حرب إبادة على الفقراء

الفساد مُمَأسسٌ، وبصفاتٍ وألقاب، ويركب سيارات بترقيم أسطول الدولة، ويتحكّم في مؤسساتٍ، ويمارس العقاب على أجهزة الرقابة نفسها.
هذا ليس كلامَ صحافيٍ يزعم أنه يعرف أكثر مما يعرف عامة الناس بهذا الخصوص. الناس تتحدث في المقاهي ووسائل النقل وأينما اجتمعوا عن سطوٍ مشهود ومعلوم لفئة من الناس على ما يجب أن يكون لكل المواطنين في هذا البلد.
لم نعد سواءً في بلدنا. ربما لم نكن سواءً دائما، لكنّ الهوّة تتسع بشكل مخيف. وابتداء من الآن، سيكون مبرّرا أن يضع الجميع يده على قبله في انتظار الآتي.
الملك في الرسالة التي أهاب فيها بعدم إقامة شعيرة ذبح الأضاحي تحدث عن “ظروف صعبة” وعن “ضرر محقّق سيلحق بفئات كبيرة من أبناء شعبنا، لاسيما ذوي الدخل المحدود”. لم يتحدث الملك عن فئات محدودة، بل عن فئات كبيرة. هكذا!!!!. وكل كلمة في خطابات الملك ورسائله وإشاراته يفترض أنها تحمل دلالة، وتعني ما تعنيه. والحديث عن الظروف الصعبة تأكيدٌ لما تشعر به فئات من الشعب منهكةٌ ومرهقة و”واصلة فيها لعظم”.
رسالة الملك صكّ إدانة لهذه الحكومة ورئيسها، وللحكومات التي قبلها وكان أخنوش وزيرا للفلاحة فيها، وللمستفيدين من سياساتها المتوحشة. و”الظروف الصعبة” من فعل البشر. سنواتٌ طويلة من المخطط الأخضر الذي حوّل كل شيء إلى قاحل ويابس، فلا هو حافظ على الثروة الحيوانية، ولا حمى قدرة المواطنين الشرائية. فمن ربح إذن غير الحيتان الكبيرة وعُتاة العيش على الريع الذين ازدادوا سُمنة؟.
دولٌ إسلامية كثيرة غارقة في الحروب، ومناخاتها أكثر جفافا، وأراضيها أشدُّ قحْطاً، ولم تضطر لاتخاذ قرار وقف شعيرة ذبح الأضاحي. وحدنا ثرواتنا الحيوانية مهددة بالإبادة، رغم كل المال العام السائب إلى أرصدة كبار الفلاحين، وثروتنا المائية مهدورة على التصدير، فيما “فئات كبيرة من أبناء شعبنا” صارت تشتري الخضر بـ”الرَّابْعة والنص كيلو”، لأنه لم يعد في المستطاع.
قضية مول السردين بدورها كشفت ما كشفت عن فشلٍ في تأمين السمك بثمن معقول لمواطني بلد بواجهتين بحريتين. قصة السردين ليست أمراً معزولا عن مشهد عام. يمكن أن تُسقطها على كل شيء، من المحروقات إلى خروف العيد، وستقرأ نفس القصّة، بنفس الأسلوب، وستؤدي بك إلى نفس النتيجة: لصوصٌ صاروا يعرفون من أين يُؤكل كتف الشعب، وقطّاع طرق قادرون على اعتراض طريق أي قرار أو فكرة أو مشروع وتحويلها إلى فرصة للاغتناء، ما يولّد شعورا ثقيلا بالتغوّل في استهداف معيش الناس، وتهديد استقرار البلد.
مأساةٌ أن يغمض وزير الفلاحة عينه عن كل شيء ليبرّر ارتفاع أسعار الأسماك بالجفاف. لن أجتهد في محاولة فهم ما يقصده، ولا التحقّق من علميته. أشعر أنه كان يستخفّ بعقولنا، ويمارس “لعبة غُمّيضَة” تستفيد منها لوبياتٌ وفسادٌ يصطاد الشعب. والشجرة لا تخفي الغابة أبدا.
ومأساة أيضا أن يتحول البرلمان إلى مؤسسة لتمرير القوانين على المقاس لاستهداف المواطنين وسرقة جيوبهم، ونقل المال العام من أرصدة الدولة إلى الحسابات الخاصة. أتذكر بوضوح كيف كادوا يمررون، في برلمان يُلاحَقُ العشرات من أعضائه بالفساد، تعديلا على قانون المالية لخفض رسوم استيراد العسل من 40% إلى 2.5%، وفي الخلفية نقرأ عن اتهامات بـ”تضارب المصالح”، وأن التعديل “يخدم أساسا مصالح برلماني”.
أو ذلك الوزير السابق الذي استفاد من إعفاء تعديل على قانون للمالية ليتهرّب من أداء ضريبة مستحقّة للدولة عن بيع إحدى شركاته بملايير الدراهم.
نفس الأمر تكرّر في مشروع قانون المالية 2023 حين أُدرج تعديل بخصوص الضريبة على الشركات، الذي ينص على تطبيق ضريبة 20% فقط بدل 35% على الشركات التي تستثمر مبلغًا لا يقل عن 1 مليار ونصف مع الدولة، على أن تكون الشركة قد جرى إنشاؤها اعتبارًا من يناير 2023، قبل أن يتبيّن أن كل تلك التعديلات جرت لتتوافق الشروط مع شركة لرئيس الحكومة حازت في النهاية صفقة تحلية مياه البحر البيضاء.
وأتذكر كذلك كيف استفاد سياسيون من الإلغاء الضريبي بخصوص استيراد الأبقار لمواجهة غلاء اللحوم في السوق الوطنية، لكن الأسعار صعدت إلى الجبل ولم تنزل. ما جرى بكل بساطة، هو أن حفنة من الجشعين استفادوا من المال العام لتكثير ثرواتهم وتضخيم أرصدتهم البنكية، ثم تركوا الأسعار تلتهب.
وأتذكر أيضا الترخيص باستيراد الأكباش لتغطية الخصاص في عيد الأضحى الماضي، وتخصيص دعم من المال العام للمستوردين، ورغم ذلك ارتفعت الأسعار بعدما وجّه “الأكّالون للسُّحت” ما استوردوه إلى وجهات أخرى مربحة أكثر، وتركوا أسواق الأضاحي تشتعل فيها النار.
فضائح قطاع المحروقات صارت معلومة ومحفوظة عن ظهر قلب من فرط التكرار، ومع ذلك لا شيء تغيّر تحت سماء هذا البلد، إذ لا زالت الشبهات ( شبهات فقط؟!!!!) تلاحق هذه الشركات المتهمة بالتواطؤ في تحديد الأسعار. وحتى إذا تحرّك ضمير مجلس المنافسة فهم قادرون على “تحقيق الردع” ضد من يتجرّأ على الاقتراب من عشّ الدبابير.
أما “أمّ الكبائر”، التي لم يرِفَّ لرئيس الحكومة فيها جفنٌ حين وقف أمام البرلمان ليؤكد استفادة إحدى شركاته من صفقة تحلية مياه البحر التي يقع التعاقد بشأنها تحت سلطاته الحكومية، ثم استمر في منصبه دون أن يكلف أحدٌ، ممن يملك السلطة القانونية، نفسه فتح تحقيق لـ”يُشفيَ صدور” مواطنين مغبونين ويطمئنهم على سلامة الصفقة قانونياً وأخلاقيا.
هذه نماذج قريبة ممّا تسعف الذاكرة لاستحضارها، لتبقى مأساة مواطني هذا البلد واحدة، وقد تُركوا نهباً للفاسدين الذين لا يرون فينا إلا زبائن مغفلّين.
لربما حان الوقت لنتعرف، وقد سبقنا عبد اللطيف وهبي إلى ذلك، قبل أن يصير وزيرا متخصّصا في ملاحقة الصحافيين، أن الانتخابات التشريعية الأخيرة اشتُريت في “سوق النّخاسة السياسية”، وأن منْ دفعوا يستعيدون ما صرفوه بما لا يرضي الله أو الوطن.
وإذا كان رئيس الحكومة يشعر أنه يملك ما في السماء والأرض، وما تحتها، وحتى ماء البحر ( وهنا تعبيرٌ واقعي جدا ولا يلاحق أية بلاغة)، ويفتخر في البرلمان بصفقة تقع تحت شبهة خرق القانون، فلا غرابة أن يتغوّل من دونه.
بل إنها لربما واحدة من المرّات القليلة التي لا يواجه فيها رئيس حكومة أية معارضة مؤسسية قوية، أو حتى مجتمعية. وبسبب فُحش هذا القحط السياسي، فَبْركت هذه الحكومة “معارضتها” من داخلها، وأوكلت المهمة للمراوغين الكبار فيها. خرج زعيمٌ في الائتلاف الحكومي، هو الأمين العام لحزب الاستقلال ووزير التجهيز والماء نزار البركة، ليشكو (كأيّها الناس): “اتقوا الله في المغاربة، باركا من أكل أموالهم. نريد من المنتجين أن تكون هوامش أرباحهم معقولة، ليبقى الدجاج واللحوم متاحة بأسعار مناسبة”. وأيضا تحدث وزير الميزانية فوزي لقجع عن أن “الفرق بين القيمة المصرح بها لواردات الأدوية لدى الجمارك والسعر الذي تباع به في الصيدليات يصل إلى 300 في المائة”. وقبلهما تحدث محمد أوجار، القيادي في حزب رئيس الحكومة، وقال إنه “من غير المعقول أن يصل سعر اللحم إلى 120 درهما للكيلوغرام. أن تأخذ 500 درهم عن كل رأس قطيع استوردوه، دون أن ينعكس ذلك على الأسعار، فهذا غير مقبول. إنهم يرتكبون جريمة”.
وعلى كل حال، يستحق هؤلاء الشكر على تأكيدهم أننا بصدد جريمة سرقة موصوفة لأقوات الناس. لكنّ لابدّ من أن نقول إنهم جرّفوا كل شيء، وهيمنوا على كل شيء، واشتروا كل صاحب صوتٍ، وحتى الصحافة (إلا من رحم ربّك)، ثم جلسوا على تلّها يتباكون. هؤلاء وزراء أو قياديون في الائتلاف الحكومي يناورون ليقولوا أي شيء حتى يبعدوا المسؤولية عن حكومتهم، وحتى لا تفعل أي شيء، عبر تعويم المشكل وتجهيله. ما ينتظره الناس من الحكومات هي الأفعال لا البكائيات والمناورات وقلّة الأخلاق السياسية.
قصارى القول
اللعب بأقوات الناس خطر. وقرار دعوة المواطنين عدم نحر الأضاحي في العيد محاولةٌ لتصويب الوضع وتعديل ميزان شديد المَيْل لصالح الجشعين. يجب أن يلتقط هؤلاء الرسالة واضحةً: كفى من النصب على الناس واستهدفهم المتوحّش بالسياسات. ما يجري عملٌ ممنهج وتقف خلفه سياسات وخيارات، وليس انفلاتا خارج السيطرة. ما يجري عملية “إبادة للفقراء”، ومن يلعب بأقوات الناس يريد صبّ الزيت على النار، ويجب أن يدرك أن لـ”التغوّل حدود”، وأننا مواطنون في بلدنا لا في خِرْفانا في ضيعة أحد، ولا زبناء لدى أحد. ولا نتمنى أن نقتنع يوما أن القانون في بلدنا “لا يحمي المغفلين، لكنه يحمي الفاسدين”.