story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فرصة إسراء عربي جديد

ص ص

من يتفاعل مع الأحداث المتسارعة على الصعيد الدولي، وخاصة ما يرتبط منها بتصريحات وقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، دون استحضار للسياقات ونواميس الكون ومنطق الأشياء، سيصاب دون أدنى شك بالفزاع أو الإحباط.

لكن، ودون أدنى تقليل من أهمية ما يصدر عن رئيس أكبر وأقوى دولة عرفتها البشرية منذ بداية التاريخ، فإن ترامب ليس صاحب القرارات الأخيرة ولا الآمر الناهي. بل إن للرجل أسلوب يقوم على إحداث الصدمات ومفاجأة الخصوم والأصدقاء ومن ثم الانقضاض على الفرص، تماما كما يفعل أفراد الكومندو بعد إلقائهم عبوات متفجرة داخل مكان محصّن.

وعلى العكس تماما مما يمكن أن يعتقده البعض، فإن سلوك الرجل هذا يوفّر فرصا ويفتح فجوات ما كانت لتحصل لولاه.

نعلم جميعا ما حصل في ميزان القوة العالمي في العقود الأخيرة، وكيف أن نظام الأحادية القطبية لم يعد له ما يسمح باستمراره، وأن مناطق مثل هذه التي ننتمي إليها، ما هي سوى ساحات لمعارك كبرى بين القوى الدولية الآفلة، وعلى رأسها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى صاعدة تتقدمها الصين.

لهذا لا ينبغي أن ننظر إلى تصرّفات ترامب كما لو كانت إملاء لأقدار حتمية، بل إنها توفّر فرصة من خلال خلخلة النظم المتهالكة، وإزالة القشور، والسماح ببروز الجديد الذي تأخر ميلاده بعدما انتهت صلاحية التوافقات التي أنتجتها الحروب الكونية للقرن الماضي.

وأول “فرصة” يمكن التقاطها في سياق خلط الأوراق الجاري حاليا، هي تلك التي توفّرها القضية الفلسطينية لتأسيس نظام إقليمي عربي جديد. بل يمكننا أن نقدّم الشكر لترامب من الآن، بما أنه لعب، بشكل سريع، دور المحفّز على دينامية تنسيق وتشاور إقليمي، وبات الحاكم العربي الذي يُستدعى إلى البيت الأبيض من أجل ابتزازه (العاهل الأردني)، يُشهر ورقة هذا التنسيق الإقليمي وضرورة انتظار موقف مصري منتظر، ومخرجات قمة عربية مرتقبة في السعودية…

ويعود الفضل في هذا النّفس الوحدوي الجديد، إلى القضية الفلسطينية التي تمثل جوهر الصراع في الشرق الأوسط، وتؤثر بشكل عميق على توازنات القوى والعلاقات الدولية في المنطقة.

فرغم الضغوط التي مارستها إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، منذ ولايته السابقة، عبر سياسات مثل “صفقة القرن” واتفاقيات التطبيع، فإن هذه الضغوط يمكن تحويلها إلى فرصة لإعادة بناء النظام الإقليمي العربي على أسس أكثر استقلالية وفاعلية.

وعلى الذين يحملون عقدة أيديولوجية ضد مثل هذا الحديث عن الوحدة العربية والنظام الإقليمي، أن يتركوا نوازعهم جانبا، ويخبرونا كيف يتصوّرون تقوية موقف بلداننا، من المغرب إلى العراق، وحماية مصالحنا من الصراعات الدولية المنفلتة أكثر فأكثر من كل تأطير أخلاقي، دون بروز نظام إقليمي عربي؟ هل نملك وفقا لمعطيات الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والثقافة، بدائل عملية لخلق تكتلات إقليمية تخرجنا من حالة الخضوع والتبعية، لهذه القوة أو تلك؟

إن من يوظّف حالة الجامعة العربية واتحاد المغرب العربي وغيرها من التجارب الفاشلة في التكتل الإقليمي العربي، كحجة لرفض هذا الخيار، يقدّم في حقيقة الأمر دليلا على هشاشة موقفه، لأن هذه النماذج تعرّضت للإفشال والتلغيم، لأنها تمثّل فرصا حقيقية لنشوء تلك القوة الإقليمية التي عمل الاستعمار على وأدها منذ ظهور أولى بوادر سقوط الدولة العثمانية.

لقد كانت القضية الفلسطينية، تاريخيا، عاملا موحدا للشعوب العربية، حتى عندما كانت الأنظمة السياسية متباينة في مواقفها. ومع تصاعد سياسات التهميش للقضية الفلسطينية، وفرض واقع جديد عبر الاحتلال الإسرائيلي والتوسع الاستيطاني، أصبح من الضروري إعادة صياغة مقاربة عربية مشتركة تعيد القضية الفلسطينية إلى مركز النظام الإقليمي، لا باعتبارها عبئا سياسيا، بل كمصلحة مشتركة، وخط دفاع أول عن مجموع المنطقة، وهو ما يتأكد اليوم حين باتت غزة مجرّد مطية لاستهداف دول عربية أخرى.

لا يعني ذلك تبني مقاربة صدامية أو توهّم القدرة على المواجهة المباشرة مع ترامب وما يمثّله، بل العمل على تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال الضغط الجماعي، وخلق تكتل عربي قادر على التفاوض مع القوى الكبرى بشروط متوازنة.

وإذا كان البعض يفضّل الاستسلام لمنطق الهزيمة، فإن معطيات الواقع تخبرنا أن المنطقة العربية ليست ضعيفة ولا تعدم أوراق الضغط والتموقع. بل تكفيها الاستفادة من الموقع الجيوسياسي للمنطقة التي تطل على ثلاثة من أكبر “بوابات” العالم، وهي كل من مضيق جبل طارق ومضيق باب المندب وقناة السويس.

وإذا كان الأول تحت السيطرة الغربية عبر كل من إسبانيا وبريطانيا، مقابل موقف مغربي يضعفه باستمرار احتلال مدينتي سبتة ومليلية، فإن كلا من باب المندب وقناة السوسي يمثّلان شريانا حيويا للتجارة العالمية، وتمر عبرهما نسبة كبيرة من حركة النفط والسلع الدولية. ويمكن للدول العربية، خاصة مصر والمملكة العربية السعودية واليمن، أن تفرض سياسات تربط استخدامها بما يخدم المصالح العربية.

كما تمتلك الدول العربية احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، وتلعب دورا محوريا في أسواق الطاقة العالمية. ويمكن استخدام هذه الثروات كأداة تفاوضية مع القوى الكبرى، خاصة في ظل تحولات الطاقة العالمية، مما يفرض على الغرب مراجعة سياساته تجاه القضايا العربية. وإلى جانب ذلك، تتمتّع هذه المنطقة بقوة ديمغرافية معتبرة، قوامها أكثر من 400 مليون نسمة، ما يجعلها سوقا ضخمة تمتلك قوة شرائية هائلة.

ومع تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية، تبرز فرصة استراتيجية للدول العربية لإعادة تموضعها في السياسة الدولية. بل إن الولايات المتحدة نفسها لا تستطيع تجاهل المصالح العربية كليا، خاصة مع اعتمادها على النفط الخليجي والتعاون العسكري مع الدول العربية، من بينها المغرب. وبناء جبهة عربية موحدة سيجعل من الصعب على أي إدارة أمريكية فرض حلول غير عادلة دون مواجهة تبعات استراتيجية.

وحتى لا يكون كل هذا ضربا من حلم جميل لا سبيل إلى تحقيقه، فإن السياق الحالي يوفّر معطى عمليا يتمثل في بروز متسارع للمملكة العربية السعودية كقوة قادرة على لعب دور الريادة الإقليمية.

عامل يوفّر عنصر القاطرة والقوة التي تستطيع لعب دور المظلة، وتحقيق التوازن بين الأطراف الإقليمية، وحل الخلافات والقيام بالتحكيمات اللازمة… وهو ما لم يكن بإمكان قوى المعسكر “التقدمي” أو “الناصري” القيام به في السابق، بسبب الحزازات الفكرية والأيديولوجية معها.

إن المملكة العربية السعودية الجديدة تمثّل فرصة نادرة لبناء نظام إقليمي عربي أكثر تماسكا واستقلالية، خاصة بعد مراجعتها الأيديولوجية وسحب ورقة تصدير الوهابية من أجندتها الخارجية.

فقد تبنّت المملكة في السنوات الأخيرة نهجا أكثر براغماتية وانفتاحا، مما جعلها محط إجماع نسبي بين الدول العربية، حيث بات يُنظر إليها كشريك موثوق وقادر على تحقيق الاستقرار والتنمية والتأثير الإقليمي والدولي، دون إثارة خلافات أيديولوجية كما كان الحال في السابق.

هذه التحولات تجعل السعودية في موقع مثالي لإعادة هيكلة النظام الإقليمي عبر توظيف مواردها الاقتصادية، وموقعها الجيوسياسي، وعلاقاتها الدولية المتوازنة.

فالعربية السعودية ليست الدولة الأكبر اقتصاديا في العالم العربي فقط، بل هي أيضا الأكثر طموحا من حيث تنفيذ إصلاحات تنموية كبرى، تعكس تحولا جوهريا نحو اقتصاد متنوع، بعيدا عن النفط والغاز، وهو ما يجعل المملكة مؤهلة للعب دور القاطرة الاقتصادية للمنطقة.

كما يمكن للسعودية أن تقود مشروع سوق عربية موحدة، مستفيدة من نفوذها المالي والسياسي، مما يمنح الدول العربية قوة تفاوضية أكبر في الأسواق الدولية.

وبالعودة إلى القضية الفلسطينية التي تعدّ بمثابة الإسمنت الذي يمكن صبّه داخل أساسات أي مشروع لنظام إقليمي عربي جديد، تبدو السعودية في موقع استثنائي لإعادة هيكلة الدور العربي تجاه فلسطين، حيث تمتلك القدرة على إعادة ضبط معادلة التطبيع بما يخدم مصلحة الفلسطينيين.
فالتفاوض مع الغرب وإسرائيل من موقع قوة، ممكن عبر العربية السعودية، التي يمكنها أن تستغل حاجة إسرائيل لتطبيع وجودها في المنطقة (إسرائيل هي التي تحتاج إلى التطبيع وليس العكس)، للحصول على تنازلات سياسية واقتصادية لصالح الفلسطينيين، مثل دعم إقامة دولة فلسطينية أو وقف التوسّع الاستيطاني على الأقل.

ولا حاجة بنا لأي تذكير بكون المصلحة الوطنية للمغرب، توجد تاريخيا في أفضل حالاتها حين يتعلّق الأمر بدور سعودي نشيط ومؤثر في المنطقة. بل يمكن القول دون مجازفة إن أقرب بلد عربي للمصالح المغربية، هو المملكة العربية السعودية، والتاريخ حافل بالحجج والأدلة.

نحن إذن، أمام نافذة تاريخية ممكنة، إذا طردت الأنظمة العربية الحالية عنها عوامل التردد والانكفاء ومنطق الخلاص الفردي؛ من خلال هذا المناخ الذي وفّرته مقاومة الشعب الفلسطيني البطولية منذ عملية سابع أكتوبر المجيدة.

وتمثل السعودية الجديدة بدورها فرصة نادرة لبناء نظام عربي أكثر تماسكا واستقلالية، مستفيدة من إجماع نسبي حولها، ومن قوتها الاقتصادية، وموقعها الجيوسياسي، وعلاقاتها الدولية المتوازنة.

وكما كانت فلسطين وجهة للإسراء النبوي، تبقى اليوم جوهر الصراع والمحور الذي يمكن أن تبنى عليه وحدة عربية فاعلة، تخرج من حالة التيه والتبعية.

وبينما يلهث البعض خلف الصدمة والارتباك، تلوح الفرصة أمام من يستوعب سنن التاريخ، ويعيد توظيف الأحداث لصياغة واقع مختلف، تماما كما فعلت الرسالات الكبرى حين جعلت من المحن جسورا للنهضة والتجديد.

إن الخط الذي رسمه النبي محمد ﷺ في رحلته من مكة إلى القدس، هو محور عابر للأزمنة والأقدار، ويؤكد مركزية المكان والغاية. والتحولات السياسية الحالية، ترسم لنا مسارا مشابها، حيث تبدو تصرفات ترامب كريح عاصفة تخلخل التوازنات، لكنها في جوهرها تفتح فجوات لميلاد نظام إقليمي جديد.