story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

المهنة: مُشَهِّر

ص ص

يبدو أنه علينا إحداثُ مسلكٍ جديد للتكوين في معاهد الصحافة وكليات العلوم الانسانية، يمكن تسميتُه إجازة فنِّ التشهير، أو ماستر الصحافة الاستئصالية. ولا أظننا سنعدم الموارد البشرية، لدينا فائضٌ من المتخصصين في تعليم مهارات القتل المعنوي. وسيجد الخرّيجون السَّاديون، ذوو المواهب الاستثنائية في العنف والشر المجاني فرصاً ذهبية للشغل وللترقي السّريع في هذا الورش الإعلامي الواعد، حيث لا رأي ولا صوت يعلو على أصوات الضرب على الطبول، والضرب في الصورة الرمزية لما تبقى لنا من جنس نادر وفي طور الانقراض من الصحفيين الشرفاء ومن المدافعين الصادقين عن حقوق الانسان.

ويبدو أنه حان الأوان لإضافة جائزة جديدة لباقي أصناف الجائزة الوطنية للصحافة، تأخذ شكل مُجسَّم مسدس، يمكن تسميتها جائزة “المقالة القاتلة”، تُمنح إلى أفضل صحفي أو صانع محتوى مكلَّف بمهمة تصفية الخارجين عن الإجماع، وإلى أكثر قلمٍ ملطَّخ بدماء ضحاياه، وإلى أحْقرِ مقالٍ في فنون السَبّ والقَذف المُهين والمُدمِّر لأطفال وعائلات المُشهَّر بهم. وطبعاً لن نعدمَ المتنافسين، لدينا صَفّ طويل من القَتلة المَهرة ونَهَّاشي الأعراض، ولدينا إنتاجٌ سنوي ضخمٌ من الإبداعات الصّحفية والرقمية المبهرة في فَقْئ عين الحقيقة، ولَيِّ عُنق المنطق، وتَكْسير عظام الكرامة، وتَلْطيخ وجه السمعة، والطعن الغادر في شرف الناس.

فأمام هذا التسامح الذي تتمتع به عصابات التشهير المكشوفة الوجه التي تتجول بأقلامها وميكرفوناتها الحادّة بين المواقع والمنصات، وأمام هذا الدعم والاحتضان الذي يحظى به بعضُ نجوم التشهير والمعتدين مع سبقِ الإصرار والترصد على الحياة الخاصة لبعض المواطنين وحتىّ بعض الحاكمين؛ لم يبق أمام المسؤولين الغاضِّين الطرف عن هذا الإجرام الإعلامي؛ إلاَّ هيكلة القطاع، والإعلان الرسمي عن تأسيس الوكالة الوطنية للتشهير وضرب الاخلاقيات.

نعم، التشهير الصحفي ليس فيروسا متحورا ظهر فجأة، فلم يخل المشهد الإعلامي في التاريخ القريب من مقالات مسمومة ومضللة ومُشَهرة بشخصيات وهيئات مختلفة؛ لكنها لم تصل في سقوطها إلى هذا الانحدار الأخلاقي، ولم تصل عدديا الى هذه الوفرة المتدفقة، ولم تجرؤ على البروز بهذا العرض المبتذل والمكشوف. كانت صحافة صفراء محدودة الانتشار؛ إلَّا أنها لم تفلح في أن تتحول إلى فاعل إعلامي منظم ومحمي وممول من الدعم العمومي. كانت صحافة متخصصة في المشاهير والشخصيات العمومية؛ لكن لم تصل بها القسوة إلى التشهير بالمواطنين البسطاء، والعابرين في الطرقات والأسواق، والقاصرين، والمرضى النفسيين، والفئات الهشة اجتماعيا وثقافيا… كانت صحافة تقتات على الفضائح والحياة الخاصة، لكنها لم تصل إلى هذه الدرجة من الابتذال والتنكيل بالمآسي الإنسانية وبالأبرياء.

في مغرب اليوم، لم يعد التشهير حالات معزولة، أو خطأ مهني غير مقصود يقع فيه بعض الصحفيين في لحظة سهو أخلاقي أو سوء تقدير؛ لقد تحول إلى مهنة منظمة، لها بطاقة، لها نجوم صف أول، وفرق صف ثاني، ولها حماة، ولها موزعي مهام، ومديري عمليات، ولها جيوش متناسلة من الذباب.  لقد أصبح التشهير مدرسة قائمة الذات، صار خطا تحريرياً، ونموذجا اقتصادياً مربحاً، ودوقا عاما، وأسلوبَ عقاب، وسلاحا مرخصاً للتصفية. لقد تحول إلى لغة ولعنة، تكاد تصيب الجميع، حتى أولئك الذين يخوضون معارك من أجل قضايا تبدو عادلة ونبيلة.

 في ندوة دولية حول الصحافة بين الإخبار والتشهير نُظمت سنة 2017 بالرباط، قال الأستاذ الجامعي الفرنسي الراحل Maurice Goldring :

“التشهير هو اغتيال الإنسان بأية وسيلة كانت، باستثناء التصفية الجسدية…”

في الماضي، كان يتم اغتيال المعارضين والخارجين عن الاجماع إما بالشنق، أو بالرجم، أو بالسحل، أو الحرق، أو قطع الرأس، أو برصاصة في القلب، أو بالتذويب في حامض الأسيد…

اليوم، صار الاغتيال سهلاً وفعالّا، وبأسلحة ناعمة، يكفي مقالة كاذبة، أو فيديو تشهيري، او لايف اجرامي متسلسل؛ لتتم تصفية الهدف، وليبدأ طقس النهش في الجثة عبر آلاف المشاهدات واللاَّيكات والتقاسم.

*فاطمة الإفريقي