من حرقة الفقد إلى عنف الرد.. اعتصام ينتهي بجريمة ويجر انتقادات واسعة

عاشت الجماعة القروية أولاد يوسف التابعة لإقليم بني ملال، في الأسبوعين الأخيرين، حدثا إنسانيا صعبا، بعدما أقدم شخص أربعيني يدعى “بوعبيد” على خوض شكل احتجاجي غير مألوف، إذ ارتأى إلى صعود خزان مائي (صهريح) يفوق ارتفاعه عشرة أمتار، ومكث هناك لمدة تفوق 15 يوما، تحت شمس حارقة، مطالبا بفتح تحقيق حول ملابسات وفاة والده التي وصفها بـ “الغامضة”.
غير أن هذا المعتصم، الذي حاز تعاطف الساكنة والعديد من الفاعلين الحقوقيين طيلة مدة احتجاجه، سينتقل من معتصم مطالب بحقه في معرفة أسباب وفاة والده الذي كان يشتغل جنديا سابقا، إلى مجرم خطير، ويتحول في نظر المتتبعين وساكنة المنطقة إلى وحش آدمي كاد أن يودي بحياة أحد عناصر الوقاية المدنية الذي كان يهم بتقديم المساعدة له وثنيه عن احتجاجه بعدما تظاهر بالإغماء، فوق سطح الصهريج.
وانتشرت مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي توضح قمّة الضرب والعنف الذي مارسه المعتصم/ المجرم في حق عنصر الوقاية المدنية الذي تركه بين الحياة والموت.
وبقدر ما استنكر المتتبعون الاعتداء الجرمي الذي مارسه المعتصم في حق أحد عناصر الوقاية المدنية، بقدر ما استهجنوا طريقة التدخل “الهاوية”، فضلا عن التأخر في التفاعل مع احتجاج هذا المعتصم الذي ظل ماكثا فوق خزان الماء لأكثر من أسبوعين.
“مقاربة عقيمة”
في هذا السياق اعتبر عادل تشيكيطو، رئيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، تأخر السلطات في التفاعل مع مطلب المواطن، سلوكًا غير مبرر، مشددًا على أن الحادثة “لا يجب أن تمر كحدث عابر، بل تقتضي فتح تحقيق فوري وجاد في كافة ملابساتها”.
وفي تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، قال تشيكيطو إن المواطن “بلغ مرحلة من اليأس دفعته إلى سلوك مأسوي، احتجاجًا على ما وصفه بالوفاة الغامضة لوالده”، متسائلًا عن سبب غياب أي مبادرة جدية لإعادة فتح تحقيق نزيه وشامل في القضية خلال الأيام الأولى من الاعتصام، ومحاولة إقناعه بالنزول بطرق حوارية ومؤسساتية.
كما أعرب رئيس العصبة عن استغرابه للطريقة “الهاوية” التي تم بها التدخل لإنهاء الاعتصام، وهو ما أدى إلى تعريض حياة رجل إطفاء للخطر، معتبرًا أن الحادث “يكشف مرة أخرى غياب الانفتاح على الوسائل والتقنيات الحديثة في التعامل مع الأوضاع الحساسة، ويستوجب مساءلة من أشرف على العملية”.
أزمة ثقة
وأوضح تشيكيطو أن الرسالة الأخطر في هذه الواقعة تتجلى في الإحساس العميق باللاعدل وسيادة الظلم، الذي أصبح شعورًا متجذرًا لدى فئات واسعة من المواطنين، حتى في الحالات التي قد لا تتوفر فيها مؤشرات موضوعية على وجود ظلم فعلي، مضيفا أن هذا الإحساس “يتغذى من خيبات الأمل المتراكمة، وغياب الشفافية، وضعف الثقة في المؤسسات، وندرة العدالة الاجتماعية المتوازنة”.
وأكد المتحدث أن أزمة الثقة هذه لا يمكن معالجتها فقط بتوفير المعطيات أو إصدار بيانات نفي، بل عبر بناء علاقة مؤسساتية قائمة على احترام الكرامة، وفعالية الآليات، واستقلال القرار.
وخلص تشيكيطو إلى التشديد على أن “العدالة يجب ألا تُمارَس فقط، بل يجب أن تُرى وتُحَسّ، وإلا فإن الإحساس باللاعدل سيتحول إلى قناعة جماعية تفرغ القانون من روحه، وتفتح الباب أمام مظاهر احتجاج متطرفة وخطيرة، كما وقع في حالة المواطن بجماعة أولاد يوسف”.
صـدمة الفقد
وتعليقا على الموضوع، اعتبرت الأخصائية النفسية والباحثة في علم النفس الاجتماعي، بشرى المرابطي، أن الحالة النفسية لهذا الشخص، لا تدخل ضمن الاضطرابات النفسية المرضية، وإنما تندرج ضمن ردود الفعل النفسية الناتجة عن صدمة الفقد المفاجئ، وهي حالة طبيعية يمكن أن تُنتج سلوكيات غير مألوفة.
وأوضحت المرابطي في تصريح لصحيفة “صوت المغرب” أن صدمة الفقد المفاجئ تُعد من أكبر الصدمات النفسية التي قد يواجهها الإنسان، وقد تزداد حدتها عندما يكون الراحل إنسانا عزيزا وتربطه علاقة قوية بالمريض، مشيرة إلى أن هذه الصدمة تتفاقم أكثر حين يكون المستوى التعليمي ضعيفًا، أو عندما تُحيط بالوفاة ملابسات غامضة، أو حين يكون الوعي المجتمعي محدودًا.
وأكدت الأخصائية النفسية أن غياب المعلومات الكافية والواضحة من الجهات الرسمية التي كان يشتغل بها والد الهالك، لعب دورًا كبيرًا في تفاقم حالته النفسية، ما دفعه إلى اختيار هذا الشكل من الاحتجاج.
وأضافت أن السياق الثقافي والاجتماعي يلعب هو الآخر دورًا حاسمًا في كيفية تعبير الأفراد عن مآسيهم، خصوصًا في البيئات القروية التي يغيب فيها اللجوء إلى المساطر القانونية، ويُستعاض عنها بأشكال احتجاجية تلقائية مثل الصراخ أو الاعتصام.
وشددت المرابطي على أن الحل كان ممكنًا وبسيطًا، لو قامت الإدارة المعنية بتوفير معطيات دقيقة وتوضيحات رسمية بشأن ملابسات وفاة الأب، وهو ما كان سيساعد ابنه على تقبّل الواقعة وتجاوز الصدمة تدريجيًا.
وخلصت الأخصائية النفسية إلى أن حوارًا مباشرًا، مسؤولًا وإنسانيًا، كان كفيلاً بتجنب هذه المأساة، “لأن ليس كل إنسان يملك النفس الطويل أو الأدوات القانونية للاحتجاج، بل يعبّر بوسائله المحدودة وفق بيئته وتكوينه”.