story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تعيينات الملك.. رقصة الهيمنة والتهميش

ص ص

يحدث أحيانا في الحياة السياسية ألا يكون الخبر في الأسماء المعلنة بقدر ما يكون في لحظة الإعلان نفسها، وما توحي به من دلالات، وما تكشفه من تحولات، وما تؤشر إليه من صراعات في العمق.

التعيينات الملكية الثلاثة التي تم الإعلان عنها مساء الاثنين 24 مارس 2025، ليست مجرد شغلٍ لمناصب دستورية سامية، بل لحظة تعبير صريح عن معادلات السلطة الفعلية داخل الدولة، وتوزيع الأدوار بين مكوناتها، وإعادة تشكيل توازناتها الداخلية في سياق بالغ الحساسية.

نحن أمام ثلاثة أسماء اختارها الملك لتولي مناصب بالغة الأهمية: عبد القادر اعمارة على رأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، محمد بنعليلو رئيسا للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وحسن طارق وسيطًا للمملكة.

من حيث الظاهر، لا شيء صادم أو غير معتاد، لكن الغوص قليلا تحت السطح يُبرز أن التعيينات جاءت تفاعلا مع موازين قوة جديدة داخل الدولة، وتعبيرا عن صراع بين توجهين: أحدهما معتدّ بقوة السلطة والمال وسحر الجمع بينهما، والآخر متشبث بالبنية التعددية التي قامت عليها الدولة المغربية منذ الاستقلال.

أول ما يلفت الانتباه هو الطابع المتقارب من حيث السن والمسار الأكاديمي والرمزي لهذه الأسماء الثلاثة. فكلها شخصيات من جيل السبعينات، ذات امتداد معرفي وخبرة تراكمت عبر مؤسسات الدولة والمجتمع، وكلها خرجت من رحم الانتماء السياسي أو من سلك القضاء، في تجل نادر لهذا النوع من “التكنوقراط الوطني” الذي جمع بين الاستحقاق والنزاهة.

لكن الأهم من ذلك هو أن هذه التعيينات تأتي في سياق سياسي دقيق يتسم بتعاظم تأثير رئيس الحكومة عزيز أخنوش داخل بنية الدولة، إلى درجة بات بالإمكان اعتباره أقوى رئيس حكومة في عهد الملك محمد السادس، بل ويمكن أن نقارنه بإدريس البصري خلال سنوات مجده في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.

ليس لأن أخنوش يمتلك كاريزما سياسية أو مشروعية حزبية، بل لأنه، أو ما يمثّله من بنية متفرّعة عن البنية المخزنية، نجح في توسيع دائرة تأثيره في مفاصل القرار، وتحقيق سابقة في القدرة على فرض أسماء وإزاحة أخرى من المسؤوليات العليا، وهو ما لم يتحقّق قطّ في عهد محمد السادس…

ألم يخبرنا المندوب السامي للتخطيط السابق، أحمد الحليمي، أنه لا يوجد وزير أول أو رئيس حكومة ممن تعاقبوا على مجاورة السلطة منذ تعيينه في منصبه، لم يطلب إعفاءه. نحن إذن أمام معطى وليس استنتاج: ما عجز عنه جطو والفاسي وبنكيران وربما العثماني، تمكّن منه أخنوش.

يكفي أن نستحضر المسلسل الذي بدأ بإزاحة أحمد الحليمي نفسه من المندوبية السامية للتخطيط، مرورا بإبعاد أحمد رضا الشامي الذي أزيح ضمنيا من رئاسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي منذ تعيينه سفيرا في بروكسيل شهر أكتوبر الماضي، وصولا إلى استبعاد محمد البشير الراشدي من الهيئة الوطنية للنزاهة، لنفهم أن أخنوش لم يعد مجرد رئيس حكومة، بل لاعب مركزي يطبع الدولة بطابعه.

لم يسبق لأي رئيس حكومة في مغرب ما بعد 1999، أن استطاع التأثير في هندسة المؤسسات بهذه القوة، حتى حين كانت الحكومة يقودها حزب العدالة والتنمية بكتلة نيابية وشعبية كبيرة وزخم ما بعد الربيع العربي.

لكن الدولة، في أزمنة التمدد، تعرف كيف تُوازن بين النفوذ والاحتراز، وكيف تُحجّم طموحات بعض مكوناتها دون إعلان المواجهة. لذلك، فإن ما جرى يوم 24 مارس 2025، هو في وجهه الآخر، لحظة استعادة لتوازن مختل، ورد هادئ على محاولات بسط الهيمنة. وعندما نقول “استعادة” فأن المعنى الدقيق للكلمة مقصود، لأن أخنوش وإن لم يكن يملك سلطة التعيين والإعفاء تجاه مسؤولي المؤسسات الدستورية، فإن تعبيره عن “سحب الثقة” منهم يجعلهم عمليا في حكم المعطّل…

ألم تصبح هيئة الوقاية من الرشوة كالعضو المشلول من الجسد بقرار من أخنوش؟

لنلاحظ الآن كيف جرت عملية استعادة التوازن: تم تعيين عبد القادر اعمارة، الذي ورغم استقالته من العدالة والتنمية، يبقى واحدا من رموزه وقادته التاريخيين. وتم تعيين محمد بنعليلو، الذي بنى مشروعيته في القضاء ومؤسسة الوسيط على قاعدة احترام القانون ومناهضة الشطط. أما حسن طارق، فهو ليس مجرد أكاديمي أو دبلوماسي سابق، بل أحد آخر الأصوات اليسارية المتمردة التي بقيت وفيّة لقيم المدرسة الاتحادية، وواحد من الوجوه البارزة التي دعمت حركة 20 فبراير (انظر حوارنا في برنامج “ضفاف الفنجان” مع القيادي في صفوف الحركة منتصر الساخي) وساندت مطلب الملكية البرلمانية.

الرسالة واضحة: الدولة لا تسير على إيقاع رجل واحد. وإن كانت قد تجاوبت، في جانب ما، مع رغبات مركز النفوذ التنفيذي ممثلا في رئيس الحكومة، فإنها لم تفوّت الفرصة لتذكيره بأن هناك خطوطا لا تُخترق، ومؤسسات لا تُسلّم.

كما أن تعيين هذه الشخصيات بعينها، يمكن قراءته كترسيم لتحوّل في فلسفة الدولة تجاه معارضي الأمس القريب. فاعمارة يُعيَّن اليوم في منصب سام بعد أقل من سنة ونصف على استقالته من حزب “المصباح”، في سابقة هي الأولى من نوعها لقيادي بهذه الرمزية في حزب قاد الحكومة لعقد كامل قبل أن يُقصى من أجهزة الدولة.

وحسن طارق يُعاد بعثه من جديد في مؤسسة دستورية بعد أن طاله التهميش والتعيين بطعم الإبعاد و”النفي” كما يحصل عادة مع النخب المزعجة، في منصب سفير، في لحظة تشهد عودة قوية للهجوم على الاتحاد الاشتراكي ورموزه من قبل بعض الأصوات النافذة، ولعلّ ممثلها العلني حاليا هو عضو المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار محمد أوجار.

أما بنعليلو، فقصته هي خلاصة تجربة مغربية فريدة: قاض شاب، تمرّس في الإدارة من خلال وزارة العدل وتدبيره ديوان الوزير في عهد المصطفى الرميد، ثم برز في مؤسسة وسيط المملكة كعنوان على الإمكانات غير المُفَعّلة في المؤسسات الوسيطة، ونجح في واحدة من أعقد الوساطات الاجتماعية خلال أزمة طلبة الطب، وفكّك لغم مباراة المحاماة بتوازن دقيق، ليُعَيَّن الآن على رأس واحدة من أكثر المؤسسات حساسية في ملف مكافحة الفساد.

في كل هذا، تبرز المفارقة المركزية: إذا كان أخنوش قد نجح في إسقاط خصومه من مواقع المسؤولية، فإن الدولة، بذكاء موروث، رفضت أن تسلّمه مفاتيح المؤسسات التي سيطرت تقليديا على إنتاج المعلومة والتقييم والمحاسبة: المندوبية السلمية للتخطيط (بتعيين رجل المخزن شكيب بنموسى على رأسها)، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهيئة النزاهة، ومؤسسة الوسيط.

فأخنوش، بما يحوزه من نفوذ مالي وسياسي، يمثل اتجاها يرى في الدولة أداة لتمكين النموذج النيوليبرالي في أقصى تجلياته. لكن المغرب، بتاريخ صراعاته وتوازناته، لا يمكن أن يُختزل في منطق الهيمنة الواحد. ولذلك، فإن ما جرى هو تمرين جديد في فن الحكم المغربي: إرضاء المتغوِّلين بلا تمكين، واحتواء المنتقدين بلا استئصال.

وفي المحصلة، لا يمكن أن تُقاس هذه التعيينات الملكية بما تضيفه من أسماء، بل بما تكشفه من ملامح مرحلة عنوانها الأبرز: لا هيمنة مطلقة ولا تهميش دائم، بل رقصة معقدة على إيقاع دولة تعرف كيف تدير خلافاتها داخل جدران القصر، قبل أن تُخرجها في بلاغات رسمية.

أما من ينتظر انقلابا جذريا في اتجاه الدولة، فسيخيب ظنه، لأن المخزن لا ينقلب، بل يُحوّل، ولا يقصي، بل يُعيد التشكيل.

وبين شد وجذب، وباسم الاستمرارية والحداثة، تُكتب فصول جديدة من “المخزن الإصلاحي”، الذي يفاوض الجميع، ويقسو على الجميع، لكنه لا يفوِّت فرصة التوازن.

في النهاية، لا بد من الانتباه إلى الدرس الكبير في كل ما جرى: القوة قد تصنع النفوذ، لكنها لا تمنح الشرعية. والمال قد يفتح الأبواب، لكنه لا يصنع الثقة. أما الدولة، فهي تعرف من تختار، ومتى تختبر، وكيف تُعيد كتابة السيناريو، حتى لا تنقلب القصة إلى فيلم رعب لا جمهور له.