عثمان ديمبيلي.. الولد الذي كاد أن يضيع

في ملعب أليانز أرينا بمدينة ميونيخ، ووسط أجواء الفرح العارم لجمهور ولاعبي نادي باري سان جيرمان الفرنسي بالفوز بلقب تاريخي لكأس دوري أبطال أوروبا، إنتبهت عدسات المصورين التي كانت تراقب نجم “البي إس جي” عثمان ديمبيلي، إلى احتضانه لشابة وطفلة صغيرة نزلت بهدوء من منصة المدعوين إلى أرضية الملعب لمشاركة اللاعبين الباريسيين فرحتهم بلقب طال انتظاره.
لم تكن تلك الشابة سوى زوجة ديمبيلي المغربية ريما إيدبوش عارضة الأزياء وصانعة المحتوى الشهيرة على وسائل التواصل الإجتماعي. والطفلة الصغيرة التي كانت برفقتها هي باكورة زواجهما في عام 2021 . كان إجماع المعلقين على تلك اللقطة في مختلف الصحف والقنوات التلفزيونية العالمية، هو الإشارة لريما كالسر الذي غير حياة اللاعب السابق لبرشلونة نحو الأفضل، ومنحته استقراره النفسي والعاطفي، وشكلت له دعما مهما للتخلص من سلوكاته غير المنضبطة التي كانت تؤثر سلبا على مستواه الكروي.
قصة المسار الرياضي المليئ بالصعود والنزول الذي عاشه النجم الفرنسي أوصمان ديمبيلي في أندية مختلفة جديرة بالإهتمام، وكيفية تحوله من لاعب غير مرغوب فيه في برشلونة إلى نجم في باريس كل الترشيحات تمنحه جائزة أفضل لاعب في العالم لهذه السنة، فيها الكثير من التفاصيل الملهمة التي يتحدث الجميع عنها ببالغ الإعجاب والإحترام.
طفولة بئيسة
فيرنون، بلدة صغيرة شمال فرنسا لا يتجاوز عدد سكانها 25 ألف نسمة حسب الإحصاءات السكانية الرسمية، هي مسقط رأس عثمان ديمبيلي، الذي وُلد في 15 ماي 1997. هو ابن لأب مالي وأم فرنسية من أصول موريتانية وسنغالية. وكما هو حال العديد من نجوم كرة القدم الذين عرفوا النجاح لاحقًا، عاش “البعوضة” طفولة صعبة ومليئة بالحرمان، لكنه كان ينسى كل شيء عندما يلمس الكرة.
قال ديمبيلي في مقابلة مع القناة الرسمية لنادي برشلونة: “كنت ألعب في الشوارع في حي فقير مليء بالإجرام، لكن الآن كل شيء على ما يرام. كنا أنا وأصدقائي نحب لعب كرة القدم، وكان هذا أكثر ما أحب فعله في طفولتي.”
وأضاف: “في سن العاشرة كنت ألعب كرة الصالات، وهي لعبة صعبة إن لم تكن لديك المهارات، وكان عليّ أن أتعلم. في ذلك الوقت بدأت ألعب أيضًا في ملاعب كبيرة لكن بفرق مكونة من 7 لاعبين.”
بدأ ديمبيلي مشواره الكروي في نادي مادلين إفرو، لكنه لم يمكث هناك أكثر من عام. ثم في 2010، انضم إلى أكاديمية نادي رين، حيث تطور ليصبح لاعبًا محترفًا. سرعته، تقنياته، وقدرته على المراوغة كانت تبرز بقوة في الفئات السنية للنادي الفرنسي. وبكل هذه الخصائص، لم يكن من المفاجئ أن يصعد بسرعة إلى الفريق الأول.
جوهرة في نادي رين
بدأت مسيرته المتألقة في فريق رديف رين، حيث خاض أول مباراة له في دوري الدرجة الثالثة الفرنسي في شتنبر من عام 2014. ورغم مستواه المميز، واجه مشكلات تعاقدية كادت أن تؤدي إلى رحيله نحو نادي ريد بول سالزبورغ، إلا أن الأمور سُوّيت في النهاية لصالحه، ليستمر في مسيرته مع “الرينوا”.
قال مدربه السابق في رين، فيليب مونتانيي، في تصريح لصحيفة “دياريو فاسكو” الإسبانية: “كان وقتًا صعبًا بالنسبة له وللنادي بسبب عرض من سالزبورغ. بدأ التحضيرات معنا، لكنه لم يلعب لمدة ثلاثة أشهر إلى أن وقّع عقده. بعد ذلك، شارك لأول مرة معي في الفريق الأول. لم يكن بيننا أكثر من أربعة أو خمسة أشهر، لكني أحتفظ بذكريات جيدة معه.”
منذ مباراته الرسمية الأولى في نونبر 2015 أمام أنجي في الدوري الفرنسي، برز ديمبيلي كلاعب فريد. وبعد أسبوعين فقط، سجل هدفه الأول ضد بوردو. في موسمه الوحيد مع رين، أنهى الموسم بـ12 هدفًا و5 تمريرات حاسمة، ليصبح أحد أبرز المواهب الصاعدة في فرنسا. وأضاف مونتانيي:
“كان يفعل أشياء لا يفعلها غيره. لديه تلك القدرة على زعزعة توازن دفاعات الخصوم. قلائل من يمتلكونها. كما أنه يحب اللعب الجماعي. إنه لاعب متكامل. لديه شخصية قوية. أعتقد أنه قادر على تحقيق الكثير لأنه مصمم ومثابر، ويعرف جيدًا ما يريد.”
“الفتى المعجزة” في دورتموند
لفتت عروض ديمبيلي القوية مع رين أنظار كبار الأندية الأوروبية. ومن بينها نادي بوروسيا دورتموند، الذي نجح في التعاقد معه مقابل 15 مليون يورو في 12 ماي 2016. صفقة كانت تبدو زهيدة مقارنة بالمبلغ الذي سيبيعه به بعد عام.
خاض أول مباراة رسمية مع دورتموند في غشت 2016 أمام بايرن ميونخ في كأس السوبر الألماني، والتي خسرها فريقه 2-0. وبعدها بشهر تقريبًا، سجل أول أهدافه في البوندسليغا ضد فولفسبورغ في فوز كاسح 5-1. أنهى موسمه الوحيد في ألمانيا بـ10 أهداف في 49 مباراة بجميع المسابقات.
“البعوضة” بـ145 مليون يورو
حين تعاقد برشلونة مع عثمان ديمبلي في صيف 2017 مقابل أكثر من 100 مليون يورو قادمًا من بوروسيا دورتموند، كانت الآمال معلقة على موهبة استثنائية لتعويض رحيل نيمار دا سيلفا، لكن سريًعا، تحولت هذه الآمال إلى خيبات، بعدما دخل اللاعب الفرنسي في دوامة من الإصابات المتكررة، تارة في العضلات وتارة أخرى في أوتار الركبة، مما أدى إلى فقدانه الاستمرارية والتأثير على أرضية الملعب.
لم تقتصر أزمات ديمبلي على الجانب البدني فحسب، بل امتدت إلى الجوانب الانضباطية. ففي أكثر من مناسبة، تأخر عن التدريبات، أو تغيب دون إذن مسبق، وسط تقارير عن أسلوب حياة غير احترافي، وتأثره بالعزلة الاجتماعية، لا سيما في بداياته مع الفريق الكتالوني.
ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين ديمبلي وبرشلونة في موسم 2021-2022، حين دخل اللاعب في أزمة تجديد عقده، ورفض عرض الإدارة لأشهر طويلة، ما دفع المدير الرياضي وقتها ماتيو أليماني إلى تهديده علنًا بضرورة “الرحيل أو التجديد فورًا”.
وعلى الرغم من تدخل المدرب تشافي هيرنانديز لإعادة ديمبلي إلى التشكيلة الأساسية، فإن التوتر ظل قائمًا، خاصة بعد تصريحات مقربين من اللاعب بأن النادي يتعامل معه باعتباره صفقة فاشلة.
وفي صيف 2023، استغل باريس سان جيرمان بندًا جزائيًا في عقد ديمبلي، وقدم عرضًا بقيمة 50 مليون يورو، ما فتح باب الخروج أمام اللاعب الذي شعر بأن بقاءه في برشلونة لم يعد مرغوبًا فيه.
لاحقًا، صرّح ديمبلي في مقابلة صحفية بأنه “كان محاطًا بجو مسموم” داخل البارصا، وأشار إلى أن رحيله كان “خيارًا صحيًا” لمسيرته المهنية.
بطل العالم في روسيا 2018
مثل ديمبيلي فرنسا في مختلف الفئات العمرية (تحت 17، 18، 19، و21 عامًا). وشارك لأول مرة مع المنتخب الأول في شتنبر 2016 ضد إيطاليا، وسجل أول أهدافه في 13 يونيو 2017 ضد إنجلترا (3-2). وتصل اليوم إلى ستة أهداف بقميص “الديكة”.
كما شارك في كأس العالم روسيا 2018، حيث توج باللقب بعد الفوز على كرواتيا في النهائي. بدأ كأساسي في مباراتين من دور المجموعات، ثم لعب دقائق قليلة في ربع النهائي أمام الأوروغواي.
أسلوب حياة مثير للجدل
يمتلك ديمبيلي كل مقومات النجم العالمي، لكن سلوكه خارج الملعب يهدد مستقبله المهني. قال طباخ برشلونة السابق ميكائيل نايا لصحيفة “لو باريزيان”:
“إنه شاب طيب، لكنه لا يسيطر على حياته. يعيش دائمًا مع عمه وصديقه المقرب، ولا أحد يجرؤ على توجيهه.”
ومنذ بداياته في رين، لم يعرف عنه الالتزام والانضباط. توماس توخيل، مدربه في دورتموند، اشتكى من تأخره المستمر عن التدريبات، ووصف هذا السلوك بالمزعج. كذلك، انتقده مدرب فرنسا ديدييه ديشان علنًا، ونصحه بالانضباط خارج الملعب.
لم تكن انتقادات ديشان كافية، فحتى زملاؤه في برشلونة تحدثوا عن عدم التزامه. من تأخر في الحضور، إلى عدم اتباع نظامه الغذائي، والسفر المفاجئ قبل مباريات مهمة، والتغيب عن الأنشطة الإعلانية للنادي.
التوهج في باريس
في باريس، بدا وكأن ديمبلي قد وُلد من جديد. منذ انتقاله إلى صفوف نادي العاصمة الفرنسية، وتحت قيادة المدرب الإسباني لويس إنريكي، استعاد اللاعب كامل بريقه.
لم يعد ذلك الجناح الذي يكتفي بالمراوغات، بل أصبح صانع لعب من الطراز الرفيع، يقود الهجمات، يسجل، ويصنع، ويتحكم في إيقاع اللعب. في الموسم الحالي، لعب ديمبلي دورًا محوريًا في قيادة باريس سان جيرمان إلى لقب دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخه، بعد أداء مبهر في الأدوار الإقصائية. حيث سجل ديمبلي هذا الموسم 35 هدفًا وصنع 13 هدفًا في مختلف البطولات، منها 21 هدفا في الدوري الفرنسي، و8 أهداف في دوري أبطال أوروبا ، وهدف واحد في كل من كأس فرنسا وكأس السوبر. أرقام لم يسبق له تحقيقها في مسيرته، مما يعكس النضج الفني والتكتيكي الذي بلغه مع سان جيرمان.
المنافسة على الكرة الذهبية
ما يُميز موسم عثمان ديمبلي الحالي ليس فقط الأرقام، بل الصورة الذهنية التي بات يمثلها. بعدما كان مادة دسمة لانتقادات الصحافة والجماهير بسبب إصاباته وسلوكياته، أصبح اليوم يُضرب به المثل في العودة القوية والانضباط الذهني، حتى أن مدربه في باري سان جيرمان لويس إنريكي، أشاد به كثيرا في جانب الإنضباط لطريقة اللعب المرسومة، ولركضه المستمر لاستخلاص الكرة من المدافعين وممارسته الضغط المتقدم عليهم.
بعد نهائي ميونيخ والفوز بلقب دوري أبطال أوروبا، وسائل الإعلام الفرنسية والخبراء والمحللين، أجمعوا على أن عثمان ديمبيلي بات أقوى المرشحين للفوز بالكرة الذهبية خلال سنة 2025.. هم يروها كجزاء مستحق للاعب اشتغل على نفسه كثيرا ليصحح أخطاءه، وليغير نمط حياته العابثة إلى شخص محترف ومسؤول يقدم أفضل ما لديه من موهبة ومن إمكانيات تقنية مبهرة.