المولى عبد الحفيظ .. مرافعة السلطان المقاوم

أصدر المؤرخ امحمد جبرون تحقيقا نادرا لكتابين من توقيع السلطان مولاي عبد الحفيظ، أولهما كتبه قبل توليه الحكم وثانيهما بعد تنازله عن العرش، يعرض فيهما رؤيته السياسية وموقفه مما اعتُبر لاحقا “تقصيرا” أدّى إلى فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912.
يحمل الكتاب الأول عنوان “إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، ويعود إلى صيف 1906، حين كان السلطان لا يزال خليفة مراكش، ويكشف فيه عن شبكة الصراعات الداخلية التي كانت تمزق المغرب عشية الاحتلال، من نزاعه مع شقيقه مولاي عمر، إلى تصاعد نفوذ القياد الكبار في الحوز، إلى ما أحدثه مؤتمر الجزيرة الخضراء من تقويض للسيادة الوطنية.
أما الكتاب الثاني، “داء العطب قديم”، فقد كتبه السلطان بعد خلعه ونفيه، ليدافع فيه عن قرار الاستعانة بالفرنسيين ضد الثائرين عليه، ويوثق بالأدلة ما يعتبره حالة انهيار شامل جعل من “الاحتلال” نتيجة لا مفر منها. وهو بذلك مرافعة سياسية وفكرية يسعى من خلالها إلى تبرئة نفسه من تهمة التفريط والخيانة التي لاحقته إلى ما بعد وفاته.
النصان اللذان ينشران لأول مرة بتحقيق علمي موثّق، يفتحان نافذة نادرة على زاوية أخرى من التاريخ المغربي الحديث، ويضعان المؤرخين والباحثين أمام أسئلة جديدة: هل ظلم التاريخ الرسمي السلطان عبد الحفيظ؟ وهل كنا أمام مشروع إصلاحي وطني قوبل بالخيانة من الداخل قبل أن يُركع من الخارج؟
“الفقير الصابر”
المخطوط الأول الذي تولى المؤرخ امحمد جبرون تحقيقه ونشره، هو الذي يحمل عنوان “إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، والذي كتب السلطان مولاي عبد الحفيظ مضامينه قبل توليه الحكم.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في تسليط الضوء على الظروف التي عاشها المغرب قبل فرض الحماية على المغرب سنة 1912، ودخول المغرب عهد الاستعمار.
ولا تقتصر فصول الكتاب على كشف بعض ملابسات الصراع بين الأخوين مولاي عبد الحفيظ ومولاي عمر، بل تتجاوزها إلى الكشف عن حالة الغليان التي كان يعيشها المغرب في هذه المرحلة، والصراع المزمن بين المخزن وقواده وبين أشياخ القبائل وقادتها.
كتب الخليفة مولاي عبد الحفيظ هذا النص صيف 1906، بعد مرور حوالي شهرين على مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد في السنة نفسها ما بين شهري يناير وأبريل، والذي فرض على المغرب مجموعة من الشروط تحت مسمّي الإصلاحات، والتي أفقدته السيادة في كثير من الجوانب، وأعطت الضوء الأخضر لفرنسا لبسط سيطرتها على المغرب.
ومن ثم، ففي الوقت الذي كان المغرب بحاجة إلى تقوية جبهته الداخلية والتعاضد المتين من أجل مواجهة شبح الاستعمار الذي بات على الأبواب، بات غارقا في صراعات وحروب وتمردات لا حصر لها، لم يسلم منها حتى البيت المخزني، حيث يعبر الصراع بين الأخوين المولى عبد الحفيظ ومولاي عمر عن جانب منه.
إن الإفادة التاريخية من هذا المخطوط ، كما يقول المشرف على تحقيقه ونشره، والولوج إلى عالمه، تتوقف أساسا على حسن تأطيره تاريخيا، والإمساك بمفاتيح قراءته، والتي يشير إليها بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم هذا المخطوط فهما تاريخيا دون فهم طبيعة الصراع بين الأخوين عبد الحفيظ وعمر، وأيضا دون فهم لخلفيات صراع القواد الكبار في منطقة الحوز قبل الحماية…
صراع الإخوة الأعداء
اشتهر السلطان المولى الحسن الأول بكثرة الأبناء، وأحصى له الحسن بن الطيب بوعشرين في كتابه «التنبيه» ما يقرب من ثمانية وعشرين ولدا ذكرا، وعلّق على ذلك بقوله: “وغيرهم ممن لم تبلغنا أسماؤهم”.
ومن أبرز هؤلاء الذين كانت لهم مشاركة قوية في أحداث مغرب ما قبل الحماية، يوجد المولى عبد العزيز الذي أمسى سلطانا بعده، والمولى عبد الحفيظ الذي تولى مكان أخيه عبد العزيز بعد صراع مثير دارت فصوله بين سنتي 1907 و1908؛ ثم المولى عمر الذي كان هو الآخر طامعا في الملك غير أن الحظ لم يسعفه.
فبعد وفاة السلطان الحسن الأول في صيف سنة 1894، يخبرنا التأطير الذي أرفقه المؤرخو جبرون بكتاب “إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، كيف سارع حاجبه أحمد بن موسى المعروف بلقب “با حماد”، إلى جَمْعِ الناس وكبار القادة على بيعة المولى عبد العزيز بتادلة وهو في سن الرابعة عشر. وتم الاحتفال بذلك وإعلانه في الرباط وفاس بعد ذلك.
لم يرق هذا التنصيب بعض أفراد الأسرة العلوية، وخاصة بعض إخوة المولى عبد العزيز الذين يكبرونه سنا، والذين كانوا مرشحين فوق العادة لمنصب السلطنة، بحكم سنهم وتجاربهم في الحكم والسياسة.
غير أن التدبير الذي أحكمه “با حماد” ومن لفّ لفّه حال دون ذلك، وعلى رأس هؤلاء الممتعضين الأخوان مولاي عمر بفاس ومولاي امحمد بالرحامنة ومراكش، واللذان أظهرا ذلك وصدرت عنهما أفعال هددت الانتقال السلس للسلطة من الراحل المولى الحسن إلى ابنه المولى عبد العزيز.
فعلى سبيل المثال لم يتردد المولى عمر وهو الخليفة بفاس في قمع مظاهر الفرح التي أبداها بعض الفاسيين بعد إعلان نصر المولى عبد العزيز، ومزّق طبولهم، بدعوى الأسى والحزن على أبيه.
يؤكد جبرون كيف كان باديا من خلال الإشارات التي أرسلها المولى الحسن الأول في حياته أن ابنه مولاي عمر هو المرشح الأوفر حظا للظفر بمنصب الخلافة والجلوس على العرش، حيث حرص على تعليمه وتكوينه علميا وأدبيا تكوينا متينا، وتابع ذلك بنفسه.
كما كلفه السلطان في حياته بعدد من المأموريات، كالنيابة عنه في قيادة الجيش الذي وجهه نحو وجدة سنة 1891، كما رُشّح للخلافة في مدينة فاس في السنة الموالية (1892)، وهو المنصب الذي بقي يشغله إلى حين وفاة أبيه وبيعة أخيه المولى عبد العزيز.
لكن السؤال الذي يثيره جبرون في هذا السياق هو: من الذي حال دون بلوغ المولى عمر كرسي العرش؟ وهل ما يذكره بعض المؤرخين من مكر الوزير الصدر با حماد الذي كان يطمح للاستبداد بشؤون المملكة دور في ذلك أم هناك ظروف وحقائق أخرى منعت المولى عمر من بلوغ مراده والظفر بالملك؟
ويخلص الكتاب إلى أنه وانطلاقا من مجريات الأحداث، فإن فكرة تولية المولى عبد العزيز العرش كانت مبيتة، ولا يستبعد أن يكون تمامها كان بإشارة من السلطان المتوفى، “ولا أدل على ذلك السرعة التي تمت بها والإجماع الذي حصل حولها في الحركة، وذلك بمجرد إعلان وفاة السلطان في منطقة البروج من بلاد بني مسكين”.
وما يعزز هذه الفرضية، حسب جبرون، هو غضب المولى الحسن من تصرفات ابنه خليفة فاس، وانهماكه في التصابي من غير احتشام، ومعاشرة قرناء السوء، حتى اضطر لمكاتبته وتقريعه في رسالة حادة نشر طرفا منها المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان.
ومن ثم، فإن استبعاد المولى عمر من الخلافة من جهة، ورد فعله الممتعض من بيعة أخيه من جهة ثانية، أدى إلى إقصائه من منصب الخليفة في العاصمة فاس، وسجنه بمسقط رأسه مكناس، وذلك بأمر من الوزير أحمد بن موسى با حماد.
بقي المولى عمر على هذا الحال إلى حين وفاة هذا الوزير وتولي الحاج المختار، الذي أشفق عليه وخفف حبسه، وتدريجيا عاد إلى الواجهة من جديد، وأذن له بالعودة إلى فاس، حيث التحق سريعا بحاشية السلطان المولى عبد العزيز وكسب ثقته، فلم يتردد هذا الأخير في تعيينه على رأس حملة عسكرية إلى حوز مراكش، التي ظاهرها تحصيل ضريبة الترتيب بالتعاون مع القايد الكلاوي لكن باطنها أشياء أخرى.
أما المولى عبد الحفيظ المزداد في العاصمة فاس، فقد اشتهر بالعلم بين أبناء المولى الحسن الأول، وله الكثير من الآثار العلمية وخاصة في الحديث والفقه، وتلقى تعليمه بقبيلة أحمر غرب مراكش، وأتم حفظ القرآن مبكرا، وحفظ المتون اللغوية والفقهية والعقدية على يد أساتذة أكفاء.
يخبرنا الكتاب كيف كان المولى عبد الحفيظ من المبادرين لبيعة أخيه المولى عبد العزيز عندما أعلنت بيعته كما يصرح بنفسه في هذا المخطوط (إعلام الأفاضل)، ولعل ذلك كان وراء الخطوة التي تميّز بها في حياة الوزير با حماد، وتكليفه بعدد من المهام الإدارية والعسكرية في تادلة وسوس. وقد شغل فيما يبدو منصب خليفة السلطان بسوس واستقر بعاصمته تزنيت إلى حدود سنة 1900.
وبعد ذلك، تم تعيينه خليفة بمراكش حتى سنة 1907، أي حتى إعلانه سلطانا على المغرب خلفا لأخيه المولى عبد العزيز.
ومن ثم، فبخلاف سيرة المولى عمر، اشتهر عبد الحفيظ بالعلم والورع والمشاركة في العلوم، كما امتاز عنه أيضا بالتزام الطاعة ولزوم الجماعة في فترة حرجة كانت البلاد تعاني فيها من كثرة المتمردين والطامعين
لا تكشف المصادر التاريخية لهذه الفترة عن طبيعة العلاقة التي جمعت الأخوين مولاي عمر ومولاي عبد الحفيظ أيام أبيهما المولى الحسن الأول، فكلاهما ترعرعا بعيدا عن بعضهما، فالأول تربى في مدينة مكناس واستكمل تعليمه في تطوان، بينما تربى الثاني وأخذ العلوم بقبيلة أحمر.
وما من شك أن هذا التباعد الجسدي بين الأخوين نشأت عنه هشاشة الروابط العاطفية بينهما الشيء الذي ربما هيأ الأسباب للتباغض والتنابذ الذي اشتهر بينهما.
لكن هذه المصادر ردَّدت، حسب امحمد جبرون، صدى الخلاف بين الأخوين في عهد السلطان المولى عبد العزيز، وكشفت مشاعر العداء بينهما، والتي ترجع بالأساس إلى الصراع على السلطة والنفوذ.
مهمة المولى عمر في أحواز مراكش
لقد كلف السلطان المولى عبد العزيز أخاه المولى عمر بمأمورية بأحواز مراكش صيف 1905، وكان الخليفة بها أنذاك هو المولى عبد الحفيظ. وكان الهدف المعلن لهذه المأمورية هو جمع ضريبة الترتيب من قبائل الحوز الممتنعة عن دفعها، وإصلاح ما فسد من أمورهم. لكن هذه المأمورية لم تبلغ غايتها، وفشلت في تحقيق مرادها، وذلك لتهاون الناس واستخفافهم بالسلطان ورئيس محلته المولى عمر.
وقد شهد ذلك الكاتب المخزني الذي كان بصحبة هذه المحلة، الحسن بن الطيب بوعشرين، وسجله بأسى كبير في كتابه «التنبيه المعرب».
لقد كانت هذه الواقعة سببا في فساد العلاقة بين الأخوين، وذهاب ما كان بينهما من ود، فقد رأى الخليفة المولى عبد الحفيظ في حملة مولاي عمر هدفا آخر غير الذي تم الإعلان عنه أي تحصيل الترتيب، وتَوَصَّل من خلال جواسيسه في القصر السلطاني في فاس وخفايا الامتيازات التي تم منحها مسبقا للقائد الكندافي إلى أن الغرض من الحملة هو عزله من الخلافة في مراكش وتعويضه بمنافسه قائد الحملة مولاي عمر وذلك بدعوى أنه يسعى إلى هدم سلطان أخيه المولى عبد العزيز والسعي لإزاحته والجلوس مكانه.
من جانب آخر، لا يستبعد أن يكون الأمر نفسه جرى مع المولى عمر والسلطان، حيث أطلعهما عملاؤهما بمراكش على النوايا الخفية لمولاي عبد الحفيظ، وطموحه إلى اعتلاء العرش، والانقلاب على السلطان الشرعي والخروج عليه، وأنه جاد في ذلك من خلال تحالفاته مع كبار القياد، وخاصة الكلاوي والمتوكي. وكان باشا مدينة مراكش بن كبور كبير عملاء السلطان.
ومن ثم، إن السبب الحقيقي لهذه العداوة الظاهرة بين الأخوين هو التقارير التي نقلها الجواسيس وعيون الطرفين في كل من فاس ومراكش، والتي جعلت كل طرف يتصور الآخر متربصا به ويتحين الفرصة للانقضاض عليه. وقد تكون هذه التقارير مجرد أوهام، ومختلقة، لا أساس لها من الصحة، يتوخى من خلالها أصحابها القرب من ذوي الجاه والسلطان.
إن رسالة كتاب “إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، حسب امحمد جبرون، هي مرافعة شرعية وعقلية وواقعية أراد من خلالها المولى عبد الحفيظ تبرئة نفسه مما ألصق به من تهم تتعلق بمعاكسة السلطان وجمع الناس عليه تمهيدا للدعوة لنفسه.
صراع القياد تحت خيمة المخزن
يعتبر القائد رئيس قبيلة أو مجموعة من القبائل، حاصل على تعيين مخزني من خلال ظهير، شأنه شأن العامل أو الوالي في الوقت الراهن. وفي كثير من الحالات يكون رئيسا للقبيلة بصفته أمغارا قبل إقرار المخزن له.
ومن ثم، كانت شرعية القائد في الغالب الأعم شرعية مزدوجة، أي شرعية قبلية، بحيث يحظى بتأييد قبيلته باعتبار نسبه (الشرف) أو قوته أو غربته، وشرعية مخزنية تجعله مخاطبا من طرف المخزن ومنفذا لأوامره ومتصرفا باسمه داخل تراب قيادته.
وكان أغلب القياد يمارسونه سلطاتهم الإدارية المطلقة في دائرة نفوذ بصفة شبه مستقلة عن المخزن، معولين على كفاءتهم وقدراتهم المادية والسياسية.
وقد كانت منطقة الحوزة من المناطق المغربية التي ازدهرت واستفحلت خلالها ظاهرة “القايدية”. فبعدما كانت مقسمة حسب السوسيولوجي بول باسكون بين عشرين قائدا تقريبا في القرن 19، أمست محتكرة من طرف ثلاثة أسر قايدية كبرى: الكلاوي والمتوكي والكندافي، والذين كانوا متنافسين فيما بينها في أغلب الأحيان.
أسرة الكلاوي
تعتبر أسرة الكلاوي من أشهر الأسر القايدية في الفترة الممتدة من النصف الثاني للقرن 19 وإلى فترة الحماية الفرنسية سنة 1912. ينتسب كلاوة إلى قبيلة دكالة ويدّعون الشرف، حيث لجأوا إلى مجال القبيلة التي تنسب لهم والتي حملوا اسمها كلاجئين أواخر القرن 18، وكان أول عهدهم بالوظائف المخزنية زمن السلطان المولى عبد الرحمن (1859)، الذي عين محمد ايبطاط الكلاوي سنة 1856 على قيادة أهالي مجموعة من القبائل، وعلى رأسهم أهل تلوات التي أمست قاعدة سلطة كلاوة منذ هذا التاريخ.
كانت سلطة كلاوة بقيادة محمد إيبطاط تراقب معابر استراتيجية تربط بين السفوح الغربية والجنوبية الشرقية للأطلس الكبير، الشيء الذي مكنهم من إبرام تحالفات استراتيجية مع قبائل ورزازات ووريكة وغيرها.
وتعزز هذا النفوذ بالثقة الكبيرة التي حصلوا عليها من طرف المخزن في عهد المدني الكلاوي منذ 1918، وخاصة بعد البلاء الحسن الذي أبلوه في تيسير رحلة السلطان الحسن الأول أثناء عودته من تافيلالت عام 1893.
كانت هذه الحظوة التي تمتّع بها المدني الكلاوي لدى المخزن سببا في توسيع نفوذ قيادته التي امتدّت في عهد المولى عبد العزيز لتشمل مسفيوة، حيث بني قلعته الشهيرة في آيت ورير.
وإلى جانب المدني الكلاوي الذي كان يتولى منصب القيادة على كلاوة والقبائل المجاورة لها، وجد أخوه التهامي الكلاوي الذي خاض الكثير من المعارك القبلية نيابة عنه، وتولى باشوية مراكش في عهد السلطان عبد الحفيظ، بينما أمسى أخوه الأكبر المدني قائدا للجيوش الشريفة.
وكان التهامي إلى جانب أخيه حاضرا في كل المهمات تقريبا، مثل الحملة على الروكي الطاهر بالرحامنة والروكي بوحمارة بالريف…
نفوذ المتوكي
إلى جانب أسرة الكلاويين، كانت هناك أسرة المتوكي التي تنتمي إلى قبيلة متوكة التي تقع وسط لفيف قبلي متنوع، تحدّها شمالا بلاد شيشاوة وأولاد بوسباع، ومن الجنوب جبال سكساوة مسيرة، ومن الغرب قبائل آيت زلطن وغيرها، ومن الشرق قبائل مجاط وفروكة.
وتعتبر قبيلة متوكة بحسب بعض المؤرخين حديثة العهد، فهي ليست من القبائل القديمة التي تنتشر بهذه المنطثة. ويربط البعض وجودها بالحركة المرابطية، لكنها لم تتشكل كقبيلة سوى خلال القرن 16.
سطع نجم هذه الأسرة القايدية خلال القرن التاسع عشر وذلك من خلال رغبتها في توسيع نفوذها على حساب القواد المجاورين، ورغبة في إحكام السيطرة على الممر الاستراتيجي الرابط بين الحوز وسوس عبر إيمنتانوت، وتيزي أوماشوا، وإسن أسرتو. ومن أشهر قادتها عبد الملك المتوكي، الذي عاصر وشارك في الأحداث التي يعالجها المولى عبد الحفيظ في هذا العمل.
كان القائد عبد الملك المتوكي، شأنه شأن غيره من القواد في هذه المرحلة، مهتما بحماية نفوذه أو توسيعه بحسب الظروف والفرص. وقد وجد المتوكي نفسه في مواجهة مع الكندافي بحكم الجوار، وفي صراع معه من أجل النفوذ على قبائل أولاد بو سباع وأولاد مطاع.
ومن ثم، وفي مسعى لضمان نفوذه، عمل عبد الملك المتوكي على تعزيز تحالفه مع القائد المدني الكلاوي والتقرب من خليفة مراكش المولى عبد الحفيظ وذلك في أواخر 1905.
آل الكندافي
هناك أيضا أسرة الكندافي التي تنتمي إلى منطقة وادي نفيس الكبير، على السفح الأوسط لجبال الأطلس الكبير. حكمت هذه الأسرة هذه المنطقة لمدة تقرب من 100 سنة. وكانت تقوم بأدوار المراقبة والحراسة في هذا المعبر الاستراتيجي الرابط بين سوس، وتعيد بعض الدراسات نسبهم بالأدارسة.
عاشت هذه الأسرة وشيوخها شبه مستقلة عن الدولة وفي تفاهم معها حتى زمن الحسن الأول، حيث اصطدم قائدها آنذاك محمد الكندافي مع ممثلي المخزن في بلاد الحوز، وفي طليعتهم قائد مراكش أحمد بن مالك، واتهم بترك الطاعة ومفارقة الجماعة.
ونتيجة لهذا الصراع توجه ابنه الطيب إلى فاس حيث قضى مدة خمسة أشهر في البلاط السلطاني بفاس وهو لا زال طفلا في سن الرابعة عشر. وتختلف الروايات في وصف مقامه في البلاط السلطاني بين الرهينة والسفير.
غير أن هذا الصدام والصراع لم يدم طويلا، حيث سرعان ما تم رأب صدعه. وتحسنت العلاقة وتوطدت بين السلطان والكندافي، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بين الجانبين، حيث تزوج المولى الحسن إحدى بنات الكندافي.
عاد الطيب الكندافي من فاس سنة 1874، وبين يديه ظهير تعيين أبيه قائدا مخزنيا على وادي نفيس، وكان هذا الظهير في الواقع بداية عهد جديد في علاقة المخزن بالأسرة الكندافية.
توفي محمد الكندافي سنة 1893، وخلفه في منصب القيادة ابنه الطيب المزداد سنة 1860، والذي تم إعداده سلفا لهذا الدور، فقد حنكته التجارب، وشارك وهو صغير في مختلف الحركات التي نظمها السلطان في هذه الفترة لتمهيد الأقاليم الجنوبية، فاستحق أن يحتل مقعد أبيه بعد وفاته.
لقد تميز قائد وادي نفيس، الطيب الكندافي بالحزم والقوة، وهو ما أكسبه احترام ودعم المخزن طوال فترة حكم المولى عبد العزيز، الشيء الذي أغراه بالسعي لتوسيع مجال نفوذه، خاصة على حساب المتوكي المجاور له، فاضطر هذا الأخير للتحالف مع الكلاوي والاستقواء به المواجهة تهديد الكندافي المتزايد.
وفي هذا السياق استغل القائدان (المتوكي والكلاوي) سفر الطيب الكندافي سنة 1906 إلى فاس، من أجل دفع الجباية للسلطان، للسيطرة على أمزميز وخاصة أجرجور التي كانت معبر كندافة نحو الحوز.
لقد كان الطيب الكندافي أكثر قواد الحوز اتصالا بالمخزن المركزي ورجالاته. وقد استغل ذلك في توسيع إيالته والحصول على تعيينات جديدة وذلك على حساب القواد الآخرين المنافسين له. فعلى سبيل المثال، حصل على ظهائر تعيينه قائدا على وريكة وزاوية تامصلوحت وأولاد بوسباع على هامش حفل عيد الأضحى بفاس سنة 1906، وهي المناطق التي كانت خاضعة بشكل أو آخر لنفوذ كل من الكلاوي والمتوكي.
إن نفوذ الطيب الكندافي في فاس وقربه من رجالات المخزن في العهد العزيزي والامتيازات التي كانت يحصل عليها جراء هذا القرب كانت مزعجة، وتثير مخاوف منافسيه من القواد وخاصة الكلاوي والمتوكي، كما أنها أيضا كانت تثير شكوك خليفة مراكش المولى عبد الحفيظ.
أمراء الاستيلاء
إجمالا، يخلص امحمد جبرون إلي أن هذه الأسر القايدية ورجالها الكبار المدني الكلاوي وعبد الملك المتوكي والطيب الكندافي، شكّلت ما يمكن أن يصطلح عليه انطلاقا من الأحكام السلطانية، بإمارات استيلاء، وذلك برعاية المخزن الذي اضطر للاعتراف بشرعيتها.
فقد حاول كل من هؤلاء أن يحصل على اعتراف المخزن بما تحت يديه، أو أن يكسب إقراره على ما استولى عليه، وذلك مقابل ضرائب محددة أو في بعض الأحيان مقابل رشاوى كما تشير إلى ذلك بعض الروايات.
وقد استغلوا في هذا الباب ضعف المخزن وعجزه عن كسر شوكتهم من جهة وحاجته اليهم عسكريا واقتصاديا من جهة ثانية.
ومن ثم، ففي الوقت الذي عول الطيب الكندافي في مشروعه القايدي على المخزن المركزي وحاشيته، مال منافسوه نحو المخزن المحلي الذي كان يمثله خليفة مراكش المولى عبد الحفيظ.
ومن ناحية أخرى؛ فإن رسالة “إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، من وجهة نظر تاريخية تبين بالدليل الملموس كيف استعمل رموز المخزن قبيل الحماية، وهو في هذه الحالة خليفة مراكش المولى عبد الحفيظ وأخوه المولى عمر والسلطان المولى عبد العزيز، القواد الكبار من أجل تثبيت سلطتهم والتنكيل بمعارضهم، كما تبين أيضا كيف وظف القواد الكبار كذلك رموز المخزن من أجل تعزيز نفوذهم وتوسيعه.
فقد استعمل المولى عبد الحفيظ القائدين الكلاوي والمتوكي لإفشال مأمورية المولى عمر والحيلولة دون دخول محلته مراكش، حيث كان يخشى القبض عليه، ولم يسمح لها بالاقتراب منها سوى منزوعة السلاح. كما أن القائدين استعانا بالخليفة المولى عبد الحفيظ لإعاقة تنفيذ أوامر السلطان التي بحوزة الكندافي، والتي حصل عليها أثناء ملاقاته للسلطان في عيد الأضحى والتي تقضي بتوسيع نفوذه.
أما السلطان المولى عبد العزيز وقائد محلته الموجهة إلى حوز مراكش، المولى عمر، فقد استعانا بالكندافي لعزل خليفة مراكش وتقليص نفوذه وذلك مقابل توسيع نفوذه وبسط سلطانه على أجزاء مهمة واستراتيجية من الحوز.
العطب قديم
يقدّم المؤرخ امحمد جبرون لملخص كتاب “داء العطب قديم” بالقول إن تاريخ المغرب المعاصر الذي يبتدئ، بحسب التحقيب الذي نتبناه من حادثة «الحماية» سنة 1912، لا زال بحاجة إلى مزيد بحث ودرس بالرغم مما أنجز من أعمال وأبحاث داخل وخارج أسوار الجامعة المغربية، إذ لا زالت الكثير من القضايا التاريخية المتعلقة بهذا التاريخ غامضة أو تحول دون التأريخ لها المحاذير والأهواء السياسية والأيديولوجية، وكذلك اختفاء أو ضياع عدد من المصادر المؤثرة. ومن هذه القضايا قضية معاهدة الحماية التي وقعت بالعاصمة فاس بين الطرفين المغربي والفرنسي والتي لا زالت لحد الساعة وبالرغم من مرور أزيد من قرن على توقيعها، غير محسومة تاريخيا، وملابساتها غير واضحة بما فيه الكفاية.
ويعتبر جبرون كتاب “داء العطب قديم” لصاحبه ومؤلفه السلطان المولى عبد الحفيظ، من النصوص والمصادر التاريخية المهمة التي تُجلي بعضا من حقيقة الحماية، وترفع اللبس عن بعض جوانبها.
فالكتاب منسوب لأحد العناصر الأساسية في حادثة الحماية، وأحد الفاعلين في صناعة اللحظة التاريخية التي تبلورت في سياقها المعاهدة سيئة الذكر، التي فقد بموجبها المغرب حريته وسيادته الوطنية.
لقد كان المولى عبد الحفيظ قبل اعتلائه العرش، واليا على مراكش من طرف أخيه الذي يصغره سنا السلطان المولى عبد العزيز (1878-1943م).
وعاش المغرب بعد تولى هذا الأخير الحكم سنة 1894م، ظروفا صعبة، تميزت بازدياد الضغط الأجنبي على البلاد واقتطاع أجزاء ترابية مهمة منها في الصحراء والشرق والشمال. وكانت فرنسا في طليعة الدول الضاغطة على المغرب، والتي تتحين الفرصة للسيطرة عليه والنيل من سيادته. وقد استغلت في هذا السياق أحداثا معزولة كبعض أعمال المقاومة، ومقتل الطبيب الفرنسي موشان بمراكش، ومقتل عمال الميناء بالدار البيضاء سنة 1907، والتي كان يمكن تسويتها سلما ودون أعمال حربية واحتلالات وبالحوار والتفاهم مع المخزن العزيزي.
كانت فرنسا تسعى في غير ذلك، حيث استثمرت هذه الأحداث فاحتلت مدينتي وجدة والدار البيضاء واحتلت بلاد الشاوية بالإضافة إلى أطراف في الصحراء الشرقية…
وزاد من تفاقم هذه الأوضاع السياسية والأمنية التمردات والثورات الداخلية التي شهدتها البلاد في هذه الفترة، كثورة الرحامنة (1895م)، وثورة الشاوية والحوز ودكالة (1897م)… غير أن أشهر هذه الثورات وأقساها على المخزن ثورة الجيلالي الزرهوني الملقب ببوحمارة التي اندلعت سنة 1902م، والذي نجح في إسقاط سلطة المخزن والانتصار على عسكره في أكثر من معركة في المغرب الشرقي.
ولم ينجح المولى عبد العزيز وجيشه في القبض على بوحمارة وإلحاق الهزيمة به بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلوها لأجل ذلك. ولم يكن ممكنا ولا واردا وقوع مثل هذا الانكسار في ظهر المخزن المغربي في هذه الفترة لولا تضافر مجموعة من العوامل الأخرى وعلى رأسها الفساد السياسي والإداري الذي تفشى في البلاد والتي تمثل بعضه في بيع المناصب وانتشار الرشوة وسيادة الظلم بالإضافة إلى اتساع رقعة الحمايات القنصلية التي بلغت أرقى المراتب في الدولة حتى أن وزير الحربية في المخزن العزيزي المهدي المنبهي كان محميا من طرف الإنجليز.
كما أن ضعف كفاءة حاشية السلطان كان لها دور بارز في تدهور أوضاع البلاد وعجزها عن مواجهة الصعاب الداخلية والخارجية.
لقد استغل المولى عبد الحفيظ الوالي بمراكش هذه الأوضاع المتردية، وتزايد حجم السخط على المخزن العزيزي من طرف العامة والخاصة، بسبب عجزه عن حماية البلاد وتنازلاته الكثيرة للنصارى، وخاصة في مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906م)، كما استغل الهوة التي كانت بين المولى عبد العزيز وحاشيته وبين بعض القواد الكبار في الأطلس ومراكش، وعلى رأسهم القائد المدني الكلاوي وأخيه التهامي، فطلب العرش ونازع أخاه الملك، وذلك بتدبير من الكلاوي ورجاله في مراكش، حيث عقد جمع عام في جامع القصبة يوم الجمعة 1907م، بحضور قاضي مراكش مولاي المصطفى بن عبد القادر العلوي (ت 1933م) وقائد القصبة، وكتبوا خُلعا للمولى عبد العزيز وبيعة للمولى عبد الحفيظ.
قام المولى عبد العزيز لمواجهة تمرد أخيه بعد وصول خبر قيامه، وجمع جيشه ونهض إلى الرباط، ومنها أرسل محلته بقيادة ابن البغدادي إلى الشاوية، لكن هذا الأخير انهزم بدون حرب وتفرق عن السلطان رجاله وترك المصيره، فلم يجد غير الاستسلام لقدره حلا لمأزقه، فتنازل عن العرش سنة 1908، وعاش آخر حياته بمدينة طنجة.
أما المولى عبد الحفيظ فقد انتقل سريعا بعد ذلك إلى فاس، عاصمة الملك، ومهّد لذلك بمجموعة من الرسائل يلُرغب الناس خاصة وعامة في بيعته، وممن راسلهم كان الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني (ت 1909م) الذي تردد في بيعته قبل قبولها في الأخير.
وتلقى سلطان مراكش، المولى عبد الحفيظ بيعة أهل فاس قبل دخولها. وكان ممن تحمس لها وأدخل الناس أفواجا في عقدها الشيخ عبد الحي الكتاني (ت 1962م) الذي انتصر لها بين خاصة فاس وعلمائها. وتمت بيعة المولى عبد الحفيظ في الحرم الإدريسي بحضور العلماء وأفراد العائلة المالكة.
وتعرف هذه البيعة بالبيعة المشروطة لتضمينها عددا من الشروط والالتزامات التي وجب على السلطان الالتزام بها، وعلى رأسها مشاورة الأمة في أمورها، والتراجع عن التزامات مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906م).
وكان الشيخ محمد عبد الكبير الكتاني سالف الذكر ممن ألحوا على هذه الشروط وضمنوها عقد البيعة، ولعل ذلك كان وراء التنكيل به أخيرا من طرف السلطان المولى عبد الحفيظ الذي كان سبب وفاته.
لم يكن حظ المولى عبد الحفيظ أفضل من أخيه، فهو وإن تمكن من التغلب على ثورة بوحمارة والقضاء عليها (1909م)، فإنه بالمقابل لم ينجح في استتباب الأمن وإعادة الاستقرار للبلاد، وإرساء إصلاحات من شأنها وضع البلاد على السكة الصحيحة.
والأهم والأخطر من هذا، فإنه لم يستطع نقض بنود مؤتمر الجزيرة الخضراء التي التزم بنقضها بنص البيعة، حيث ساومته الدول الأجنبية، وعلى رأسها فرنسا، وخيّرته بين الاعتراف بالاتفاقات السابقة مقابل اعترافهم بشرعية سلطته، أو الاعتراف بشرعية منافسيه ودعمهم. وقد اختار المولى عبد الحفيظ في النهاية خيار أخيه المولى عبد العزيز وارتمى في حضن فرنسا ومن معها.
لم يمرّ هذا الانقلاب الذي أحدثه المولى عبد الحفيظ مرور الكرام، وتسبب في عدد من القلاقل والثورات وعلى رأسها ثورة محمد الزين في مكناس وثورة الشراردة وبني مطير وزعير… ولم يكن بإمكانه التغلب على هذه الثورات بما تحت يديه من عدة وعدد، ولم يجد بدا من الاستعانة بالفرنسيين الذين دخلوا قصره مبكرا ومنذ أيامه الأولى بفاس. وقد تمكن فعلا بمعاونة فرنسا أن يتغلّب على بعض هذه المشاكل، وأبرزها ثورة مولاي الزين الذي بايعته مكناس، الشيء الذي وضع شرعيته مبكرا موضع التساؤل.
إن خوف السلطان المولى عبد الحفيظ على نفسه وسلطانه من رعيته ومعارضيه من جهة، والإغراءات والوعود الكاذبة والتطمينات التي قدمها السفير الفرنسي الذي كان مرابطا بفاس، “رينو” (Regnault)، من جهة ثانية، أدى في النهاية بالسلطان إلى قبول الحماية والتوقيع على اتفاقها، وأخرج ذلك مخرج اجتهاد شرعي لا بد منه، ولا مفر منه، وألف في ذلك نصوصا أبرزها «داء العطب قديم».
إن الفتنة السياسية التي شهدها المغرب زمن السلطانين المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ كانت لها أسباب كثيرة. وقد أجملها سيدي محمد بن علال الوزاني، الذي قال في هذا الصدد لمحمد بن الحسن الحجوي (ت 1956م) يوما: «إن مولاي عبد العزيز لا علم له بالسياسة يريد أن يحكم بالحزارة (يعني الرغبة والاستعطاف) ولكن أوقية خوف خير من قنطار حزارة أما عبد الحفيظ فكان يحكم قواده بالخوف فقط ولكنه أسرف”
من المخطوط إلى المختصر
يعتبر امحمد جبرون أن المبادرة إلى تحقيق هذا الكتاب وإخراجه للعلن تأخرت كثيرا بالنظر إلى شهرته وأهميته وأهمية صاحبه، وأيضا بالنظر إلى المدة الزمنية الطويلة نسبيا التي تفصلنا عن لحظة كتابته.
فمن خلال إشارات عديدة، يبدو أن صاحبه ألفه في أحد منازله بالمنفى بعد إكراهه على التنازل على العرش واضطراره إلى مغادرة المغرب، خاصة بعدما شاع بين الناس اتهامه بالخيانة.
وبرّر جبرون اشتغاله على المخطوط ونشره بالحرص على إخراج وجهة نظر المولى عبد الحفيظ إلى النور وتمكين الباحثين من عناصرها الأساسية. “وقد سعينا فى هذا الباب سعيا حثيثا من أجل الحصول على تحقيق كامل لمخطوطة المولى عبد الحفيظ والتواصل مع من اعتنى بتحقيقها من الباحثين، ثم نشرها ، لكن للأسف باءت محاولاتنا بالفشل، كما أننا بعد الاطلاع المخطوطة ظهر لنا أن ليس كل ما تحتويه مفيد فيما نرومه، فكثير من هذه المحتويات عبارة عن استطرادات ونقول يمكن الاستغناء عنها، فاهتدينا إلى فكرة المختصر الذي يقتصر على إيراد النصوص التاريخية التي أنشأها المولى عبد الحفيظ والمتصلة بشكل مباشر بواقعة الحماية”.
هكذا؛ خلص جبرون إلى تحقيق أجزاء من المخطوط وطبعه وإتاحته لعموم القراء والباحثين، وذلك بالتعاون مع دار الإحياء للنشر والتوزيع بطنجة.
ويعتبر هذا المؤرخ أن كتاب “داء العطب قديم” هو مرافعة تاريخية وفكرية وشرعية أراد من خلالها السلطان المولى عبد الحفيظ الدفاع عن نفسه، وتبرئة ذمته مما لحق به من تهم وطعون، وأقساها تهمة الردّة والكفر، وأيضا تهم الخيانة والتفريط في مصالح الأمة.
ومن ثم فالكتاب لا يقدم تأريخا – بالمعنى الاصطلاحي – لحادثة الحماية، وإنما يقدم وجهة نظر سلطان مشارك في الحدث تم تجاهلها في التأريخ للواقعة، أو على الأقل لم تؤخذ بعين الاعتبار في سياق فهم وتحليل موقفه.
إن المسألة الرئيسة التي استغرقت كل الكتاب تقريبا، والتي استبدت بعقل روجدان السلطان المولى عبد الحفيظ فى هذا العمل هى مسألة الاستعانة بالفرنسيين واستجلابهم للدفاع عن نفسه والعاصمة فاس عندما ثارت عليه قبائل بنى مطير (الأطلس المتوسط) ومن حالفها، والتي اشتهرت بين عامة الناس وخاصته بـ «حكم الاستعانة بالمشركين»، والتي تعتبر نازلة تقليدية في الفقه السياسي الإسلامي، وشكّلت مقدمة لفرض الحماية على السلطان والبلاد.
لقد اضطر المولى عبد الحفيظ، أو على الأقل هكذا يصور الأمر في كتابه، إلى استدعاء الجيش الفرنسي إلى فاس الذي كان موجودا بالدار البيضاء بعد احتلالها ومنتشرا في ناحيتها بعد احتلال الشاوية ما بين سنتي 1907-1908، وقد اضطره إلى ذلك، الوضع الأمني الخطير الذي أمست عليه العاصمة بعد حصارها من طرف قبائل بني مطير التي خرجت من بيعته وبايعت أخاه مولاي الزين في مكناس.
لم يفوّت الفرنسيون الفرصة التي طالما انتظروها للتوغل داخل المغرب والتمكن من الإحاطة بالسلطان وإخضاعه عسكريا بعدما أعياهم الضغط الدبلوماسي، فانتقلوا إلى العاصمة فاس بدعوى نجدة السلطان المولى عبد الحفيظ واستعادة الأمن المفقود إلى العاصمة، حيث نجحوا في ذلك بأقصى سرعة ممكنة. وتمكنوا في سياق ذلك من الحصول على مبتغاهم الأول وهو إخضاع البلاد المغربية لسلطتهم من خلال أكذوبة الحماية واستنادا إلى معاهدة مختومة بطابع السلطان.
لا يشرح السلطان المولى عبد الحفيظ في هذا الكتاب، ولا يفصح عن الظروف والملابسات التي أحاطت بتوقيع معاهدة الحماية في فاس بعد «احتلالها» من طرف الجنرال مواني (Emile Moinier) بل يحاول أن يقنع القارئ بشتى الطرق والدلائل أن ما أقدم عليه اجتهاد سياسي شرعي، وفعل متواتر مارسته الملوك قبله، وأمر مشروع لا حرج أخلاقي أو شرعي في القيام به، حيث يقول:
“أما قضية فاس فغاية ما فيها استقدامهم من الشاوية لفاس، وسياتيك في خلافتنا أنها لم تقع حتى كانت دولة افرانصا بداخل وجدة وبصحراء تافلالت، وبجبل بني زناسن وبالشاوية التي ما بينها وبين فاس ومراكش إلا ثلاثة أيام وخمس ليال، واستولت بكبرائها على جيوش المراسي، وصارت لها المراقبة على الديوانة وسواحل بحر المغرب بأساطيلها، وملكت بيت مال المسلمين، وجعلته في بنك غيره من دولتها، ودفعت أموالها الباهضة للرؤساء، واتخذت خاصة الملك أعوانها، وصار لا يتحرك المتولي مثلنا، ولا نخطوا خطوة إلا برضاها ومشورتها، ووقع عقد المؤتمر الذي هو أدهى وأمر على حياة المغاربة، وأنزلت رؤساءها بسائر المراسي بأسرها.
أيقال في استقدامهم من الشاوية لفاس ردّة؟ تالله لا يقولها عالم منصف ولا مسلم يومن بالله واليوم الآخر، وإنما يقوله متعسف مكابر، ومن تأمل ما سيأتي يعلم الحق من الباطل بمراجعته خلافة الأخ مولاي عبد العزيز وخلافتي، فإن قيل كان الأولى الصبر والتجمل، ولو أدى ذلك إلى قتل نفسك. فالجواب لو أني تحققت عدم دخولهم، لو كان ذلك لفعلت، لكني تحققت أن ذلك من أعظم الأسباب التي تقوى ورودهم على أشنع حالة وأفظعها؛ وقد بيّنا لك أنهم ملكوا أطراف الإيالة ووسطها لأن في هذه الحالة كان زمام الرعية كله بأيديهم، يفعلون بهم ما أرادوه؛ فكانت هذه القضية على مثال الملجأ الساقط على حرير إن استمر على هذا قتله، وإن استمر على الآخر، فكذلك، إذ لو جرت، وقتلوني ومائتي ألف من المستضعفين شرفاء وعلماء دخلت، أو لم أصبر دخلت، لأن الحالة كانت على الهيئة التي وصفنا، وما وقع من هتك حرمنا والقبض على أصحابنا، وأخذ زرعنا وضرعنا، والاستيلاء على أملاكنا المشتراة بخالص أموالنا، يعلم كل منصف صدق لهجتنا، وعظيم يقيننا ، [وَلَا تَحْسِبَنَ الله غَافِلاً عَمَّا يعمل الظالمون)”.
وهكذا فالسلطان المولى عبد الحفيظ من خلال هذا الاستدلال يبرز أن المملكة كانت خاضعة عمليا لسلطة الاحتلال العسكرية والاقتصادية. ففرنسا سنة 1911 وبداية سنة 1912 كانت تحتل الكثير من الأراضي المغربية في الصحراء والشرق والغرب… كما أنها كانت تتصرف وبحكم أوفاق مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906) في مقدرات المغرب وموارده الاقتصادية وذلك بتحكمها في المراسي وفي المالية العمومية من خلال البنك المخزني الذي يقع تحت نظرها.
ومن ناحية أخرى، يتعلل المولى عبد الحفيظ ويبرر فعلته بخيانة البطانة والمقربين، الذي أمسوا موالين للفرنسيين ويخطبون ودهم في السر والعلن بمجرد اتصالهم بهم، بالإضافة إلى يأسه من المقاومة وأنها ضرب من العبث لا طائل من ورائها.
ولن تؤدي في النهاية سوى إلى إزهاق مئات الأرواح وقتل الشرفاء والعلماء …
إن هذه المبررات التي ساقها السلطان المولى عبد الحفيظ للدفاع عن نفسه وبغض النظر عن وزنها وقيمتها وأيضا صدقيتها، فإنها تظهر تقديرا سياسيا آخر، يراه امحمد جبرون جديرا بالاعتبار التاريخي، إلى جانب تقديرات ووجهات نظر أخرى خالفته واتهمته في دينه ووطنيته، كتلك التي أفصح عنها محمد عبد الحي الكتاني (ت 1962) في كتابه “المذكرات السياسية والعلمية”، حيث صوّر الأمر في شكل صراع على السلطة، وأن المولى عبد الحفيظ استجلب النصارى لأجل إلحاق الهزيمة بأخيه مولاي الزين ومن معه من قبائل الأمازيغ، وأنه تواطأ مع الفرنسيين وأظهر لهم الولاء لأجل السلطة، وأن ما ذكره من تبريرات لا علاقة له بحقيقة الموقف.
سلطان جريح
ومهما يكن، وبالرجوع إلى وجهة نظر المولى عبد الحفيظ، فإن الداء الذي عانى منه المغرب بحسبه قديم، لا يمكن حصره في الأحداث والوقائع التي شهدتها سنة 1912.
فالحماية أو الاحتلال على الأصح هو نتيجة حتمية لعهود الضعف والاضطراب الذي أصاب البلاد، والذي يعود جانب منه إلى توتر العلاقة بين المخزن والمجتمع، والتي عبر عنها السلطان في كتابه بما أسماه الطبائع «السيئة» لأهل المغرب، والتي لخصها في حب الدنيا وبذلها بسخاء على الغرباء، وفي المقابل البخل في صرفها في «المصالح البلادية والدينية»، بالإضافة إلى ميلهم، أي المغاربة، إلى الفتن.
هذا النقد اللاذع الذي صدر عن السلطان الذي شهد الحماية، وبغض النظر عن مبالغاته وتحامله الواضح والمفضوح، يعكس التوتر الشديد الذي ساد العلاقة بين المخزن الحفيظي والمجتمع سواء في العاصمة فاس أو في الأطراف، وهو ما عكسته التوترات والاضطرابات الشديدة التي شهدتها البلاد والتي كان الباعث عليها في أغلب الحالات الموقف من الأجنبي والتعاون والتواطؤ معه.
من ناحية أخرى، وإلى جانب توتر العلاقة بين المخزن والمجتمع، يذكر المولى عبد الحفيظ سببا آخر لتدهور الأوضاع في المغرب، ويتعلق الأمر بسوء العلاقة بين المخزن والنخبة (العلماء)، ويمثل لهذا الأمر بالعلاقة بين السلطان المولى إسماعيل (ت. 1727) والشيخ الحسن اليوسي (ت. 1691)، حيث عاب على هذا العالم بطريقة غير مباشرة انقباضه عنه، وتفضيله سكنى البادية، كما اعترض عليه في مسألة ثقل الجباية، والتي اعتبرها ضرورية في بعض الأحيان للقيام بما أسماه «المصالح البلادية».
ومن ثم، فتخلي العلماء عن المخزن وانحيازهم لعامة الناس أضر بالدولة والمخزن في الماضي ولا زال هذا الضرر ساريا في الحاضر بحسب ما يفهم من نص المولى عبد الحفيظ.
ولم يفت المولى عبد الحفيظ فى هذا السياق التنبيه إلى بعض مواطن ومظاهر الفشل السياسى الذى عانى منه المخزن المغربى فى الماضى من قبيل إهمال الأمور البحرية، حيث لم يتمكن المغاربة، بالرغم من الفرص التي أتيحت لهم وخاصة في بداية العصر الحديث من بناء أسطول بحري قوي قادر على الدفاع عن الحدود البحرية الممتدة للبلاد، وأيضا القيام ببعض المغامرات الاستكشافية فيما وراء البحار غربا وجنوبا، شأنه في ذلك شأن عدد من الدول الأوروبية التى كان بعضها أقل شأنا من المغرب، حيث بقيت رغبات أحمد المنصور السعدي (1603م) في هذا الباب مجرد أضغاث أحلام.
إن “داء العطب قديم” بالرغم مما يمكن أن يسجل عليه من ملاحظات تهم أساسا آراء المولى عبد الحفيظ الإصلاحية، فإنه من وجهة نظر تاريخية يعتبر مصدرا ووثيقة تاريخية نوعية وضرورية في سياق مشروع استكمال البحث حول ظروف وملابسات حادثة الحماية في مارس سنة 1912.
هذه الورقة نشرت ضمن العدد 63 من مجلة “لسان المغرب”.