حرب أوكرانيا ستستمرّ.. وحنا “في عار الله”

لماذا تتعثر “مجهودات” ترامب في حل الحرب الروسية الأوكرانية؟ من المعلوم أن التصريحات السياسية والدبلوماسية على المستوى الدولي (وأحيانا حتى على المستوى الوطني)، عادة ما تكون موجهة للمعنيين بها بشكل حصري، ولذلك لا يجد فيها عامة الناس شيئا استثنائيا، ولا يفهمونها.
تُكرر القيادات الروسية، من بوتين إلى مدفيدف وشويغو وغيرهم، منذ شروع ترامب في ولايته الثانية وبداية التعاطي مع النزاع ومحاولة حله أو ادعاء ذلك على الأقل، أن أي اتفاق بين روسيا وأوكرانيا يجب أن يكون قادرا على الاستمرار والثبات على المدى الطويل، وهذا كما يبدو من الوهلة الأولى تصريحا عاديا.
لكن ما الذي نعتبره غير عاد بشأن هذه التصريحات وما الذي يخفيه؟
دعونا، لفهم ذلك، نعود بعض الشيء إلى الوراء والتذكير بما قلناه قبل غيرنا ونؤكده اليوم، أن ما يقوم به ترامب فعليا، مسنودا بمنظومة واسعة من الداعمين، ليس أقلهم إيلون ماسك، هو محاولة تفكيك الدولة الأمريكية العميقة وبناء دولة أمريكية جديدة ببنية سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة، وتوجّهات مختلفة في مجالات السياسة الخارجية، قوامها التركيز على بناء الولايات المتحدة من الداخل طبقا لشعاره “أمريكا أولا “.
هذه بالنسبة للروس إشكالية كبرى وتحدي عظيم، لأن موسكو، التي تبدو غير مستعجلة من أمرها في حل نزاعها مع كييف، ولا تبدي حماسا كبيرا في التعاطي مع اقتراحات ومبادرات ترامب، إنما تنهج في واقع الأمر سياسة التريث، أو ما يصطلح عليه بالصبر الاستراتيجي، لمعرفة مآلات هذه الحرب الطاحنة التي يخوضها الرئيس الأمريكي ضد الحرس القديم في واشنطن. ولا تريد موسكو الانخراط في أي حل أو تصور غير مضمون وغير قابل للاستمرار طويلا، لأن مآلات الأوضاع في أوكرانيا مسألة حيوية جدا بالنسبة للروس وتتعلق بالأمن القومي الروسي وببقاء واستمرار الدولة الروسية نفسها أو تفكيكها واندثارها .
تنتظر موسكو إذا معرفة لمن ستحسم معركة كسر العظام بين طرفي الصراع في واشنطن، ولتوضيح ذلك دعونا نطرح السؤال التالي: ماذا لو انخرط بوتين في مقترحات ترامب، وقام بالتوقيع على اتفاق سلام وإنهاء للنزاع مع أوكرانيا، وسحب جيشه ومعداته ورفع الضغط عن كييف والدول الغربية المساندة لها ثم تمت بعد ذلك إزاحة هذا الأخير (ترامب) من طرف الدولة العميقة في واشنطن؟
قد يصبح عمليا أي اتفاق يتم توقيعه لاغيا أو مجمدا، وقد أخذت روسيا العبرة من الخديعة التي تعرضت لها من طرف باريس وبرلين بعد التوقيع على اتفاق مينسك، حيث ستتجدد التحديات الأمنية فورا بالنسبة لروسيا، والتي ستكون قد فقدت عوامل انتصارها وتقدمها في حربها الحالية مع أوكرانيا، وستجد نفسها مضطرة للعودة إلى النزاع المسلح ضد كييف، لكنها المرة لن تستفيد من عنصر التقدم والمفاجأة الذي كان لديها سابقا، لأن أوروبا والغرب بشكل عام سيكونون قد قاموا بتحسين مواقعهم ووضعهم الميداني بما يعقّد كثيرا من مهمة موسكو وربما ينتهي بهزيمتها بعدما كانت (كما هو الحال اليوم) منتصرة.
الروس ليسوا من طينة الزعماء العرب الذين يمكن التلاعب بهم والضحك عليهم بسهولة بمجرد طبطبة أو ابتسامة أو أشياء أخرى. والتفكير الاستراتيجي الروسي يأخذ بعين الاعتبار المصالح الحيوية للبلاد على المدى الطويل والطويل جدا، وقد فشلت الدول الغربية دائما في الإطاحة بروسيا أو احتلالها، سواء تعلق الأمر بالحروب الصليبية الشمالية التي لم تفلح في إخضاع روسيا وتغيير عقيدتها المسيحية، مرورا بفرنسا في عهد نابليون الذي انهزم أمامهم، أو هتلر الذي اندحر بسببهم، أو بالإمبراطورية السويدية قبل ذلك حين كانت السويد تسود أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
هذه النظرة الاستراتيجية بعيدة المدى التي طبعت التفكير السياسي الروسي منذ زمن بعيد، هي التي تميز اليوم التعاطي الروسي مع النزاع الأوكراني الذي تريد من خلاله موسكو أن تفرض على الغرب (وهي قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا المبتغى) اتفاقا سياسيا وأمنيا يضمن لها استقلالها واستمرارها وازدهارها.
لذلك تنتظر موسكو بهدوء، معرفة من سيفوز في المواجهة التي تجمع بين ترامب والدولة الأمريكية العميقة، من أجل الاتفاق والتوقيع مع الطرف الذي بإمكانه ضمان استمرار أي اتفاق ينهي أسباب الحرب الأوكرانية، وليس فقط المواجهة العسكرية الدائرة حاليا هناك.
الآن، كل المؤشرات تدل على أن ترامب يخسر مواجهته مع الحرس القديم في أمريكا. بالأمس أُرغم إيلون ماسك على الاستقالة من أهم مهمة وأخطر موقع كان يحتله في سياق الحرب بين الإدارة الأمريكية الحالية والدولة العميقة، وهذه تعتبر خسارة فادحة لترامب الذي سيفتقد لدعم وانخراط المنظّر الأساسي للدولة الأمريكية الجديدة، وقد قلنا هذا الكلام في مقال سابق على صفحات موقع “صوت المغرب”، حين تناولنا دور إيلون ماسك في الولاية الثانية لترامب.
ثاني المؤشرات هو الاتفاق الذي تم قبل يومين، حين رفعت بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة القيود على الإمدادات العسكرية لأوكرانيا. وقد أوضح المستشار الألماني ميرز ذلك قائلا: “يمكن لأوكرانيا الآن الدفاع عن نفسها بمهاجمة مواقع عسكرية في روسيا”. وهنا يجب أن نفهم أن ترامب أرغم بشكل ما على جعل الولايات المتحدة طرفا في هذا الاتفاق، وقد عبر ترامب عن ذلك على حسابه على موقع إكس قائلا: “لولاي ، لحدثت كثير من الأمور السيئة حقا لموسكو”، ليرد عليه ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي قائلا عبر منصة “إكس” أيضا: “فيما يتعلق بتصريحات ترامب عن أن روسيا “تلعب بالنار” وأن “أمورا سيئة حقا” كانت ستحدث لروسيا لولاه، فإنني لا أعرف سوى أمرا سيئا حقا واحدا، وهو الحرب العالمية الثالثة، آمل أن يفهم ترامب هذا”. كما رد شويغو، أمين مجلس الأمن القومي الروسي ووزير الدفاع الروسي السابق على مسألة إعلان المستشار الألماني عن رفع القيود عن الإمدادات العسكرية لأوكرانيا قائلا: “لدينا العديد من القيود التي يمكننا رفعها أيضا”.
ثالث المؤشرات هو الخيبات التي حصدها ترامب في سياق حربه الجمركية على العالم، والتي أظهرت محدوديتها الكبيرة في حسابات إخضاع كل من أوروبا والصين وكندا وأمريكا اللاتينية… ويبقى النجاح الوحيد الذي عرفه ترامب هو حصوله على طائرة من قطر وأربعة تريليونات دولار من السعودية والإمارات نظير حماية أنظمتهم السياسية لمدة عشر سنوات…
لكن حتى هؤلاء، في حال هزيمة ترامب أمام الدولة العميقة، لن يشفع لهم ما خسروه، وسيعيشون أياماً سوداء بعد ذلك، ولن يكفيهم حينذاك عشرون ترليون دولار للبقاء على قيد الحياة.
من خلال كل ما سبق يبدو أن الحرب في أوكرانيا لا زالت مستمرة وستتصاعد، وأن ساحة المعركة وحدها هي التي ستحسم هذا السجال بين الغرب والشرق، وأن شرارات ذلك ستمتد لا محالة إلى مناطق أخرى من العالم، وأن حرب الإبادة في غزة لديها مستقبل واعد بعد عودة الريغانية والمحافظين الجدد إلى البيت الأبيض بشكل من الأشكال، وأننا.. في عار الله.