story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الرباط للجميع!

ص ص

قضية الهدم الممنهج لبيوت جزء من سكان حي السانية الغربية بمدينة الرباط، قد تنتهي بالنسبة للمعنيين المباشرين، لكنها لا يمكن أن تنتهي بالنسبة لعموم المغاربة بدون تسجيل الخلاصات الضرورية.

لسنا أمام سلوك تدبيري روتيني يمكن للسلطة أن تخطئ أو تصيب فيه، بل نحن أمام اختبار شامل لمصداقية خطاب الدولة حول احترام القانون ومساواة المغاربة أمامه.

نحن أمام تغيير شامل وجذري للمشهد الحضري والعمراني والديمغرافي لعاصمة المملكة المغربية، ينطوي على شبهة تطهير فئوي يؤدي تدريجيا إلى طرد الساكنة الفقيرة والبسيطة، و”توطين” وافدين جدد كل ما يميّزهم هو قدراتهم المالية ووجاهتهم الاجتماعية.

وقبل هذا وذاك، نحن أمام عيّنة تجريبية لاختبار مدى احترام الدولة لحقوق المواطن المغربي. فنحن أمام حدث تدبيري تجري أطواره على بعد مئات الأمتار فقط من مقرات أعلى مؤسسات الدولة، بمختلف أنواعها، وأمام أعين قسم كبير من صحافة المغرب والصحافيين المعتمدين لدى وسائل إعلام دولية، وحيث تقيم العديد من الشخصيات الحقوقية والمدنية والسياسية القادرة على الاحتجاج والترافع وايصال صوتها إلى أعلى مستويات القرار.

أي أننا بكل اختصار أمام واحدة من المناطق التي يفترض أن المغربي يتمتّع فيها بأعلى درجات الحماية والتحصين، وبالتالي يصبح أي تجاوز أو تقصير، مؤشرا عن واحد في المئة مما يمكن أن يصيب ذلك المغربي المقيم في عمق المغرب المنسي والمهمّش والمحروم من أدنى وسائل ممارسة المواطنة الحديثة.

حضرت ليلة أمس لقاء تواصليا احتضنه مقر حزب التقدم والاشتراكية، مع عدد من سكان هذا الحي الرباطي وممثليهم.

وأنصتت بكل تركيز إلى مختلف الروايات والشهادات، وكانت خلاصتي الشخصية أن الملف اكتنفه قدر كبير من “الخشونة” من جانب السلطات، وربما سوء التقدير و”الزيادة في العلم” على غرار ما جرى قبل سنوات، حين أقدمت السلطات على إغلاق قنطرة حديثة البناء عبر بناء جدار بطريقة بدائية، معتقدة أن غضبة ملكية جرى التعبير عنها بسبب مرور القنطرة بفضاء غابوي محمي قانونيا، تفيد صدور أمرا بإغلاق القنطرة، قبل أن يعاد فتحها بعد ساعات.

في النصف المملوء من الكأس، لابد أن نسجّل أن أزمة هدم بيوت المواطنين في جزء من حي المحيط التاريخي بمدينة الرباط، قد كشفت وجها إيجابيا من التفاعل الحضاري بين المواطنين والسلطات، من خلال الاحتجاج المنظم والعاقل الذي قام به السكان، مستثمرين جميع الوسائل السلمية الممكنة، من ترافع رقمي وضغط سياسي ومدني وتفعيل لشبكات العلاقات، وتوفير للمعلومات التي تساعد الرأي العام الوطني على استيعاب المشكل والتفاعل معه.

كما لا يمكنني في إطار من الأمانة والموضوعية أن أقفز على الإشادة التي قدّمها عدد من سكان الحي ليلة أمس في مقر حزب “الكتاب”، بالتفاعل الذي وصفوه بالإيجابي من جانب السلطات المحلية، على رأسها الوالي وعامل عمالة الرباط، وكل من باشا حيّ حسان وباشا حيّ المحيط الرباطيين، من خلال الزيارات الميدانية والجلسات التواصلية…

في المقابل، هناك جزء، أقدّر أنه الأكبر والأهم من الكأس، مازال فراغا ويحتاج إلى الكثير من التأمل والقراءة، وهذه أبرز عناوينه:

• هناك اختيار يميل إلى السرية في تدبير شؤون مدينة كبيرة وحيوية مثل الرباط، يستبطن اعتقاد أنتجته التراكمات التاريخية، يفيد أن المدينة تشكّل استثناء يجعلها تدخل ضمنيا في المجال المحفوظ ل”المخزن”، بدليل الصلاحيات الاستثنائية لعامل الرباط، وتفرّق دماء الصلاحيات التدبيرية للمدينة بين عدد من الوكالات والمؤسسات المعيّنة، وهو ما يفضي إلى تهميش شبه تام للساكنة التي تصبح بمثابة “الضيوف” الذين يمكن أن يجدوا أنفسهم في أية لحظة مدعوين للمغادرة “من غير مطرود”.

• يزيد سلوك المنتخبين المحليين، سواء في المقاطعات أو مجلس المدينة، في تعميق هذه الحالة التي ينتجها السياق التاريخي والقانوني الخاص للمدينة. منطقة حي المحيط هي واحدة من أكثر المجالات الخصبة التي تنتج الأصوات الانتخابية وتمنح المقاعد في البرلمان والمجالس المحلية والجهوية، لكن الأزمة الأخيرة جعلتنا من جديد أمام حوار مباشر بين المواطنين وسلطات وزارة الداخلية، ولم يكلّف أي من المنتخبين الكبار للحي أنفسهم عناء النزول إلى الميدان القيام بأدوار التأطير والوساطة. وباستثناء مبادرات مثل تلك التي قامت بها فيدرالية اليسار وحزب التقدم والاشتراكية، ظلّت جلّ الأحزاب خارج التغطية، بما فيها حزب العدالة والتنمية الذي كان يحصل في السابق على مقعدين برلمانيين، من أصل أربعة، في دائرة المحيط.

• الأزمة الأخيرة كشفت عن ارتباك كبير وتضارب في قرارات السلطات، حيث استمعنا ليلة أمس إلى تفاصيل تبعث على الحيرة، لسكان وتجار الحي الذين تلقوا تعليمات متناقضة خلال فترة قصيرة، دعتهم في مرحلة أولى إلى ترميم وتزيين واجهات البنايات، ثم راحت تأمرهم بطريقة شفوية بالرحيل، باقتراح بيع يبدو قانونيا على الورق لكنه معيب وفقا لروح الدستور والقوانين وميزان القوة بين المواطن والسلطة، وتجاهل مصائر فئات اجتماعية عديدة تعاني الهشاشة، مثل الورثة المتعددين والمكترين البسطاء وأصحاب الأنشطة المهنية والتجارية المختلفة… هذا الارتباك سيخلّف ندوبا قد لا ننتبه إليها اليوم لكنها ستكون عميقة في تمثّلنا الجماعي لمكانة القوانين والحقوق في العقل الباطن للسلطة.

• لقد عرفت هذه المنطقة من مدينة الرباط تغييرات تدريجية في المشهد العام خلال الأعوام الأخيرة، تتضمن إيجابيات عديدة، من بينها تهيئة الكورنيش، حيث أصبح سكان العاصمة يتوفّرون لأول مرة على مساحات خضراء عمومية تطل على المحيط الأطلسي، ومسابح عمومية كبيرة، وطريقا ساحلية مزدوجة ومجهزة بكل ما تحتاجه من أضواء وإشارات مرور و ممرات للراجلين… لكن هناك تغييرات أخرى تبدو كما لو تعنّف الشعور العام والوجدان الجماعي لسكان المدينة، من خلال الطرد الجماعي الذي همّ أحياء شعبية، في مقابل استنبات رموز تحيل على الرأسمالية الفجة، من محلات تجارية للماركات العالمية ومواقع تاريخية نفيسة تحوّلت إلى منشآت سياحية خاصة وإطلاق لمشاريع لا تنسجم مع طبيعة هذه الأحياء مثل بعض البنيات الرياضية والترفيهية ذات الحمولة البورجوازية بمعنى أو بآخر.

كل هذا يحيلنا على تغيير قسري يهدّد بتغيير التمثل الشعبي لعاصمة المملكة، من فضاء للتنوّع والاختلاط، نموذجه الأبرز هو حي تواركة الشعبي المجاور للقصر الملكي، إلى “منتجع” للأغنياء والمحظوظين وخدّام الدولة. بينما المفروض أن نتعهّد ونحمي هذه الصورة المتوازنة للمدينة، بأحيائها الشعبية و”الراقية” والمتوسّطة، لتبقى عاصمة المملكة رباطا لجميع المغاربة.