إيران وإسرائيل.. حربهم وحساباتنا

بعض الحروب تنتهي كما بدأت: بوساطة، أو بضربة خاطفة تعود الأطراف بعدها إلى قواعدها منتشية أو جريحة. لكنّ هناك حروبا لا تكتفي بتغيير ميزان القوى، بل تغيّر روح الإقليم، ووجه الجغرافيا، وبوصلة الشعوب.
الحرب التي انفجرت هذا الأسبوع بين إيران وإسرائيل، ليست مجرّد مواجهة عسكرية، بل بوابة مفتوحة على شرق أوسط جديد.
إنها لحظة الحقيقة لكل من راهن على الزمن، ولكل من اختبأ وراء الحياد، ولكل من توهّم أن التوازن قابل لإعادة التدوير بعد كل انفجار.
السيناريوهان الوحيدان المطروحان على المدى القريب هما: انتصار إيران، أو انتصار إسرائيل. وما بينهما، مجرد تأجيل لمعركة أخرى، أو استراحة محاربين على مائدة مفخخة.
والمغرب، كغيره من دول الإقليم، لا يملك ترف تجاهل نتائج هذه الحرب، ولا رفاهية الادعاء بأن الأمر لا يعنيه. فكل مسار من المسارين، سواء انتصار طهران أو تل أبيب، سيترك آثارا تمس موقع المغرب، وخياراته الخارجية، وعلاقاته الإقليمية ،والدولية.
إذا انتصرت إيران، فلن يكون ذلك مجرد إنجاز عسكري عابر، بل لحظة تصعيد كبرى لمحور “الممانعة” بكل رموزه، من لبنان إلى اليمن، ومن غزة إلى النجف. وسيُقدَّم هذا الانتصار على أنه انتصار لـ”الإسلام المقاوم”، في مقابل إسلام رسمي ارتضى الصمت أو التحالف مع واشنطن وتل أبيب، ما سيعيد خلط الأوراق عقائديا وجيوسياسيا في عموم المنطقة.
غير أن المغرب لم يكن يومًا معنيًا بفكرة “تصدير الثورة” التي تقوم عليها العقيدة السياسية للنظام الإيراني، لأنّ تلك الفكرة وُضعت أصلا لتحاكي جغرافيا الشرق الأوسط، لا غربه.
فإيران الثورية لم تسع إلى اختراق الأنظمة الرسمية فحسب، بل بنت رؤيتها التوسعية على ركيزة دعم الأقليات الشيعية في محيطها العربي، مستغلة هشاشة السلطة أو ضعف الدولة في مناطق معينة لزرع أذرعها المحلية، وهو ما يجعل المغرب ببساطة خارج هذا السياق، لسببين جوهريين: الأول، هو غياب الشيعة كمكوّن طائفي أو مجتمعي في المغرب يمكن أن يُوظَّف في هذا الصراع المذهبي؛ والثاني، هو أن الإسلام المغربي لم يكن يوما في موقع عداء تجاه التشيع في عمقه الرمزي والديني.
المغاربة لا ينظرون إلى التشيع من زاوية الصراع العقائدي، لأنهم يرون في ملكهم “سبط” النبيّ عليه الصلاة والسلام، ويمنحونه بذلك شرعية دينية لا تقل رمزية عن أية شرعية “علوية” في المشرق.
ثانيا، لأن الإسلام المغربي مُطعَّم منذ قرون بحس صوفي عميق يُقارب الدين من زاوية المحبة لا المذهب، ويحتفي بالمولد النبوي، ويُعظّم المناسبات المرتبطة بآل البيت، ويزور الأضرحة، ويقدّس الأولياء؛ وهي جميعا مظاهر روحية يُصنّفها بعض فقهاء السلفية باعتبارها من أصول “شيعية”، بينما هي في المغرب جزء من الثقافة الدينية الجامعة.
لذلك، فإن “العداء” للمذهب الشيعي في المغرب لم يكن يوما نابعا من وجدان مجتمعي، بل كان في الغالب موقفا سياسيا رسميا في سياق الحفاظ على التوازنات الجيوسياسية. بل إن الدولة المغربية نفسها كانت شيعية في بعض الفترات، ولتراجعوا كتاب “تاريخ المغربي تحيين وتركيب” وهو مؤلف جماعي أشرف عليه محمد القبلي وأصدره المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب.
مع ذلك، فإن انتصار إيران سيكون دعوة مفتوحة لمراجعة هذا التموضع، ليس لأن التشيّع قد يجد له موطئ قدم في المغرب، بل لأن منطق الحرب العقائدية حين ينتصر، يُصبح من الصعب تجاهله أو عزله خلف الجبال.
ستُفرض علينا تحديات أكبر من مجرد ضبط خطاب أو مراجعة موقف، بل سيتعيّن علينا إعادة هندسة موقعنا في شبكة التحالفات الإقليمية، وموقعنا من المواجهة بين مشاريع متصارعة: مشروع الدولة الوطنية في بعدها المؤسساتي، ومشروع الثورة الإسلامية في بعدها العقائدي العابر للحدود.
أما إذا انتصرت إسرائيل، فسنكون أمام شرق أوسط جديد يُكتب بالحبر الصهيوني، وتُرسّم خرائطه من داخل الغرف المشتركة بين تل أبيب وأبو ظبي وواشنطن، حيث تتحول تل أبيب من مجرد كيان مُعترف به إلى مرجعية أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية في آن واحد.
الانتصار هنا ليس عسكريا فقط، بل هو تثبيت لقيادة إقليمية جديدة، تُدار من فوق الطاولة وتحتها، وتعيد صياغة كل المعادلات التي ظلت حاكمة للمنطقة منذ قرن.. “سنقوم بجمع الجزية من العرب مباشرة بدل المرور عبر الوساطة الأمريكية” يقول مدوّن إسرائيلي عبر حسابه واسع الانتشار في منصة “إكس”.
سيدفع الانتصار الإسرائيلي في هذه الحرب قطار التطبيع إلى سرعات قياسية، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل في شكل تحالفات صلبة تُقصي من لا يلتحق بها، وتعاقب من لا ينضبط لمنطقها.
لكن هذا “الشرق الأوسط الإسرائيلي”، أو ما يصفه البعض ب”الزمن الإسرائيلي” لن يتوقف عند حدود توقيع اتفاقات وتبادل سفراء؛ بل سيعيد تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والوطنية في كل دولة عربية.
انتصار إسرائيل في هذه الحرب، سيفتح باب التفكيك من الداخل، بدءا بإيران التي ستُستباح قوميا وطائفيا تحت لافتة “نزع أنياب النظام”، وقد تُغرى القوى الغربية، بل وحتى بعض العرب، باستنساخ التجربة في دول أخرى تحت عناوين براقة مثل “مكافحة الأنظمة المارقة”، أو “تمكين الشعوب من تقرير مصيرها”، أو “حماية الأقليات المضطهدة”. وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
بالنسبة للمغرب، فإن من يعتقد أن انتصار إسرائيل في هذه الحرب سيكون مجرد ربح لحليف خارجي، يخطئ التقدير. فالأرجح أن ثمن هذا الانتصار سيدفعه الجميع، بما فيهم الحلفاء.
من يتحكم في قواعد اللعبة يُمكنه تعديلها متى شاء، ومن يملك خريطة الطريق يُمكنه أن يوزع الأدوار كما يشاء. والمغرب، الذي لطالما اعتبر ملف وحدته الترابية إحدى أولوياته السيادية، قد يجد نفسه أمام معادلة معكوسة: بدل أن يكون التحالف مع إسرائيل وأصدقائها رافعة لدعمه في ملف الصحراء، قد يُستعمل الملف ذاته أداة ابتزاز لإجباره على مواقف تمسّ جوهر سيادته واستقلالية قراره.
ولا يقتصر الأمر على الخارج فقط. فحين تسود عقلية التفكيك تحت غطاء الحقوق، تُصبح التطلعات الثقافية والحقوقية القائمة على أسس لغوية أو جهوية بمثابة قنابل نائمة، تنتظر فقط لحظة التفعيل. وكلما تعاظمت الهيمنة الإسرائيلية الجديدة، كلما قويت شهية القوى الكبرى في توظيف هذه الأجندات داخل دول لم تُعد تملك ترف مقاومة الضغوط.
عندها، لا قدّر الله، سيجد المغرب نفسه في وضع بالغ التعقيد: بين إغراء الاصطفاف مع المنتصر، ومخاطر التفريط في خصوصياته الوطنية، واستقلاله السياسي، وهويته الجماعية.
لكن الأهم من النصر والهزيمة هو الثمن. ومن حارب ليس كمن لم يحارب.
فإسرائيل، سواء انتصرت أو انهزمت، ستخرج من هذه الحرب بجرأة أكبر على التدخل، ونزوع أقوى لفرض نفسها طرفا مقرّرا في مصير شعوب المنطقة.
وإيران، حتى وإن بدت مثخنة بالجراح، ستخرج بما يكفي من القوة لإبقاء نفسها في موقع المشاكس الإقليمي طويل النفس.
أما البقية، ومنهم المغرب، فسيُدفعون إلى إعادة تقييم موقعهم من الخريطة الجديدة. والسؤال المصيري سيكون: هل نستمر في الاعتماد على شرعيات قديمة أكل عليها الزمن وشرب؟ أم نعيد تموضعنا وفق مصالحنا الحيوية وحدود تأثيرنا الواقعي، دون أن نتحول إلى ملحق بأي قوة كانت، لا شرقية ولا غربية؟