story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

البوليساريو ودرس كردستان

ص ص

دخلت تركيا ومعها القضية الكردية ابتداء من فاتح شهر مارس الحالي (2025)، منعطفا تاريخيا يكاد يكون الأهم والأكبر منذ تشكّل هذا الملف وتحوّله إلى “مسمار جحا” لتدخّل القوى الدولية والإقليمية في المنطقة.

مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، دعا من داخل سجنه الواقع في إحدى جزر بحر مرمرة التركي، إلى حلّ الحزب وإلقاء السلاح ودفن المشروع الانفصالي وتركيز الجهد على المشروع الديمقراطي في إطار الوحدة بين الأكراد والأتراك.

خطوة جاءت بعد سنوات طويلة من النقاش والتفاوض والتفكير والتأمل، وتحقّقت بعد تردّد وتأجيل متكرّر، لتكون على الشكل الذي يجعلها مهيكلة للدولة التركية، بل والمنطقة كلّها، على اعتبار أن المكوّْن الكردي وطموحاته السياسية نحو الانفصال وتشكيل دولة، تشمل دولا أخرى على رأسها العراق وسوريا.

وفي الوقت الذي ظلّت فيه القضية الكردية توظّف كحصان طروادة من طرف جل القوى الدولية والإقليمية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإسرائيل وإيران، جاءت هذه الخطوة لتقلب الطاولة على هؤلاء جميعا، وتحوّل المنظمة الكردية التي تأسست في تركيا وحملت السلاح وتُعتبر العمق الاستراتيجي لكل القوى والتنظيمات الكردية الانفصالية في دول المنطقة، إلى أداة لوأد المشروع الانفصالي وحرمان تلك القوى الدولية والإقليمية الانتهازية، من نافذة مشرعة ظلّت تستغلها على مدى عقود طويلة.

وإذا كانت الانعكاسات الجيوسياسية لهذه الخطوة في تركيا والعراق والشام لا تهمّنا بشكل مباشر، فإن المنطق يحتّم امتداد آثار وتداعيات هذا التحوّل إلى مناطق أخرى، على اعتبار أن ما يجري في أقصى الأرض يؤثر على الوضع في أدناها، فما بالك إذا تعلّق الأمر بالحوض الحضاري والجغرافي نفسه، أي المغرب كدولة تؤثر وتتأثّر بكل ما يجري في هذا المجال الجغرافي.

بل إن قراءة الرسالة التي بعثها عبد الله أوجلان إلى أنصاره تحيلنا مباشرة ودون أدنى محاولة لإسقاط الطائرة، على البوليساريو، كتنظيم مسلّح يسعى للانفصال.

فقد حدّث أوجلان أتباعه عن سياق نشأة وتأسيس حزب العمال الكردستاني، والذي ارتبط بظروف الحرب الباردة واعتناق “الاشتراكية الواقعية” والسعي لرفع حالة الإنكار التي كانت القضية الكردية تعيشها، والغياب شبه الكامل للحريات السياسية والمدنية، و”على رأسها حرية الرأي والتعبير”، تقول رسالة أوجلان.

هذا الأخير نبّه أنصاره إلى التحوّلات التي عرفها العالم خلال عقد التسعينيات، من انهيار في معسكر الاشتراكية، وتراجع سياسة إنكار الهوية في تركيا، والتطورات (الإيجابية) التي شهدتها حرية التعبير… وكلّها معطيات أدت، حسب أوجلان، إلى فقدان الحزب لأهميته وأصبح بالتالي حله ضرورة.

ورغم الاختلاف العرقي بين المكوّنين التركي والكردي، والذي لا يمكن مقارنته بأي شكل من الأشكال مع الوضع الديمغرافي والتاريخي للمغرب في علاقة بصحرائه، تحدّث أوجلان عن الوحدة التاريخية والضرورية بين العنصرين الكردي والتركي، والتي قال إنها ظلّت قائمة لأكثر من ألف عام، لهدف استراتيجي وحيد هو مواجهة الأطماع الخارجية والتهديدات المشتركة، فيما اتّهم أوجلان ما أسماه ب”الحداثة الرأسمالية” بالسعي لكسر هذا التحالف الكردي-التركي خلال القرنين الماضيين.

وبعد هذا التشخيص الصريح والجريء، يخلص أوجلان إلى أن الحل للأزمة القائمة يكمن في شيء واحد هو الديمقراطية. واستبعد الزعيم المؤسس لحزب العمال الكردستاني، كل المقاربات الأخرى التي تم طرحها أو تجريبها في السابق، أي المقاربات “الثقافوية” والسياسية مثل فكرة الحكم الذاتي، على اعتبار أن هذه المقاربات تختزل القضية الكردية ولا تحقّق الحقوق الكاملة للإنسان الكردي. “فلا يوجد طريق آخر غير الديمقراطية في البحث عن أنظمة جديدة وتحقيقها، ولن يمكن. فالطريقة الأساسية هي التوافق الديمقراطي”.

فهل تخفى عن أي متابع، ولو بسيط، لمسار قضية الصحراء، هذه القواسم المشتركة العديدة بين حزب أوجلان وجبهة البوليساريو؟

ألم يتأسسا معا في سياق الحرب الباردة واعتناق “الاشتراكية الواقعية” بما هي تغليب للإيديولوجيا واستناد على الفلسفة المادية واعتماد على البروباغندا…؟

ألم يواجه المغاربة، بمكوناتهم المتنوعة من الجبل إلى الصحراء، تآمر القوى الرأسمالية والاستعمارية على مدى القرنين الماضيين لتفكيك تحالفاتهم وعزل بعضهم عن بعض؟

ألم تكن نشأة البوليساريو متزامنة، حتى لا أقول مبررة، بوضعية استبدادية في الحكم وتضييق شبه مطلق على الحقوق والحريات، وقمع للأصوات المعارضة بما فيها تلك التي كانت تطالب باستكمال تحرير الأرض؟

ألم يخبرنا المحجوب السالك، أحد مؤسسي الجبهة الانفصالية، قبل أقل من أسبوع في ندوة أدارها كاتب هذه السطور، أنه شارك في تأسيس الجبهة من أجل تحرير الصحراء وليس للانفصال وتأسيس دولة؟

لا أقصد هنا المقارنة من أجل المقارنة، وأو ربط ما لا رابط بينه في الواقع. بل إن دروس السياسة الدولية تفيد أن التاريخ لا يتحرّك بشكل عبثي، وإن لم يكن تطوّره خطّيا.

والتجربة المريرة للقضية الكردية، وما تعرّض له الأكراد من توظيف واستغلال من طرف جميع القوى الدولية على مدى القرنين الماضيين، والتي أفضت إلى الخلاصات التي حملتها رسالة أوجلان، لا يمكن أن يكون العقل الصحراوي المغربي عاجزا عن استيعابها.

قد لا يوفّر مسار تطوّر التاريخ فرصة المواكبة الطوعية لمثل هه التحوّلات، بل يمكنه أن يسترجع مساراته مثلما تسترجع الأودية الجافة مساراتها ولو بعد عقود من الجفاف. ولا أعتقد أن تزامن مبادرة الانفصاليين الأكراد إلى حلّ حزبهم وإلقاء سلاحهم، مع صعود مشروع قانون يقضي بمنح الصحراويين الذين عاشوا تحت النفوذ الإسباني قبل المسيرة الخضراء ضمن أجندة البرلمان الإسباني هذا الأسبوع، مجرّد صدفة.

فالمشروع الذي راوح مكانه لسنوات عديدة، حصل قبل أيام على الأغلبية اللازمة ليصبح معروضا رسميا على المسار التشريعي، وتم تمرير القرار بـ 195 صوتا مؤيد، و116 صوتا معارضا، و33 امتناعا عن التصويت، بناء على مبادرة من حزب “سومار”.

يقضي المقترح بتقليص مدة الإقامة المطلوبة في إسبانيا من أجل الحصول على الجنسية، من عشر سنوات إلى سنتين فقط، لصالح الصحراويين الذين ولدوا خلال فترة السيطرة الإسبانية على الصحراء، وتمديد هذا الحق ليشمل أبناءهم.

ورغم أن الخطوة ترتبط بمحاولة بعض الأطراف السياسية الإسبانية حل مشكلة الصحراويين المقيمين في شبه الجزيرة الايبيرية خارج القانون، إلا أنها تنطوي على أبعاد مهيكلة للمنطقة كلها. كما أن التصويت عليها في البرلمان الإسباني الأسبوع الماضي تزامن مع زيارات رسمية بالغة الأهمية لمسؤولين جزائريين لمدريد، منهم وزيرا الخارجية والداخلية.

تجنيس المواطنين الصحراويين يسبّب مشكلة أولى للمغرب، هذا صحيح، لأنه يجعل فئة من مواطنيه مزدوجي الجنسية؛ لكنّه يفتح الباب أمام إمكانية تفكيك مخيّمات تندوف، و”يساعد” الجزائر في ذلك.

وعندما نقول تفكيك هذه المخيّمات، فإننا نقصد دون شك عودة المنحدرين من أصول موريتانية ومالية وجزائرية إلى ديارهم، فيما يفتح مشروع القانون الإسباني الباب أمام المنحدرين فعلا من الأقاليم الصحراوية للمغرب، للاختيار بين العودة إلى الوطن، أو الحصول على الجنسية الإسبانية لمن رغب في طلبها.

رأيتم كيف أن حركة التاريخ ليست عبثية؟

فمتى تنتج منطقتنا حكماء ووسطاء من حجم ما أنتجته تركيا وكردستان، ومؤشرات إرادة حقيقية في إقامة الديمقراطية، لتحلّ البوليساريو نفسها وتلقي سلاحها، ونتفرّغ لبناء وطن قويّ؟