story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

زمن “مول الشاطو”

ص ص

تنقّلت ليلة أمس، خلال فترة خلودي للراحة (حتى راحتنا بحث عن الهموم والمشكل)، بين قنوات إخبارية دولية عديدة، متعقّبا الأخبار والتحليلات المتعلّقة بتطوّر الملف الأوكراني، حيث تتسارع الخطى تحضيرا لإعلان اتفاق وشيك بين واشنطن وموسكو، والذي سيتكشّف عن صفقة أقدّر أنها غير مسبوقة في التاريخ الحديث للبشرية.

ملخّص هذه الصفقة، التي ستكون لها أبعاد جيوسياسية كبيرة دون شك، هو اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم التي احتلّتها عام 2014، وهو ما يعني عمليا الاعتراف أيضا، بسيادتها على شريط طويل من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها مؤخرا، وتربط بين الأراضي الروسية وشبه الجزيرة هذه؛ والمقابل يتضمّن أشياء كثيرة أهمها انتزاع روسيا من حضن “العشيق” الصيني شديد الجاذبية، لكن هناك أيضا تحقيق حلم قديم للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ببناء نسخة من أبراجه التي اشتهر بها في نيويورك وبعض العواصم الأخرى، في قلب العاصمة الروسية موسكو.

في قلب قصة “أبراج ترامب” هذه، تتجلى الصورة الأوضح لذلك الخلط الفج بين ما هو شخصي وما هو سيادي، وتتحول الرغبة في تشييد مبنى فاخر باسم الرئيس الأمريكي في موسكو إلى جزء من مداولات الحرب والسلم، ويتم التفاوض على حدود أوكرانيا بما يشبه الشروط العقارية لعقد استثمار.

هذا المنطق يجد صداه، وإن بدرجات وأشكال مختلفة، في تجارب أخرى أقرب إلينا، من بينها حالة رجل الأعمال، رئيس الحكومة عزيز أخنوش.

فالرجل، الذي يدير إحدى كبرى المجموعات الاقتصادية في المغرب، يشغل في الآن ذاته موقع المسؤول الأول عن السياسات العمومية، وبات طبيعيا عندنا أن يأتي هذا الرجل إلى منصة البرلمان ويدافع عن فوز شركاته بصفقة إقامة محطة لتحلية مياه البحر في الدار البيضاء، ويقوم نائب برلماني هذا الأسبوع ليحذّر وزير الطاقة من أن تؤول صفقات طاقية مقبلة إلى شركات أخنوش.

وبالرغم من أن الظروف والسياقات لا تُقارن، فإن المبدأ واحد: تضارب المصالح، أو بالأحرى تزاوج المصالح، حين تصبح الحدود بين ما يخدم الشركة وما يخدم الدولة غائمة أو ملغاة.

لكن، وعلى عكس ترامب الذي يُجاهر بأن كل شيء للبيع، من السيادة إلى الأبراج، يظل خطاب أخنوش عندنا مغلّفا بلغة مؤسساتية، تسعى لإقناع الناس بأن التداخل بين سلطته الاقتصادية والسياسية أمر “عادي” أو “قانوني”.

لكن الفرق يظلّ في الشكل، لا في الجوهر: ففي الحالتين، نشهد انزلاقا خطيرا نحو خوصصة القرار العمومي، وتحويل الدولة إلى أداة في خدمة المشروع الشخصي، لا العكس.

وبين برج يُبنى قرب الكرملين، وشركة تستفيد من الدعم الحكومي وتُدير قطاعات استراتيجية، تبرز الحاجة إلى سؤال جوهري: هل ما زالت الدولة، في عصر الرأسمال المنفلت، قادرة على أن تمثل مواطنيها؟ أم أنها تحوّلت إلى واجهة لصفقات الكبار؟

لنعد إلى أوكرانيا، ولنتخيّل أن الحرب التي قيل لنا إنها تهدد بإشعال حرب عالمية ثالثة، وأنها أعادت رسم الحدود في أوروبا، ودفعت العالم إلى شفا أزمة غذاء وطاقة عالمية، يُعاد رسم مآلاتها اليوم على طاولة مفاوضات غير رسمية، لا تحكمها الشرعية الدولية ولا المواثيق الأممية، بل تُحددها حسابات استثمارية لرئيس أمريكي يراوده حلم قديم: بناء برج يحمل اسمه في قلب موسكو.

هكذا وبكل فجاجة، يعود مشروع “ترامب تاور موسكو”، ليطل من بين الأنقاض الدبلوماسية التي خلفتها حرب أوكرانيا، لا كرمز استثماري، بل كورقة في صفقة سياسية كبرى، تُسوَّق باعتبارها “مخرجا مشرفا” من الحرب، لكنها في العمق، قد تمثل إعلانا رسميا عن نهاية عصر كانت فيه السياسة الدولية تدّعي ولو مجازا، أنها تفصل بين ما هو عمومي وما هو خاص.

فمشروع البرج الذي بدأ حلمه في ثمانينيات القرن الماضي، وأحيته مسابقات ملكات الجمال في 2013، ومات مرارا على عتبات العقوبات الأمريكية، يعود اليوم لينبعث من رماده، ويُقدَّم كجائزة شخصية في مقابل إعادة تشكيل جيوسياسي للعالم.

الواقفون خلف هذا المشروع، من أباطرة العقار والمقربين من الكرملين، لم يُخفوا معالم “الطعم” الذي أعدّوه لاصطياد ترامب: برج بـ150 طابقا، يحمل اسم الرجل، ويدشَّن بحضوره، وموقعه على مرمى حجر من قصر الكرملين.

أما المقابل السياسي، فلا يقل فداحة: اعتراف أمريكي بالسيادة الروسية على القرم، ووقف إطلاق نار على خط الجبهة، وربما، وهذا هو الأهم، التخلي عن فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، أي إعلان انسحاب أمريكي غير رسمي من شرق أوروبا.

ترامب، الذي بدأ حياته بالمساومة على تراخيص البناء، لم يغادر يوما منطق “الصفقة” حتى عندما دخل البيت الأبيض.

وفي هذا الملف تحديدا، لا يخجل من القول إن الحرب في أوكرانيا يمكن أن تنتهي “هذا الأسبوع” إذا وافق الطرفان، أي روسيا وأوكرانيا، على عرض يتضمّن “فرصا اقتصادية ضخمة مع أمريكا”، أي المعادن الأوكرانية التي سلّمها الممثل الفكاهي (الرئيس الأوكراني) زيلينسكي مكرها وتحت التهديد، ومصالح تجارية شخصية لترامب في روسيا.

لقد تحوّل السلم الدولي إلى ملحق تعاقدي في مفكرة رجل أعمال، والاعتراف بالحدود إلى حافز لبناء برج، والتاريخ إلى رهينة عالقة بين الطوابق، كأي مصعد معطّل.

الرسالة التي تصلنا اليوم من واشنطن وموسكو معا هي أن القانون الدولي لم يعد يُحرّك الأحداث، وأن الحرب والسلم يُقرَّران بناء على ما إذا كان ترامب سيحصل على رخصة بناء برج في موسكو أم لا، (عبرة لمن يستهينون بقيمة رخص البناء في جماعاتنا المحلية).

وفي الخلفية، تسعى روسيا إلى تفكيك تحالف كييف-واشنطن، وإغراء ترامب بإبرام “الصفقة الكبرى”، ليس فقط لإنهاء الحرب، بل لتأمين موقعها في خريطة النفوذ العالمي، بما يشبه تقسيم جديد للعالم، لا عبر مؤتمرات فرساي ويالطا، بل عبر محادثات عقارية ومصالح استثمارية.

ترامب الذي يتحرك بمنطق تاجر في سوق مفتوح، لا يهمه من أوكرانيا سوى إمكانية تحقيق نصر دعائي في الحملة الانتخابية المقبلة، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئ دعم الديمقراطيات أو حماية الوحدة الترابية للدول.

فإذا اعترف بسيادة روسيا على القرم، ووافق على تجميد الجبهة، ووقف عضوية أوكرانيا في الناتو، فإن ما يهمه، كما كتب في منشور على منصته Truth Social، هو أن “كل الأطراف ستجني المليارات”.

هكذا، يُكشف الغطاء عن مأساة مضاعفة: حرب طاحنة اختُزلت إلى مفاوضات عقارية، وصراع وجودي لقوميات وشعوب اختُزل إلى توقيع عقد برج.

وإذا قيل قديما عن الشيوعيين إنهم كانوا يفتحون مظلاتهم في الرباط حين تمطر السماء في موسكو، فإن عهد “البيزنس السياسي” لا يقل تبعية، بل يضاعفها بسيناريوهات أشد سخرية: فعندما يفتتح ترامب برجه في موسكو، لن يتأخر أخنوش وأشباهه عن فرك أيديهم في الرباط..

إنها بالفعل حقبة “مول الشاطو للي عندو باطو.. يحضّر la lune cadeau sans problème…”