story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فخ الهويات ومأزق الإصلاح

ص ص

عشت هذا الخميس 26 يونيو 2025، يوما مكتنزا أكثر مما تحتمل الأعصاب. يوما بوزن بلد بأكمله.

لا أدري إن كنت قد عشتُ مشاهد متفرقة من حاضر مغربي متصدع، أم أنني، دون أن أدري، كنتُ أتنقّل بين طبقات الجيولوجيا العميقة لهوية هذا الوطن، بتصدعاتها، وشروخها، وأحلامها المؤجلة.

بدأ اليوم بتداعيات خبر أشعل فضاء الجامعة: أساتذة علم الاجتماع يعلنون مقاطعة المنتدى العالمي للسوسيولوجيا الذي تستضيفه الرباط، احتجاجا على مشاركة أكاديميين من جامعات صهيونية.

كان البيان واضحا كطلقة مسدّس: “لن نكون شهود زور في زمن الإبادة”.

الجامعات الإسرائيلية التي سيحضر ممثلوها ليست مؤسسات أكاديمية محايدة، بل مصانع تبرير علمي لجرائم الاستعمار، متواطئة مع جيش الاحتلال، ومع هندسة الفصل العنصري في فلسطين.

لم يكن هذا حدثا عابرا. بل كان مرآة تُعيد طرح سؤال أكثر إيلاما:
هل يمكن للأكاديمي أن يكون محايدا في زمن الإبادة؟
وهل بوسع المعرفة أن تكون بريئة عندما تُبنى فوق أنقاض الضحايا؟

قبل أن أفيق من وقع هذا السؤال، وجدتني غارقا بين صفحات تقرير أصدره المجلس الأعلى للتربية والتكوين، يفترض أنه رأي تقني في مشروع قانون التعليم العالي، لكنه بدا، في عمقه، شهادة فنية على فشل الدولة في كتابة فصل من عقد اجتماعي جديد لمستقبل المغرب.

بلغة لا تحتمل اللبس، قال التقرير ما معناه: المشروع يفتقر إلى الرؤية. ولا يحمل أي تصور سيادي حقيقي. لا توجد فكرة واضحة عن الجامعة بوصفها قاطرة للسيادة الفكرية والرقمية في عالم ينهار من فرط اللايقين والاضطرابات الجيوسياسية. مشروع استجابة آنية، لا مشروع استباق لمستقبل.

التقرير، في جوهره، يقول لمعدّي المشروع: أنتم لا تديرون مجرد مدارس وكليات، أنتم تديرون بقاء الأمة ذاتها. لكن المأساة أن من كتب المشروع يتعامل مع الجامعة كما لو كانت مجرد مرفق عمومي لإنتاج شهادات، لا بوصفها آلة لصناعة النخب، ومصفاة للعقول، ومختبرا لبناء سيادة وطنية قادرة على الصمود في عالم لا يرحم الضعفاء.

ثم يزيد التقرير الطين بلة حين يذكّر، بحياء لكن بصلابة، أن عشر سنوات مرت على إصدار الرؤية الاستراتيجية، وست سنوات على صدور القانون الإطار، ومع ذلك فإن المشروع الجديد لا يبدو سوى إعادة تدوير لبنيات تخشى أن تنظر في عيون المستقبل، فتكتفي بمواجهة واقع مفكك، بنفس الأدوات الصدئة التي فشلت أصلا في إصلاحه.

لا أثر في المشروع لأي وعي بأن الجامعة اليوم ليست مبان ومدرجات، بل شبكة متكاملة تربط البحث بالابتكار، وبالاقتصاد، وبالسياسة، وبالثقافة، وبالتكنولوجيا، وبالسيادة الرقمية، وبقدرة الأمم على إنتاج معرفتها، وحماية بياناتها، وتصميم مستقبلها بيدها لا بأيدي الآخرين.

بعد الزوال، وجدتني أجلس في مدرّج عبد الرزاق مولاي رشيد في كلية الحقوق “السويسي” بالرباط، أتابع درسا باذخا ألقاه أستاذ القانون الدستوري محمد المدني، عن الدستور والممارسة السياسية في المغرب.

كان الدرس عميقا، ومؤلما، وصريحا إلى حد لا يتحمّله من تعوّدوا على سكر الخطابات الرسمية، لأنه يقدّم جوابا مرّا عن سؤال لماذا فشلنا في تحويل لحظة “الربيع العربي” إلى بداية سير جماعي نحو الديمقراطية.

قال الأستاذ المحاضر شيئا جوهريا: دستور 2011 ليس نصا سماويا. ولم يكتبه أرسطو، ولا روسو… بل كتبته معارك فاعلين، كلٌّ منهم جرّه نحو خندقه. إنه وثيقة أنتجها لحظة حراك سياسي، ووُضعت تحت ضغط حركة الشارع، وتوازنات قوى غير متكافئة، ومعارك تأويلات متضادة.

هو دستور “توفيقي” يقول الأستاذ المدني، يجمع في طياته فتوى المؤمن، مع قاعدة المواطن. ويضع الدولة الرعوية جنبا إلى جنب مع دولة القانون. وداخل طياته تتصارع السيادة الروحية مع السيادة الشعبية. إنه دستور يؤجّل الأسئلة ولا يجيب عنها.

غادرت الدرس وأنا أردّد في سرّي: وهل ما زال ممكنا إصلاح دولة تُدار بدستور لا يعرف نفسه؟

لكن اليوم لم ينتهِ بعد. بعد بضع دقائق، كنت في قاعة بمقر حزب التقدم والاشتراكية، حيث كان المفكّر والأديب ورجل الدولة السابق، حسن أوريد، يقدّم كتابه الجديد: “فخّ الهويات”.

بصوته الهادئ كعادته، قال أوريد جملة ظلت تطاردني حتى الآن: “التطلعات الهوياتية تبدأ بتمجيد الذات.. ثم تنتهي عند شيطنة الآخر.”

ثم مضى يُفكّك هذا الفخ الرهيب: كيف يتحول الشعور بالانتماء إلى قنبلة موقوتة؟ كيف يصبح الدفاع عن الذات بداية لمشوار استعداء العالم؟ وكيف يمكن أن يتحوّل الخطاب الهوياتي إلى سلاح ضد الوطن نفسه إذا لم يُؤطر بعقد اجتماعي جامع، يحتفي بالاختلاف بدل أن يلعنه؟

شعرت لحظتها أن كل الخيوط تتقاطع. مشهد المقاطعة الأكاديمية ضد التطبيع لم يعد مشهدا معزولا. بل صار جزءا من سؤال أكبر:
من نحن في هذا العالم الذي ينفجر من حولنا؟
ما معنى أن تكون مغربيا في زمن الانهيارات؟
هل نحن مجتمع يبحث عن نفسه وسط خطابات هوية قاتلة؟

أم أننا أمة فشلت، بكل بساطة، في إنتاج عقد اجتماعي جديد يُوزع الحقوق والواجبات، ويحمي التنوع، ويصنع مستقبلا؟

تأملت المشهد أكثر.. وإذا بي أستعيد صوت محمد المدني وهو يقول إن دستور 2011 ليس دستور مواطنة، بل دستور توفيقي، يعيش على تأجيل الأسئلة الصعبة. ثم استعدت صوت أوريد وهو يقول إن خطاب الهوية قد يتحول إلى فخّ قاتل إذا لم يحتكم إلى عقد جامع… واستعدت أيضاً أصوات أساتذة علم الاجتماع وهم يصرخون ضد تطبيع المعرفة مع العنصرية والإبادة…

كلها أصوات تصرخ بنفس الشيء وإن لم تتفق على نفس اللغة: المغرب يعيش في فخّ الهوية، وفخّ دستور مؤجّل، وفخّ إصلاح لا يريد أن يولد.

وبين هذه الفخاخ الثلاثة، يظل السؤال مُعلّقا فوق الرؤوس كسيف ديموقليس:

هل نملك ما يكفي من الشجاعة لكتابة صفحة جديدة؟ أم سنبقى سجناء دستور موقّت، وهوية متفجرة، وإصلاح بلا بوصلة… إلى أن يهوي السقف على رؤوس الجميع؟