صورة ملاك.. بأي ذنب نُشرت؟!

أثارت تدوينة قصيرة نشرتها يوم الاثنين 03 مارس 2025، أنبّه فيها إلى التجاوزات الأخلاقية والمهنية التي ينطوي عليها نشر صورة الطفلة الموقوفة ضمن ما يعرف بملف عائلة هشام جراندو، ردود فعل غاضبة من جانب البعض، بمن فيهم أصدقاء لا أشكّ في حسن نيّتهم وفي خبرتهم الحقوقية والمهنية، والذين اعتبروا أن نشر الصورة يندرج ضمن الدفاع عن الطفلة، ولا يحمل أي ضرر يمكن أن يلحقها.
ودون أن يكون القصد هو تحويل النقاش من مصيبة توقيف الطفلة في حدّ ذاته، إلى مسألة نشر صورتها، وبعد تأكيد أن أكبر ضرر تعرّضت له هذه الفتاة حتى الآن هو حرمانها من حرّيتها ومنعها من متابعة دراستها والتمتّع بحياة طبيعية، وأن على القوانين والمؤسسات الساهرة على تطبيقه أن تغلّب المصلحة الفضلى لهذه الطفلة وتمتّعها بجميع ضمانات الإنصاف والحماية؛ فإن مثل هذه الوقائع تتطلّب أيضا اشتباكا مع تفاصيلها الحقوقية والأخلاقية، بل والقانونية التي لا تمنع نشر صور الأحداث المتّهمين فقط، بل تمنع حتى نشر الأحرف الأولى لأسمائهم أو مجرّد إشارات تسمح بالتعرّف عليهم، في نص الأحكام النهائية الصادرة بشأنهم، بله المعطيات المتعلّقة بالبحث والتحقيق، أي فترة التمتّع بقرينة البراءة.
بل إن القانون يقيّد حتى طريقة تسجيل العقوبات الصادرة في حق القاصرين ضمن السجلات الجنائية، ويمنع ظهورها في البطائق الصادرة عنها، كي لا تسبّب لهم أي ضرر قبل انطلاق مسارهم الدراسي العالي أو مسارهم المهني…
هذه محاولة متواضعة للدفاع، بالدليل والحجة، عن فكرة كنت أعتقدها بديهية بالنسبة للأوساط الحقوقية والمهنية الصحافية، مفادها أن حقّ الأطفال في الحماية الكاملة أثناء خضوعهم للمساطر القضائية، يقتضي الحجب التام لهوياتهم وأسمائهم وصورهم.
فعندما يتعلّق الأمر بفتح مساطر قضائية تهمّ القاصرين، تستبعد حتى قاعدة إذن الوالدين أو أولياء الأمر قبل النشر، لأننا لسنا أمام نشر صورة طفل يتفرّج في مباراة رياضية أو يزور معرضا للكتب، بل بصدد مسار يفترض وجود اتهامات وكشفا للأسرار عن طريق البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، بكل ما يسخّرانه من إمكانيات لاقتحام الحياة الخاصة والاطلاع على المراسلات والتنصّت على المكالمات وجمع الادعاءات والادعاءات المضادة…
وبما أن الطفل لم يكتسب الأهلية القانونية الكاملة بعد، فإن واجبنا كمجتمع هو ترك هذه التجربة بالكامل تحت حجاب سميك يخفيها عن مستقبله الذي لم يبدأ بعد.
ولا يمكن تبرير خرق حقّ أصيل وحيوي مثل الحقّ في الصورة بالنسبة لطفل، بأي تجاوز يمكن ادّعاء التصدّي له. من أراد أن يدافع عن الطفلة الموقوفة عليه أن ينهج السبل القانونية والأخلاقية، ويتوجّه إلى القائمين على إنفاذ القانون، ويترافع ويحتجّ ويتظاهر ويعتصم إن شاء ذلك، لكن لا يمكن تحويل طفلة، مهما كانت النية سليمة، إلى حطب تأكله نار الصراع السياسي أو الحقوقي.
هذا الحديث موجّه لمن يؤمن بالفعلين الحقوقي والصحافي في سياق مدني، يرمي إلى تقويم وتحسين سلوك السلطة والمؤسسات، والتي لم تنشر أي معطى يكشف هوّية الطفلة بالمناسبة. ولا يمكننا التعاطي مع فعل توقيف طفلة، في سياق ملف تحيط به الكثير من الشبهات بالفعل، كما لو أنه يتعلّق باختطاف من طرف عصابة أو اختفاء يجعلها مجهولة المصير وبالتالي تصبح الاستعانة بصورتها مبررة بمصلحتها.
من ناحية أخلاقيات النشر المتعلّق بالقاصرين المعروضين على القضاء، تمنع جل المدوّنات والمواثيق تحويل قضايا الأطفال إلى مادة لجذب المشاهدات أو العناوين الصادمة. وتنصّ مدونات السلوك الإعلامي في جل دول الاتحاد الأوروبي والمجلس الصحفي البريطاني على منع نشر صور أو أسماء الأطفال المتورطين في قضايا جنائية إلا إذا كان ذلك يخدم مصلحة عامة واضحة.
ولا تُنشر صور أو معلومات تحدد هوية الأطفال المتابعين قضائيا، إلا في حالات استثنائية نادرة تخدم المصلحة العامة، وبشروط صارمة تحمي حقوق الطفل. وتستند هذه القواعد إلى مرجعيات دولية ووطنية، من بينها اتفاقية حقوق الطفل (1989) التي تنصّ على حق الأطفال المتابعين قضائيًا في معاملة عادلة تحترم كرامتهم وخصوصيتهم.
وينص الدليل الذي وضعته منظمة ال”يونيسيف” للتغطية الصحافية المتعلّقة بالأطفال، على ضرورة تغيير الاسم وإخفاء الهوية لأي طفل يتم تحديده على أنه متهم أو محكوم عليه بجريمة.
هذا لمن يصرّ على مناقشة الموضوع من زاوية القواعد الأخلاقية الكونية المتعلّقة بالنشر الخاص بالأطفال. أما من يعشق المرجعيات القانونية للدول الديمقراطية والمتقدمة، فأحيله مثلا على القانون رقم 2024-120 الذي صدر في فرنسا قبل عام واحد، والذي جاء خصيصا لحماية الحق فبي الصورة لدى الأطفال. أو ليراجع قصة الطفل الإيطالي الذي رفع دعوى قضائية ضد والدته، لأنها نشرت صورا له بدون إذنه، وطالبها بتعويض، وحكمت له المحكمة بالفعل بإلزام والدته بحذف الصور المنشورة ومنحه تعويضا بقيمة 10 آلف أورو. هذا الطفل طالب المحكمة بتمكينه من إتمام دراسته في الخارج ليتخلّص من الوصم والتنمرّ الذي سبّبته له الصور المنشورة من طرف والدته.
دعونا من فرنسا وإيطاليا، وتعالوا نعود إلى المغرب. لنترك ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة المغربي الذي ينص على أن “من مسؤوليات الصحافة الأخلاقية، حماية القاصرين وصورهم في قضايا حساسة اجتماعيا”، ولنترك أيضا قرار المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري رقم 17-42، الصادر في21 نونبر 2017، الذي يوصي بعدم الكشف عن هوية الأحداث موضوع مسطرة قضائية بما يحترم مصلحتهم الفضلى خلال كل مراحل التقاضي؛ ولنطلّ على الضمانات التي يوفّدها قانون المسطرة الجنائية المغربي.
لا أتصوّر مرجعية حقوقية أو مهنية تضع قواعد تنزل تحت السقف الذي يوفّره القانون لضمان الحقوق والحريات، بل إن مدوّنات السلوك ومواثيق الأخلاقيات تأتي أصلا لتقييد ما هو متاح قانونيا لتعزيز ضمانات الحقوق والحريات.
فالمادة 466 من هذا القانون، تمنع بشكل واضح وصريح نشر أية بيانات عن جلسات الهيئات القضائية المتعلّقة بالأحداث، في الكتب والصحافة والإذاعة وعن طريق الصور والسينما والتلفزة أو أية وسيلة أخرى. وبطبيعة الحال، لا حاجة بنا للتذكير بأن مرحلة الجلسات هي التي تصبح فيها الملفات القضائية علنية ومتاحة للعموم، عكس مراحل البحث والتحقيق التي تتسم بالسريّة.
وتعود هذه المادة لتنص على منع كل نشر بالطرق السابقة، لأي نص أو صور تتعلّق بهوية الأحداث الخاضعين للمحاكمة، وتعاقب كل نشر بغرامة تتراوح بين 10 آلاف و50 ألف درهم. كما يمكن للمحكمة أن تأمر بمنع أو توقيف وسيلة النشر التي ارتكبت بواسطتها المخالفة، لمدة لا تتجاوز ثلاثين يوما. كما يمكن للمحكمة أن تأمر بمصادرة، أو إتلاف المطبوعات، أو الأشرطة الصوتية أو المصورة أو غيرها من وسائل النشر كليا أو جزئيا، أو بحذف جزء منها، أو منع عرضها أو بيعها أو توزيعها أو إذاعتها أو بثها أو تداولها.
وحتى الأحكام النهائية التي تصدر في قضايا يخضع فيها قاصرون للمحاكمة، والتي يفترض أنها تصبح جزءا من الاجتهاد القضائي، يُمنع نشرها متضمّنة لأبسط إشارة تسمح بكشف هوية الطفل المعني، بما في ذلك الأحرف الأولى من اسمه أو صور أو رسوم أو أية إشارة أخرى من شأنها التعريف به. وتعاقب المادة 466 من قانون المسطرة الجنائية على مخالفة ذلك بغرامة مالية.
بل إن مراكز حماية الطفولة التي تتولى استقبال ورعاية القاصرين المتابعين أو المدانين، لا يمكنها نشر أي إعلان يهم طفلا انقطعت صلته بأسرته، إلا بإذن من قاضي الأحداث، وذلك حرصا على حماية هوية الطفل المعني ما أمكن.
جلسات البحث والمناقشة والنطق بالحكم، المتعلّقة بالقاصرين بدورها مشمولة بالسرية التامة، وتحدد المادة 478 من قانون المسطرة الجنائية بشكل حصري لائحة الأشخاص الذين يمكنهم حضورها.
وبعد صدور الأحكام، تنص المادة 505 على تسجيلها في سجلات خاصة، منفصلة عن سجلات باقي الأحكام، ولا تتاح هذه السجلات للعموم.
وتعود المادة 506 لتنصّ على عدم تضمين العقوبات الصادرة في حق القاصرين في بطائق السوابق التي تصدر بغرض تقديمها ضمن بعض الإجراءات والملفات الإدارية، باستثناء البطاقة رقم 2، أي التي تقدّم للقضاة والسجون.
كل ذلك حرصا على منع أي أثر للمحاكمة التي يخضع لها الطفل على حياته المستقبلية كبالغ.
هل يُعقل مع كل هذه الضمانات التي تمتدّ إلى ما بعد صدور الحكم النهائي، أن نأتي في مرحلة ما قبل انطلاق مرحلة الجلسات “العلنية”، وننشر صور وهويّة طفل يعتبر من أكثر المتمتّعين بالضمانات الدستورية والقانونية لحقوق أساسية مثقل قرينة البراءة والحق في الصورة؟
أعود في النهاية لأقول إن اعتقال طفلة في ملف تحوم حوله الكثير من الشكوك بشأن دوافعه وحيثياته واحتمال وجود استهداف أو تقاض بسوء نية أو بشكل كيدي؛ هو الخطأ الأكبر والأصلي.
لكن على قوى المجتمع أيضا من حقوقيين وإعلاميين، أن يقدّموا المثال في احترام الحقوق والحريات، وعدم انتهاكها.
لا يمكن أن نمنح أنفسنا الحق، لأننا نناضل أو نواجه سلطة في حالة شطط أو تجاوز، لعدم احترام القوانين، وتحويل الضحايا المفترضين أو الشهود، إلى قرابين في محراب النضال والصراع من أجل الإصلاح. وأنا أعتذر هنا للطفلة موضوع هذا النقاش لأنني أذكر اسمها.
إذا كنا نقبل بمنطق “الكاميكاز” في النشاط الحقوقي والنشر الإعلامي، فإننا لا يمكن أن نؤاخذ على السلطة نهج منطق “للي دوا يرعف”!