وا نشفات أ البواري!

أعود اليوم إلى تصريحات وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أحمد البواري، التي أدلى بها بعد الاجتماع الأخير للمجلس الحكومي.
وكما وعدت في المقال السابق الذي تطرقت فيه إلى موضوع “القطيع الوطني”، سنناقش اليوم مع السيد الوزير موضوع الماء ومدى مسؤولية الفلاحة عن استنزافه لدرجة وصلنا معها إلى حالة القحط.
الحقيقة أنني لا أعرف متى سيعي مسؤولونا أننا لا نعيش داخل كهف، ولا يمكنهم بالتالي أن يحاولوا في كل مرة تمرير مغالطات ومعطيات مجتزأة بطريقة “ويل للمصلين” التي ترقى في بعض الأحيان إلى درجة ممارسة التضليل، على عينيك يا بن عدي.
الوزير نفى أن تكون الفلاحة مسؤولة عن استنزاف المخزون المائي للمغرب، وكذّب المعطى الذي يقول إن الفلاحة تستأثر بأكثر من 80 في المئة من المياه التي تستهلك في المغرب سنويا، ودعانا بالتالي إلى الفخر بفلاحتنا التي قال إنها “تشتغل بدون ماء”، علما أن رئيسه الحالي وسلفه على رأس وزارة الفلاحة، عزيز أخنوش، ردّد على مسامعنا قبل أيام من منصة البرلمان، سؤاله الاستنكاري: واش كاينة شي فلاحة بلا ما؟
الحقيقة لا، هناك فقط الحسانة بلا ما!
عموما يقول المثل الشعبي عندنا: الكذّاب نسّيه وسوّلوا.
بالعودة إلى تصريحات وزير الفلاحة الحالي، يخبرنا السيد البواري أن فلاحتنا تعيش حاليا على ما تبقى من مياه في السدود، بعد تخصيص الجزء الأكبر من مخزون حقينتها لتزويد البيوت بالماء الشروب، والصناعة والسياحة بالمياه اللازمة لأنشطتها… وبالتالي لا يبقى أمامنا من خيار، حسب الوزير، سوى دعم فلاحينا والوقوف إلى جانبهم.
وأول ما ينبغي تسجيله في مقابل تصريحات الوزير هذه، هو أن معطى استهلاك الفلاحة لأكثر من ثمانين في المئة من المياه في المغرب، لم تقدّمه الصحافة ولا النشطاء المدنيون ولا المعارضون ولا خصوم الخارج ولا مولاي بّيه!
هذا رقم رسمي قدّمته الحكومات وردّده الوزراء داخل البرلمان وفي التلفزيون، وتضمّنته التقارير الرسمية مرفقا بالرسومات البيانية.
ما لا يقوله البواري عندما يأتي اليوم إلى ندوة صحافية كي ينكر هذا المعطى، هو أن الرقم يعود إلى الفترة التي كانت السماء تجود فيها، واللهُ يرحمُنا. وعندما كانت حقينة السدود تجمع ما يفوق 15 مليار متر مكعّب من الماء، وكانت الفلاحة تستهلك لوحدها ما يفوق 13 مليار متر مكعّب، دون أن يفكّر القائمون على تدبير الفلاحة والمياه في الحفاظ على مخزون استراتيجي من المياه، من قبيل عدم النزول تحت عتبة 10 ملايير متر مكعّب في السنوات المطيرة، تحسّبا لسنوات الجفاف، ولا هم فكّروا في تطوير مصادر جديدة للمياه كي نستعين بها في فترات الجفاف، من قبيل معالجة المياه العادمة وتحلية مياه البحر… بل كنّا مثل الصرصور في قصته الشهيرة مع النملة، للي جابو النهار يدّيه الليل!
الفلاحة استهلكت بالفعل، وعلى مدى سنوات، أكثر من 80 في المئة من المياه التي كانت تخزّنها السدود، وبعدما أصبحنا بالكاد نتوفّر على ثلاثة إلى أربعة ملايير متر مكعّب من المياه السطحية، طبيعي أن تنخفض حصة الفلاحة، بما أن الاستهلاك من المياه الصالحة للشرب وحده يفوق المليار متر مكعّب. وطبيعي أن تعطى الأولوية لهذه الحاجيات الأساسية، ولا غير عطّشونا وسقيو فلاحة التصدير للأجانب أحسن!
ثم من الذي قال إن المياه المستهلكة في الفلاحة هي مياه السدود فقط؟ إلى متى سيستمرّ التكتّم والتستّر على جريمة استنزاف المياه الجوفية في سقي فلاحات لا ندري كم منها يوجّه أصلا نحو السوق الداخلية؟ متى سنعرف حقيقة ما جرى للواحات في المغرب الشرقي؟ ومتى نقف على حقيقة الذين شفطوا ما تجمّع في باطن أرض المغرب علي مدي آلاف السنين، وصدّروه في شكل تمر وبطيخ، وكدّسوه دولارات في حسابات لا ندري هل شملها التصريح بالأصول والأموال المنشأة في الخارج أم لا؟
وإذا كانت الحكومة تمنّ علينا اليوم بمليار متر مكعّب من مياه السدود التي توجّهها نحو شبكة المياه الصالحة للشرب، فإن الفلاحة التي تسقى من المياه الجوفية تستهلك لوحدها ما يفوق المليار متر مكعّب، باعتراف رسمي أيضا، دون أن يخبرنا أحد متى قرّرنا استعمال هذا المخزون الاستراتيجي بهذه الطريقة الخرقاء؟ ولا لأي منتوجات خصّصناه بالضبط؟ ومن الذي استفاد منه في النهاية، أهو المواطن المغربي أم “مول الشكارة” والمستهلك الأجنبي اللذان يأكلانها “باردة”؟
قبل أن يقف أمامنا من جديد ليمارس علينا خطاب “ويل للمصلين”، أدعو الوزير البواري إلى زيارة منصة إلكترونية أقامها مجموعة من دكاترة وباحثون متخصصون، اسمها “نشفات”، وتتضمّن معلومات قيّمة ومقالات مفيدة حول وضعية المياه في المغرب، وعلاقة استهلاكها بالنشاط الفلاحي والسياسات العمومية المرتبطة بهذا المجال.
وضمن أحد المقالات الموثّقة بالمراجع والإحالات، نجد تشبيهات جدّ معبّرة، تسمح لمن لا يتوفّر على معرفة مسبقة بالأرقام المتعلقة بالماء ودلالاتها بالفهم.
تخبرنا المنصة أن مليار متر مكعّب من المياه الجوفية الذي تستهلكه الفلاحة سنويا، ويُسقطه البواري من المعطيات التي يقدمها لنا في الندوات الصحافية، يساوي خمس مرات الاستهلاك السنوي لمدينة الدار البيضاء من المياه، بل إن هذا المليار مكعّب يساوي تماما مجموع التساقطات المطرية التي تجود بها السماء على دولة مثل مصر!
أكثر من ذلك، تأتي السياسات العمومية المرسومة للمجال الفلاحي، والتي يجسّدها بشكل خاص مخطط المغرب الأخضر، لتفاقم من أزمة المياه من حيث يزعم القائمون عليها أنهم يحاولون التخفيف منها.
وأحيل السيد الوزير من جديد على مقال حول السقي بالتتنقيط في منصة “نشفات” دائما، والذي يشرح كيف أدى تشجيع السقي بهذه التقنية وصرف الدعم العمومي من المال العام لتجهيز الضيعات والأراضي الفلاحية بها، إلى استهلاك المزيد من المياه.
كيف ذلك؟
المثال الذي يقدّمه الباحثون القائمون على المنصة يعبّر بشكل بسيط وواضح عن هذه المعضلة، من خلال استعارة مثال استهلاك السيارات للوقود.
فالمحركات الحديثة تستهلك كميات أقل بكثير مما كان عليه الحال قبل عقود، لكن هل انخفض استهلاك السيارات للمحروقات؟ بالطبع لا، بل ارتفع، لماذا؟ بكل بساطة لأن انخفاض الاستهلاك دفع مستعملي السيارات إلى قطع مسافات أطول بكثير، كما حفّز الأسر على امتلاك أكثر من سيارة، وبالتالي أدى تجهيز السيارات بمحركات قليلة الاستهلاك، إلى ارتفاع في الطلب الإجمالي على المحروقات.
40 في المئة من الأراضي المسقية في المغرب، والتي تبلغ مساحتها قرابة مليون ونصف مليون هكتار، أصبحت اليوم مزوّدة بتقنية السقي بالتنقيط، والتي يفترض فيها اقتصاد حوالي خمسين في المئة من المياه مقارنة بطرق السقي التقليدية. وأكثر من 600 ألف هكتار تسقى من خارج الموارد المائية العمومية المعبأة في السدود، أي من المياه الجوفية.
والنتيجة هي أن المياه تستنزف أكثر، خاصة منها المياه الجوفية، بما أن مخطط المغرب الأخضر وفّر دعما يصل إلى مئة في المئة من مكلفة الحفر للوصول إلى هذه المياه.
ما حدث بكل اختصار، هو أن هذه السياسات العمومية التي جرى تطبيقها تحت مظلة مخطط المغرب الأخضر، وعوض خفض كمية المياه المستهلكة في الأراضي المسقية، أدت إلى استهلاك المزيد من الماء لأنها دفعت الكثيرين ممن كانوا لا يعتمدون على السقي أصلا، إلى تجهيز أراضيهم وضيعاتهم بتقنيات التنقيط، مع الاستفادة من الدعم العمومي الكامل لكلفة حفر الآبار والثقوب المائية التي توصلهم إلى المياه الجوفي.
دبا الفلاحة مسؤولة عن أزمة المياه ولا لا آ سي البواري؟