story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

البيجيدي.. قول في “الخارج من الإنعاش”

ص ص

تابعت أجزاء من مؤتمر حزب العدالة والتنمية. هكذا أحزابُ المجتمع، تجد نفسك مهتماً بما يعتمل فيها. وليس كل حزبٍ يستحق أن تتابع مؤتمره، ولو كان حزب رئيس الحكومة “الأغلبي”، الذي لا يحتاج تمويل الداخلية، ولا هم يحزنون.

كان مؤتمر العدالة والتنمية برهانيْن: تنظيمي وسياسي.

أحد الرهانات أن العدالة والتنمية دخل المؤتمر “حزباً واحدا” ولم ينقسم. على امتداد العقد الأخيرة (منذ 2016) كانت تجري عملية “تدوير/ تناوب على القيادة” بين تقديريْن سياسيين ضمن نفس الأطروحة السياسية. بعد إعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة انسحبَ ومعه كثيرون، قبل أن يعود عقب انتخابات 2021، ليتراجع من دبّروا الحزب من 2016 إلى 2021، العثماني والرميد ومن معهما. وعند كل انعطاف حادٍ لم ينشقّ أي “تيار”، ولم يختر أحدٌ من قياداته تشكيل إطار سياسي بديلٍ. محاورةٌ داخلية متوتّرة، عبّرت عن خلافات وصلت حد “عدم التعايش”، وتغذّت من مشاكل التدبير الحكومي، لكنها لم تصل إلى حدّ الانشقاق الذي لم يبدُ في أيّة لحظة خياراً.

أيضا، جدّد المؤتمر قيادةَ الحزب بمقدارٍ من “المستقبليّة”، برهان استعادة لُحمة نالت منها المشاركة الحكومية على امتداد ولايتين قاسيتين شتّتت “شمل الإخوان” وكادت “تُذهب ريحهم”. وتلكم التصريحات التي تتقصّد الإيذاءَ الرمزيَ مبثوثةٌ في أكثر من موقع، على شكل سرودٍ سياسية شديدة الاحتدام، مفيدةٍ للجمهور، ولنا نحن أهل الصحافة.

نجح العدالة والتنمية في استعادة بعضٍ من سيرته الأولى: حزبٌ يملأ المشهد السياسي سياسةً، ومشاكسات. منذ 2021 انكفأ على نفسه بعد السقوط المشهود في الانتخابات من الطابق 125 (عدد مقاعده في البرلمان) إلى 13. وكان ذكاءً ألا يستهلك نفسه خارجياً، في انتظار إعادة جَبْرِ آلته التنظيمية المعطوبة، وقد خاض الانتخابات بنصفِ حزبٍ، وبقيادةٍ فقدت السيطرة. المؤتمر الأخير بعث الحزب من جديد لاختبار فرصته في ممكنات تعزيز موقعه في مشهد سياسي وانتخابي يبدو ملتبساً، بخياراتٍ محدودة “لا تسرّ الناظرين”.

عُقد المؤتمر للإثبات أن الحزب يخوض تمرينَ إصلاح أعطاله منذ إعفاء بنكيران وتكليف العثماني، الذي اختار، ومن معه، الاستمرار في التجربة الحكومية رغم الانسداد. ثم كانت نتائج انتخابات 2021 بِنْتُ مقدماتها في 2016، صادمةً حتى لمن خطّط لـ”تخسيس” و”إنقاص وزن” الحزب، حتى كاد يقتله.

في انتخابات 2021، هزم العدالة والتنمية نفسَه قبل أن يهزمه خصومُه. هزم نفسه وقد انفرط عِقْد قيادته أو كاد، وكان لبنكيران مساهمةٌ في تأجيج الوضع. ولعلّها أول انتخابات لا يشعر كثير من مناضلي الحزب أنهم معنيون بالتعبئة لها، واستثمار حضورهم المجتمعي في الحشد لمرشحيهم.

بنكيران عاد، في 30 أكتوبر 2021، في المؤتمر الاستثنائي، بمهمّة واحدة: إنقاذ الحزب من الاندثار ومنع تحوّله إلى “اتحاد اشتراكي آخر”، بعدما “اعتكف” عقب سحب تكليفه من تشكيل الحكومة، و”ترك جمل الحزب بما حمل”. خلال مؤتمر 26 و27 أبريل 2025 يبدو أنه نجح إلى حدّ معقول في المهمة، وأنه سيوظّف ما بقي من “فانْتْ سياسي” لخوض انتخابات 2026 المنتظرة بحزبٍ يستعيد زخمه التنظيمي وثقته في نفسه، في انتظار إطلاق آلة انتخابية ستُخبر عملياً عن حجم حضوره وما بقي له من تأثير في المجتمع.

خلال المؤتمر، استعاد بنكيران الحزبَ، وجعل الحزبَ يستعيد مناضليه، وأعاد لمناضليه حزبَهم. كان واضحا في كلمته في ختام المؤتمر أنه باقٍ لأنّ الحزب يمتلك رهاناً سياسياً. تحدث عن طموحات الأحزاب عموما في الانتخابات، وأن وجودها مرتبط بوجود رهانٍ، و”إلا خليوني نمشي بحالي”. من هنا نفتح نافذةً لنقاشِ الرهان السياسي للعدالة والتنمية ما بعد المؤتمر.

وفي هذا المستوى، نسجل ملاحظة بدت أكثر وضوحاً يومي 26 و27 أبريل 2025.

الحزبُ خلَعَ عن عنقه ربْقَة التطبيع. تحلّل، نفسيا على الأقل، من تبعات جلوس أمينه العام السابق للتوقيع على اتفاقية استئناف العلاقات مع إسرائيل. تخفّف من الثقل الذي رزح تحته على امتداد سنوات، وهو يجرّ شعوراً بالمشاركة في لحظة ناقضت كل ما آمن به.

الحزب الذي يطمح اليوم للمشاركة في الانتخابات يعلم أن الدولة المغربية، رغم حرب غزة لأكثر من عام ونصف، لم تنقضْ اتفاق استئناف العلاقات مع إسرائيل، وأن أيّة عودةٍ مفترضة للحكومة ستعني الانخراط في مسار يتجاوز المنتخبين (المارّين بين الكلمات العابرة) إلى خيارات كبرى عابرة للحكومات ارتباطا بالسياسة الخارجية. والتذكير الملكي، في رسالة التهنئة لبنكيران، لـ”عضوات وأعضاء حزب العدالة والتنمية” بـ”حرصكم الدؤوب على خدمة المصالح العليا للوطن التي تسمو فوق كل اعتبار”، يجوز قراءته، في اعتقادي، ارتباطا بهذه الجزئية أيضا.

فعلياً، لم يقدم العدالة والتنمية تصوراً للمرحلة المقبلة. لم يقدّم جواباً سياسيا لوضعيته في المشهد وطبيعة تحالفاته الممكنة، والأهم لطبيعة علاقته بالدولة، وأولويات الدولة من الآن إلى 2030، بعد عَشْرية رئاسة الحكومة (2011/2021).

في دولة كالمغرب، لا يكفي رهانُ أي حزبٍ، ولا ما يريده المواطنون، بل يجب استحضار عاملٍ حاسم في تشكيل جزء من السلطة التنفيذية: إرادة “الدولة”. على هذا الأساس نسأل: هل تحتاج الدولة فعلا للعدالة والتنمية في المرحلة المقبلة؟

دون تورّطٍ في الجواب، نستحضر معطيين على الأقل: تنظيم كأس العالم و”الحاجة إلى منسوب تسييس أقل مقابل نجاعة أكثر”. وأيضا الاستمرار في العلاقة مع إسرائيل باعتبارها إحدى رافعات الدعم الأميركي للموقف المغربي في قضية الصحراء، والذي يستجلب دعما متزايدا في العالم للطرح المغربي نحو التسوية السياسية. والبيان الختامي للمؤتمر التاسع أظهر حجم التباين مع “الدولة” في التقدير، بالدعوة إلى “إلغاء كل الاتفاقيات مع العدو الصهيوني وإنهاء كل شكل من أشكال التعامل معه، ومواجهة الاختراق الصهيوني المتصاعد لبلادنا في عدة مستويات، بما في ذلك في الجامعات المغربية والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والفنية” (نص البيان).

سننتظر أن يقدّم العدالة والتنمية عرضاً انتخابيا يمكن أن يكشف عمّا يعتمل في عقل الحزب، وما سيطرحه على المواطنين، الذين عاقب جزءٌ منهم الحزب في 2021 لأنه “خاصم” شعاراته خضوعاً أمام إكراهات المشاركة في الحكومة، وأيضا لأن المال السياسي “اشترى” الانتخابات.

تَصَوُّرُ العدالة والتنمية وجوابه الجاهز الآن هو بنكيران، وحضور بنكيران. ومع ذلك، كان واضحاً اجتهادُه لإظهار تأهيل قياداتٍ جديدة ما بعد جيل المؤسسين. من وقفوا على المنصة في ختام المؤتمر التاسع، وذكرهم بنكيران بالترتيب أمناء عامين مستقبليين محتملين ( إدريس الأزمي، ثم عبد العزيز عماري، ثم عبد الله بوانو) يشير إلى أن هاجس تأهيل قيادات جديدة موجودٌ، لكنها إلى الآن لم “تكبر” خارج جلباب بنكيران.

يبدو أن بنكيران ينهضُ، “مُتَوَكِّئاً على عصاه”، بدورِ جسرٍ واصلٍ بين جيلين في القيادة: من التناوب مع العثماني على رئاسة الحزب، إلى تسليمه لجيلِ قيادةٍ جديد. ولربما تركيبة الأمانة العامة والمجلس الوطني تحتاج قراءةً، لإدراك تحوّل في البنية التنظيمية لحزبٍ يتخفّف باستمرار من ثقل قياداته التاريخية، وكل تلك “الخصومات”، إلى تشبيبٍ جارٍ.

وإلى ذلك، سننظر كذلك في رهانٍ سياسيٍ داخليٍ هدف إلى طمأنة المناضلين بأن جهدهم الانتخابي لن يذهب هدراً، ضمن خطاب تعبوي، يحمل رسائل للدولة أيضا، جزم خلاله بنكيران بأن الحزب لن يسكت على أي تزوير للانتخابات المقبلة. تحدث عن أن تزوير دائرةٍ واحدة سيُقابل بـ”فضيحة”، وعن عشرة فضائح إذا زُوِّرت عشرة دوائر، وهكذا. وأيضا، ذكر أنه سيقاضي وزارة الداخلية لامتناعها عن صرف تمويل المؤتمر. وفي هذا استدعاءٌ لنوع من “الخطاب المتمرد” شبيهٍ بتلك اللحظة التي وقف فيها مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات حينها، خلف بنكيران، لإعلان الفوز في انتخابات 2016 دون انتظار إعلان وزارة الداخلية.

سياسياً أيضاً، كان لافتا مغازلةٌ لأحزاب لم “يرغب” فيها أخنوش. خاطب بنكيران الحركة الشعبية بـ”ممفاكينش معاكم”، والاتحاد الدستوري (اللي ما هو فالحكومة ما هو فالمعارضة)، وأيضا الاستقلال، الذي طالما أكد أن “مكانه الطبيعي معنا”، حين قال إن أمينه العام نزار البركة كان أول من هنّأه بإعادة انتخابه. كأنّ بنكيران يريد حشْدَ “ضحايا” أخنوش، مُدركاً أن التزوير في صناديق الاقتراع لم يعد خيارا مطروحا أمام الدولة، لكن “اللعب” كله يجري قبل يوم الاقتراع. وحدهما أخنوش وإدريس لشكر لم تجرِ دعوتهما لحضور جلسة افتتاح المؤتمر، بكل دلالات التباعد والتنافر.

قبل المؤتمر، قال بنكيران إن “حكومة المونديال ما غادي نسيروها لا احنا لا انتوما، غادي يسيّرها جلالة الملك”. وفي هذا وعيٌ بأن السنوات المقبلة برهاناتٍ تتجاوز الاعتبارات الداخلية إلى أمور استراتيجية وفق منظور “الدولة”، ارتباطاً بالصحراء، وبحدث تنظيم المونديال. ما يطلبه بنكيران، في الحد الأقصى، أن تمرّ الانتخابات “بسلام”، بما يعني بالنسبة له الابتعاد عن “التأثير غير القانوني” على إرادة الناخبين.

قصارى القول

حتى كثير ممن يختلفون مع الحزب معنيون ببقائه، ولهذا يدعمون وقوفه على رجليه، ويريدونه جزءاً من ديناميات تميل كفّتها ضد المجتمع. معنيون ببقاء هذا الصوت، حفاظا على حدّ أدنى من السياسة التي يريد رأس المال ابتلاعها.

لكن ما يعني شخصاً مثلي، هو أن يرصد حدود ممكنات دفع العدالة والتنمية نحو دمقرطة المغرب وتعميق المكاسب الديمقراطية فيه. أجده على هذا الصعيد هشّا إلى حدٍّ بعيد، وأتجرأ على القول إنه يعيد تدوير “الآداب السلطانية” من خلال حزب حديثٍ وحيوي ومتجذرٍ اجتماعياً. وعلى حقٍّ كلُّ من ينتقد ولايتيْه على رأس الحكومة، اللتين كانتا بعوائد محدودة لجهة الدمقرطة، بل لم يقْدر على تأمين مساحاته في الحكومة، والمُرَسَّمة دستورياً وقانونياً، وقَبِل بأنصاف الحلول، وأرباع الصلاحيات، وبسكوتٍ على انتهاكات جرت في وجوده. وهذا رهانُ صحافيٍّ، في تعليقه على رهانات حزب “خرج من الإنعاش”.