في “تأديب” لقجع

هل يسمح الزميل محمد الحاجي، الصحافي الرياضي المتميّز في مجلة “لسان المغرب” وموقع “صوت المغرب”، على “التطاول”؟. أدخل مساحته دون استئذان، وأتعهّد بأن ألزم حدّي وأكتب عن موضوع فوزي لقجع وديربي البيضاء من زاوية السياسة والاجتماع. فمعذرةً له وللزملاء من أمثال هشام رمرام ويونس الخراشي، ممن يذكروننا باستمرار (بالحال قبل المَقال) أنّه يمكن التأسيس لصحافة رياضية تحترم جمهورها.
ما حدث السبت 12 أبريل الجاري يكاد يكون استثنائيا. جمهورا الرجاء والوداد أوقفا “البيض في طاس” رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم لقجع، وقالا، بالفصيح الصريح، قبل مباراة الديربي “لسنا مجرد ديكور”، وبعدها أكملوا الرسالة ببلاغ مشترك ( في سابقة) محتواه “باقي شي صرف ها انتا خديتيه”.
عبّر الجمهوران عن غضب مكتوم، بسبب عمّا اعتبروه تهميشاً لفريقيهما، لذلك حين سنحت فرصة الديربي “ردّو الصرف بالزايد”. أما ما جاء في بلاغ ألتراس الرجاء والوداد بعد المباراة فقاسٍ، وحمل ذكاءً كبيرا في تدبير أزمة تابعتها “الدولة” بكثير من التيقُّظ، لاحتواء تداعيات غير مرغوبة خلال افتتاح المركب الرياضي محمد الخامس عقب إصلاحات نشعر، منذ سنوات، بأنّها بلا نهاية.
ما جرى طيلة الأسبوع الذي سبق ديربي الوداد والرجاء يكاد يكون “النكسة” الأكبر في مسار لقجع. الرجل “نجح” في توحيد “عدوَّين لدودين” كان يبدو مستحيلا اجتماعهما على رأي. وبحسابات أخرى: كان غير مرغوب اجتماعهما على رأي.
ولم يجتمع جمهورا الدار البيضاء على عدم حضور الديربي إلا مرّات قليلة، ولأسباب “كبيرة”، تسعف الذاكرة في استحضار ما أملاه واجبُ التضامن الإنساني عقب زلزال أكادير 1960، وأيضا ما جرى عقب الهزيمة القاسية للمنتخب المغربي، في الدار البيضاء، أمام نظيره الجزائري بخمسة أهداف لواحد، في دجنبر 1979، في خسارة كروية تحوّلت إلى ما يشبه “النكبة السياسية” وأشاعت أجواء من الإحباط أفقدت الكرة طعمها، في سياق مشحون ارتباطا بقضية الصحراء المغربية.
بعد أربعة عقود، “نجح” رجلٌ واحد أخيراً في دفع جمهوريْ الفريقين إلى “الاتفاق غير المعلن” على مقاطعة الديربي الذي يشكّل عنوانَ تميّز بسبب ما يجري في المدرجات تحديدا، وكل تلك المشهدية التي تسوّق المغرب واحدا من البلدان التي تُلعب فيها مباراة بمواصفات عالمية، وبتنافسية استثنائية بين جمهورين عريقين وبتقاليد راسخة في التشجيع والتأطير، وأيضا في تكثيف الرسالة السياسية التي تنظر الدولة فيها بعين الرقيب للتحوّلات الجارية في بنيات مجتمعيةٍ قلّ أن تكون محطّ اهتمام ودراسة، ويجب ألا تُقزّم في “غا جمهور ديال الكورة”.
سَرَت أحاديث أنه جرى توجيه أوامر إلى فوزي لقجع لعدم حضور إعادة افتتاح مركب محمد الخامس ومباراة الديربي التي مرت “بلا لون ولا طعم ولا رائحة”. وإذا صحّ تغييبه فهي رسالة “شديدة اللهجة” وتعبير عن عدم الرضى، لأن الذي وقع هو من تبعات تماسٍّ مع “أسلاك الضغط العالي” في المجتمع، التي يجب التعامل معها بحرصٍ، يراعي تفاصيل أمنية واجتماعية، حتى لا يُخطئَ أحدٌ في الحساب ويتعرّض للصّعق.
وشخصيا، منذ شاهدت فيديو جولة لقجع التفقدية الأخيرة للمركب الرياضي للوقوف على مدى تقدّم الأشغال، واستمعت لأسلوبه في توجيه التعليمات لمسؤولة في وزارة التجهيز، ثم تحويلها لمواصلة العمل مع والي الدار البيضاء، وكأنهما تحت مسؤوليته الإدارية، أدركتُ أنّ كرة ثلجٍ تتدحرج، وستكبر. وهذا شأنٌ بين مؤسسات الدولة ومسؤوليها، ولا يهمنا كثيراً الآن.
ما يهمني هو سلوك جمهوريْ الوداد والرجاء، الذي رفع “بطاقة صفراء” في وجه لقجع، وتحاشى، بوعي كبير، أيّ لعبٍ خشن.
من حقّ جمهور الفريقين أن يغضب. سنوات من العبث الذي توفّرت فيه كل أركان الاستهداف “مع سبق الإصرار”. تناوب على رئاسة الفريقين، منذ عقد، “النطيحة والمُترديّة وما عافَت الفِرق”. رؤساءٌ تحوّل بعضهم إلى سجناء، أو فارين من العدالة، أو متّهمين في ذممهم المالية وارتباطاتهم المشبوهة. ووسط كل هذا كان يمكن رصدُ منسوب “حزبية” غير نافعة. والأمر أكبر من يكون لعبةً بين البام والأحرار، وكل تلك الحماقات في “المدينة الغول”.
من حقّ جمهور البيضاء أن يصرخ في وجه ما يعتقدها “مؤامرة” كانت تحتاج قدرا من التعقّل و”التواضع” لتطويق آثارها مسبقاً، بتواصلٍ يخفّف من المخاوف، ويصوّب الرؤية، ويدحض المغالطات، قبل “استدعاء” الجمهور، كأيّ كومبارس، لصناعة فرجةٍ بدتْ تحت الطلب بعد سنوات من التجاهل. الألتراس تُحصي 10 ديربيات دون جمهور منذ تولّي لقجع رئاسة الجامعة، مضافاً إليها منع مكثفٌ لتنقلات جمهور البيضاء خارج المدينة. والأرقام تكون دوماً الأصدق في فضح النوايا.
بصيغة أخرى: بعد أن أصبح “الويكلو” هو القاعدة في الديربي، لم يعد ممكناً لجمهور الفريقين قبول لعب دور الكومبارس في مشهد فيلم أراد لقجع أن يمنح نفسه فيه دور البطولة. خلال زيارتين للملعب، ظهر رئيس الجامعة أمام عدسات الكاميرا موضوعا أكثر من الملعب نفسه. بل إنّ تعمّده استعمال لغة الأوامر، بصوت مسموع جداً، كان يُكمل مشهد “أنا وحدي مضوي الكرة”.
من حقّ جمهور البيضاء أن يطالب بالاحترام، وأن يرفض تحويله إلى “أبله يحمل تيفو”. وحسناً فعلت الألتراس حين لم تدعُ علناً ورسمياً إلى مقاطعة المباراة، وتركت الأمور تمرّ بأقلّ الخسائر.
جمهور الكرة عموماً حسّاس بشدّة للإساءة، وحين يسمع من رئيس الجامعة في فيديو شارد (اللي بغا كازا يمشي ليها) يمنح نفسه حقّ تأويل الكلام، إلى حدّ أن يفهم أن “مسيو لقجع” ليس رئيساً للجميع، وأنّ هناك تمييزاً يتعاظم. الجمهور يريد أن يتذكّر آخر مرة احتضنت فيها الدار البيضاء مباراة للمنتخب الوطني في السنوات الأخيرة، ويرى نصيبَ المدينة من مباريات كأس أفريقيا للأمم ونوعية المباريات. أما حظّ كازا من مباريات كأس العالم فتلك قصّة أخرى مع ملعب يبعد عنها بأزيد من 40 كليومتراً.
جمهور الألتراس حسّاس، ومتعصّب. جمهور غاضبٌ تمنحه المدرجات مساحةً ليصرخ، ويشتم، ويسبّ أمّ الدولة والمجتمع وحتى الفريق واللاعب الذي يحبّ، ثم يعود “سالما هادئاً” إلى “الحياة الطبيعية”. وفي هذا مصلحةٌ للدولة أولا قبل غيرها. وإذا لم يفهم المسؤول هذا يخطئ في الحساب، في ملعبٍ (مجتمعي) يَسهُل فيه ارتكاب الأخطاء، وتحصيل البطائق الصفراء والحمراء.
الألتراس ثقافة شبابية تُعبّر عن انتماء وطريقة تفكير، وتحتاج قدراً كبيرا من الفهم، وأيضاً التفهّم، باعتبارها حالة تشجيع تتجاوز الجمهور التقليدي إلى “كيانات مُنَظَّمَة” دون أن تكون تنظيماً، تتداخل وتتجاور فيها الروابط الاجتماعية و”الهويات الثانوية” ( ودادي/ رجاوي/..)، والتي غالبا تبقى ثابتة في تشكيل هوية الأفراد، والأحياء والمدن، و.. وهكذا.
الجمهور التقليدي والألتراس ليسا فئة معزولة عن المجتمع، بل تدمج فئات وطبقات اجتماعية تتساوى في حبّ الفريق. وخصوصية حبّ الفريق، تلك الرابطة التي تتعمّق لتشكيل هوية شديدة الحساسية، تمحي كل التمايزات وما يتكرس خارج الملعب من تفاوتات. ولهذا، وفي غياب تدافع سياسي واجتماعي ورياضي داخل المجالس المنتخبة مثلا في مدينة كالدار البيضاء، التي تحوّلت إلى “هَمْزة” كبيرة، وداخل جامعة كرة القدم والعصبة الاحترافية التي يتهمها الجمهور بالانحياز، تشعر الألتراس بأنها معنية بالدفاع عن فريقها و”مدينتها”. يوم السبت 12 أبريل سمحت الألتراس لنفسها بتملّك هذا الدور وملءِ الفراغ وممارسة “معارضة” رأت أنها غائبة داخل هذه المؤسسات.
جمهور الرجاء والوداد انتفض باحتجاج صامت لأنه أحسّ بأن وضع فريقيه الاعتباري مستهدف ممن ينبغي أن يكون على مسافة من الجميع، ومن الذين يجب أن يتصرفوا بقواعد ومعايير مؤسساتية عوض مزاجية الأفراد (اللي بغا كازا يمشي ليها).
وإنَّ ما غاب عن لقجع، ومن على شاكلته من “التقنوقراط” اللاهثين وراء “الجدوى” دون النظر في مآلات الأمور، أنه لم يشعر بالحاجة إلى فهم الفعل الجماعي لألتراس الوداد والرجاء، والنظر في ما يميز هذه الثقافة عن التشجيع العادي، ودراسة جذورها وسياقات نشأتها، والتي يمكن أن تتحوّل عند أول “سوء فهم كبير” إلى أزمة تُصعّب طبيعة تنظيم الألتراس والعلاقات داخلها من إمكانية تطويقها.
لهذا ربما تحركت “الدولة” لاحتواء الأزمة وتمريرها “بسلام”، على قاعدة “ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه”. وما لم يكن ممكنا إدراكه هو حضور ألتراس الوداد والرجاء للديربي بكل ذلك العنفوان المشهود عنها. أما “ما لم يُترك جُلُّه” فتمّ الحوار بشأنه لتجنّب دعوة الجمهور للمقاطعة، وترك المباراة تمرّ “بمن حضر”.
قصارى القول
استشعار أي شخصٍ أنه يتمتّع بفائض قوّة في نظام سياسي كالذي في المغرب “قد يورد المهالك”. لقجع سيبقى رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم الأبرز إلى الآن. ما تحقّق تحت إشرافه غير مسبوق وتاريخي ويستحق رفع القبّعة له، وما يُنتظر أن يقوم به مستقبلا كبير، وهو قادرٌ على الاستمرار في تحقيق النجاحات. وهذا ما يتمناه الجميع.
لكن، لربما حان الوقت للقول إن الشخص لا يجب أن يكون أرفع من المؤسسة، وهذه آفة تَظْهر في أكثر من محلٍّ من المهووسين بصورة “سوبرمان”، في دولة يجب أن يحترس كثيرا أيّ مسؤول “من أن يلبس أكثرَ من مقاسه”.
وأيضا، حان الوقت ليسمعَ من أدمن “الكلام الحلو” ما يجب أن يسمعه. وطبعاً، “بكل روح رياضية”.