ ألا يحقّ للرجل أن يبيع ويشتري ويحصل على القروض…؟

لكن مهلا، فرغم أننا أمام عملية اختراق إلكتروني غير قانوني وغير مشروع، فإننا وبعد التأكد من صحة الوثائق، وقد قمت بذلك شخصيا (…)، لا نكون بتاتا أمام عملية تلصّص على الحياة الخاصة لأحد أعضاء الحكومة، لأن ثروات الوزراء وذممهم المالية من مواضيع الشأن العام، والقانون نفسه يمنح المجتمع حق مراقبتها عندما ألزم الوزراء بالتصريح بالممتلكات في بداية ونهاية مسؤولياتهم الحكومية.

هنا، وقبل أن نصل إلى الجانب الضريبي، يُطرح المشكل الأول.

صحيح أن عملية شراء العقار والحصول على قرض لتمويله، قد جرت عندما كان وهبي في المعارضة ولم يتحمّل بعد أية مسؤولية حكومية. وقد يكون التمويل البنكي حقيقيا وليس وسيلة للتغطية على أموال جرى الحصول عليها بطرق غير واضحة ويراد غسلها، كما يمكن أن يكون نجاح الوزير في سداد القرض في وقت قياسي، أي حوالي ثلاث سنوات ونصف، نتيجة تصرّفه في ممتلكات وعقارات أخرى…

رغم كل هذا، يظل هناك مشكل مطروح على هذه العملية قبل أن نصل إلى الجانب الضريبي.

بما أن قيمة العقار انخفضت بقيمة مليار كامل بين عقدي الشراء والهبة، فإن ثروة الوزير في نهاية مسؤوليته الحكومية ستكون قد فقدت هذا المليار في مرحلة التصريح التي سيقوم بها بعد نهاية مسؤوليته كوزير للعدل.

العقار الذي بات في ملكية الزوجة وفقا لعقد قانوني أشرفت عليه موثقة (سؤال كبير وعريض حول مسؤوليتها في هذه “البيعة وشرية”) وقطع جميع مراحل التسجيل التي تخضع لها العقارات، سيظهر ضمن ثروة الوزير وأسرته بقيمة مئة مليون سنتيم، بعدما كان يظهر لحظة تولي الوزير للمسؤولية الحكومية بقيمة مليار ومئة مليون سنتيم.

هذا التراجع الكبير في قيمة العقار، قد يؤدي إلى إخفاء أية زيادة أخرى في هذه الثروة يمكن أن تكون قد حصلت خلال تقلّد وهبي مهمة وزير العدل، ويحرم المجلس الأعلى للحسابات بالتالي (الجهة المكلفة بتلقي التصريحات بالممتلكات)، من إمكانية المقارنة الموضوعية بين حجم الثروة في بداية المهمة الحكومية ونهايتها.

هناك مليار ظهر في بداية المسؤولية ثم اختفى في نهايتها.
أما من الناحية الضريبية، فالمشكلة ليست في الضريبة على الأرباح العقارية كما قال البعض، لأن الفترة الفاصلة بين شراء العقار وتفويته بعقد هبة قصيرة، ومن المنطقي ألا يكون هناك ارتفاع في قيمته، لكن هناك مشكلة تتعلق برسوم التسجيل والتحفيظ.

فالفارق بين السعر الحقيقي وذلك المصرّح به في عقد الهبة، ليس مجرد تفصيل إداري، بل هو مخالفة صريحة للقانون المتعلق بالحقوق العينية، والذي ينظّم عقد الهبة، وقد يُكيف في حالات أخرى كتهرّب ضريبي أو غش في التصريحات.

ينص القانون على أن الموهوب له يتحمّل مصاريف عقد الهيبة، والتي تتمثل أساسا في مرحلة تسجيل البيع في دفع نسبة 1.5 في المئة من قيمة العقار، وهي النسبة المخفّضة التي أقرها القانون للهبات التي تتم بين الأقارب، عكس الهبات التي تتم بين الأغيار والتي تتطلب دفع 4 في المئة. وهو ما يعني في هذه الحالة واجبات تسجيل بقيمة 16 مليون ونصف مليون سنتيم، كانت زوجة الوزير عبد اللطيف وهبي ستدفعها، أو يدفعها هو بصفته واهبا إذا قررا ذلك وفقا لما ينص عليه القانون.

كما أن واجبات التحفيظ تكون بالقيمة نفسها، أي 1.5 في المئة، وهو يجعل مصاريف نقل الملكية هذه تصل إلى 33 مليون سنتيم، يبدو أن الوزير وزوجته لم يدفعها منها فعليا سوى ثلاثة ملايين سنتيم، إلى جانب أتعاب الموثقة…

علمت شخصيا، وقد تحدّثت إلى الوزير المعني نفسه، أن هذا الأخير لا يمانع في الخضوع لمراجعة ضريبية، ودفع المستحقات التي حرم منها خزينة الدولة. لكن هذا الاستعداد لا يحلّ المشكلة، لأنه يعبّر عن فلسفة “ندفع فقط إذا كُشف أمرنا”، وهو ما يُضعف المنظومة الجبائية ويُشجع ثقافة التحايل والتواطؤ الصامت بين المُلزم والإدارة. وكلّها شبهات يفترض أن يكون الوزير، وخصوصا وزير العدل، في منأى عنها.

ومع ذلك، فإن جوهر المسألة لا يكمن في العقار ولا في الوزير، بل في ما وراء العقار وما يتجاوز الوزير.

فالقصة هنا ليست استثناء، بل هي تجسيد مكرر لنمط من الممارسة التي تجعل من الاغتناء في السلطة امتيازا، لا انحرافا. وإلا ما الفارق الجوهري بين قضية “خدام الدولة” التي كشفت حصول وزراء وولاة على أراض بأثمنة رمزية في مواقع استراتيجية، وما يجري اليوم بصيغ قانونية أكثر أناقة؟

إن الدولة تكرّس، بوعي أو بدونه، منطقا غير مكتوب، لكنه نافذ ومؤسس: خذ ما تستطيع، ما دمت معنا.

ليست المشكلة في الوزير الفلاني أو المسؤولة الفلانية، بل في الرسالة التي يُبعث بها للمغاربة كل مرة: إذا ووجه المسؤول بفضيحة، فإنه لا يُحاسب، بل يُدافع عن نفسه من المنصة التشريعية بصفته مالك الشركة المستفيدة من الصفقة المشبوهة، أو أمام ميكروفونات الإعلام، وقد يُكافأ بالصمت أو الترقية أو القبول في ناد غير رسمي لنخبة تعرف كيف تمرر مصالحها دون أن تقع تحت طائلة القانون.

في هذا السياق، لا عجب أن يُسحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع في صمت ثقيل، بعد سنوات من الانتظار، ولا غرابة أن يُمنع على جمعيات المجتمع المدني الحق في التصريح العلني عن شبهات الفساد بموجب قوانين تحاصر الحق في التعبير وتفرغ آليات الرقابة الشعبية من مضمونها.

إننا أمام هندسة دقيقة لمنظومة تُغلق منافذ المحاسبة وتُبقي فقط على واجهاتها، بينما تُطلق يد من يملكون القرب من مركز القرار في استغلال القانون للتمويه، لا للامتثال.

وما يحدث اليوم ليس سقوطا عرضيا في التجاوز، بل تَرسيمٌ لمسار بات يُنتج طبقة جديدة، هجينة، لا تجد حرجا في الجمع بين الصفة العمومية والمنفعة الخاصة، بين المرفق العام والصفقة الخاصة، بين الحضور السياسي والتوغل في السوق.

الحماية التي يتمتع بها الفساد لم تعد خفية. إنها تُمارس علنا، وتُمرّر عبر التصويت، وتُشرعن في الخطاب الرسمي، وتُسوّق بمنطق بارد: “كلنا نفعل ذلك، فلماذا هذا الاستهداف؟”.

وحين يُصبح هذا المنطق هو القاعدة، فإن الكارثة لا تقتصر على وزير، ولا على فيلا، ولا على قرض مشبوه. إنها كارثة في المفهوم نفسه: أن تتحول الدولة من ضامن للعدالة إلى راعية للصمت، ومن حَكم بين المصالح إلى حامية لامتيازات الأقلية، ومن حامي القانون إلى شريك في إنتاج نسخته المنحرفة.

في هذا المشهد، لا تعود المشكلة في خرق القانون، بل في جبروت الفساد الذي بات يطلّ من نوافذ المؤسسات، ويملي منطقه على منابر البرلمان، ويتحدث بلسان رسمي لا يخجل من التبرير.

هذا ما يجب أن يُقال، قبل أن يتحول الصمت إلى تواطؤ، والدهشة إلى تطبيع، والخيبة إلى خنوع.