story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“حمير” بنكيران

ص ص

ما يكرهه الصحافي (الصحافي حقاً وحقيقةً) أن يتحوّل إلى وقود انتخابي. كاتب هذه السطور غير منشغلٍ بحمّى الانتخابات التي بدأت تظهر أعراضها “قبل الأوان”.

وبميزان الأخلاق، الأسلوب الذي تحدث به أمين عام العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، في فاتح ماي، حين وصفَ مخالفين له بالحمير والميكروبات، يسيءُ له. ولا أعرف عاقلاً يقبله، بكل ذلك الإصرار الذي أظهره عبر التكرار، وتلاه انفعالٌ وتحقيرٌ ممن شعروا أنهم معنيون بكلامه. صِفَته السابقة رئيساً للحكومة تُلزمه أكثر من غيره، على قاعدة: “حسنات العامة سيّئات الأبرار”.

التفوقّ يبدأ من هنا. التفوّق الأخلاقي حاسمٌ، ويومَ صوّت الناسُ للعدالة والتنمية، ومنحوه عدد مقاعد غير مسبوقٍ، كانوا يرون فيه شيئاً من هذا. والمقاومة في غزة علّمت، في قضية أسرى الاحتلال، من يحتاج تعليماً كيف يكون متفوّقا في سُلّم القيم، في زمن الإبادة الجماعية. والالتزام الأخلاقي من مناصري القضية الفلسطينية أوْجب.

لكن، ماذا لو نقلنا عبارة (الحمير) من مساحة الأخلاق إلى ميدان السياسة؟.

أقرأُ استعمال بنكيران لتلك العبارة خارج “السقطة الكلامية” إلى الخطاب الواعي، ضمن ثلاثة محددات على الأقل:

1 ـ بنكيران وصناعة “العدو”

الراصد لمسار بنكيران، في الـ20 سنة الأخيرة على الأقل، يُدرك أنه يفضّل ممارسة السياسة بوجود نقيض. بصيغة أخرى: لا يكون هناك “بنكيران” إلا في حالة استقطاب، تتيح له سحب الخصوم إلى ميدانه، موظفاً خطابه اللّساني لإقناع الجمهور المتقبّل للشعبويات والمحبّ للفُرجة السياسية. وهذا ينشأ عن معطى واضحٍ: بنكيران ليس رجلَ فكرٍ ونَظَر. هو “وحش سياسي” يقتات من وضعية الصدام. وحتى في حال عدم وجود “أعداء” مكشوفين، يصْطنعهم على أشكال مُرَمَّزة مثل “التماسيح” و”العفاريت” و”التحكّم”، ويمنحها حمولة سياسية، لتغذية خطابته.

بنكيران ليس منتِج أفكار يطرحها ليُقنع بها. هو صاحب مقولات تشكل كلّ عُدَّتِه السياسية، والتي تبرزُ وتُصْقَلُ بوجود أضداد. لهذا، أقوى فوْرات الأمين العام للعدالة والتنمية هي تلك التي ارتبطت بوجود “خصوم”. ونتذكّر مثلا الأمين العام للاستقلال الأسبق حميد شباط وكل تلك الصدامات المشهودة والاتهامات، قبل أن يأْفَلَ نجم شباط، ثم إلياس العماري الذي أعطَبَهُ بنكيران وأخرجه “من الخدمة” يوم غادر “السرية إلى العلانية” أمينا عاما للأصالة والمعاصرة… وغيرهما.

بنكيران لا يكون بنكيران إلا بوجود خصم. واختياره لـ”كلنا إسرائيليون” عنوانَ معركته، في هذه المرحلة، هو انتقاء واعٍ ومدروس، وليس إخفاقا “لِسانياً”. ودعْكَ من أوهام ارتجالية الرجل أو أن يكون “سبَقَه لسانه”. اختار التصويب على هذا “النقيض” باعتباره رأسَ حربةٍ في مواجهةٍ سياسية، مادام هذا “الخصم”، وفق ما أؤسّس له في قراءتي لقراءة بنكيران، يتجاوز الوظيفة الإعلامية إلى أداءِ مهمة سياسية، ينتفع منها رئيس الحكومة الحالي رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار عزيز أخنوش، الذي يُفترضُ أنه المنافس السياسي/ الانتخابي الصريح لبنكيران. هي معركةٌ مُسْتأنَفَةٌ منذ ما قبل 2016، “بارودها” هذه المرة فلسطين.

وها هنا، وقبل الانتقال لفكرة أخرى، أسجّل أن أخنوش لم يمنح بنكيران الفرصة للصدام السياسي المُثَمِّن للرصيد الانتخابي، وحرمه من وضعية سبَقَ أن “هزم” خلالها خصوماً سياسيين آخرين أكثر تسييساً. تعلّم أخنوش الدرس جيّدا، وتفادى مصير الآخرين، واعتمد أدوات بديلة لاستنزاف بنكيران وحزبه دون أن يتورّط في مواجهة مباشرة. وكما يظهر: تفادى إلى الآن أن يقف في وجه المدفع.

2 ـ بنكيران.. للتخلّص من رَبْقة التطبيع

عندما هاجم بنكيران أصحاب مقولة “تازة قبل غزة” كان يجرّب ضمانَ تموقعٍ “جديد” لحزبه، بعد توقيع العثماني على اتفاق استئناف العلاقة مع إسرائيل. وتكثيفُ الخطاب بشأن فلسطين يندرج ضمن لعبة إعادة تعويم الحزب، بانتزاعه موقعاً متقدماً، خطابياً على الأقل، في مواجهة المتحمّسين للتطبيع.

ومن أغراضٍ هذا التصويب عالي التجريح ( حتى السّب) لأصحاب مقولة “تازة قبل غزة”، مداوةُ جراحٍ في جسدِ الحزب، الذي “سقطت عليه السماء” بسبب صورة العثماني حاملا اتفاقية استئناف العلاقات. ولا يُقاس الضرر الذي يمكن أن تسبّبه تلك اللحظة على العدالة والتنمية إلا باستعادة مقولاته، على امتداد عقود، بشأن الانتصار لفلسطين، ورفض الاعتراف بدولة إسرائيلية، وكل الروابط الدينية. لم تكن فلسطين هامشيةً في وعيّ الإسلاميين عموما، وتتجاوز الأبعاد السياسية والجغرافية إلى رابطةٍ عقدية تؤسس لعلاقة عابرة للجغرافيا، وحتى الأزمنة، ضمن مفهوم الأمة الموسّع.

بنكيران معنيٌ باستعادة الحزب الذي “تركه” في 2016. ولا سبيل إلى ذلك إلا بمحوِ آثار التطبيع. وأقصر طريق تصويبٌ “صادم” على من نصّبهم “أعداء”، دون أن يكونوا، ظاهرياً على الأقل، خصوماً انتخابيين، لكنهم مفيدون انتخابياً لخصومه.

3 ـ فلسطين من الشارع إلى الصندوق

تبعاً للعبة إعادة تموقع العدالة والتنمية، يحاول بنكيران أن يقف بحزبه في الصفوف الأمامية لكل ذلك الزخم المتضامن مع فلسطين في الشارع، دون أن يكون فعلياً وواقعياً موجوداً بالقدر الكافي إذا قورن بحضور العدل والإحسان مثلا. ولمزيدٍ من التفسير، نستحضر أمرين:

أ ـ أغلب المحرّكين لديناميات الشارع لا يُعتَبرون منافسين انتخابيين. أمين عام العدالة والتنمية يحاول الاستثمار في ذلك، بالتقاطع مع هؤلاء الفاعلين ( غير الانتخابيين) في الانتصار لفلسطين، ومن غايات ذلك ترصيد زخم الشارع أصواتاً انتخابية، مدفوعاً بأملِ استعادةِ متضامنين مع فلسطين “عاقبوا” الحزب بسبب التطبيع ولم يصوتوا له خلال انتخابات 2021. وهذا لا يتحقّق إلا بوضع مسافة مع اتفاقية استئناف العلاقات مع إسرائيل، ثم الهجوم على أصحاب مقولة “تازة قبل غزة”، وكل ذلك مبنياً على وعيٍ سياسيٍ يدرك أن حمَلَة راية الدعم لفلسطين في الشارع ( العدل والإحسان وقوى يسارية معارضة) لا يملكون ولوجا كاملا للإعلام، ولا يحقّقون صدىً مسموعاً بالقدر الكافي، على مستوى الديناميات السياسية المُمَأسسة، كما يفعل بنكيران.

ب ـ رافضو التطبيع لا يزالون، بدورهم، يطالبون العدالة والتنمية بـ”اعتذار” عن توقيع أمينه العام السابق على الاتفاق مع إسرائيل. ولأن الحزب لا يشعر، كما كتب قياديون فيه، بأنه في موضِع تهمة، يدفع بنكيران بحزبه إلى الأمام، رافضاً أن يكون خارج مطلبِ وقف العلاقات مع إسرائيل ( البيان الختامي للمؤتمر التاسع).

كان بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع في طنجة، الرافض لمشاركة العدالة والتنمية في مسيرة 29 مارس 2025، أحدَ عناوين رفضٍ يريد بنكيران تذويبه. ومن أغراض مهاجمة بنكيران لأصحاب مقولة “تازة قبل غزة” و”كلنا إسرائيليون” الاصطفاف “الخطابي” إلى يمين ديناميات الشارع لتفادي عزل الحزب عنها. بهذا، يطرح نفسه “حليفاً موضوعياً” للفعاليات الاحتجاجية التضامنية، على قاعدة: إما أن تكون زخماً انتخابياً، أو في الحد الأدنى على الحياد انتخابيا.

ولئنْ أثبتتُ على بنكيران، على طول المقالة، محاولةَ توظيفٍ انتخابيٍ لفلسطين، فإني لا أنزلقُ لأنْفي عن العدالة والتنمية صِدقيةَ دفاعه عن القضية منذ الأيام الأولى للتنظيم إلى الآن، مما لا يحتاج إلى دليل.

قصارى القول

شديد الاحترام للحمير، تلك الحيوانات الصبورة والمتفانية، والذكية، والتي نُقحمها في سجال لا علاقة لها به. بنكيران، بوعي أو بدون وعي، وعلى أساس القراءة التي تقدمت بها، يصطنع “حمارا” يرْكَبه في طريقه إلى الانتخابات. لا أتقصّد أية إساءة، بل أُلاحق رمزيات وفكرة، لأقول إن التصويب على أصحاب مقولة “تازة قبل غزة” هو سعيٌ إلى ظَهْرٍ يحمل العدالة والتنمية إلى محطة 2026. على الأقل إلى الآن، وفي انتظار مفاجآت أخرى، بنكيران وفيٌّ لتكتيكاته، ضمن مساعيه إلى إنتاج “خصمٍ” يصنع به لحظته السياسية والانتخابية