story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إسرائيل تبتزّنا!

ص ص

يبدو أن احتفاظ المغرب بعلاقاته الرسمية مع إسرائيل قائمة، رغم حرب الإبادة التي شنّها على الفلسطينيين، وضدا على الموقف الشعبي الذي عبّرت عنه المسيرات والوقفات والاحتجاجات الرقمية طيلة شهور العدوان؛ (كل هذا) لن يحميه من شهوة الابتزاز والافتراس التي تستبد بدولة الاحتلال.

الأنباء التي وردت في اليومين الماضيين، تفيد بأن المشاهد التي ظهر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وفي خلفيتها خريطة المغرب مبتورة، لم تكن أبدا من محض الصدفة، وأن هذا الابتزاز سيتواصل في عهد إدارة دونالد ترامب الأمريكية.

وسائل إعلام فلسطينية وعربية نقلت عن قناة “إسرائيل 12” قولها إن كلا من المغرب وصوماليلاند وبونتلاند، مرشحون لاستقبال الفلسطينيين الذين يراد تهجيرهم من أرضهم. ونسبت القناة هذه الخطة إلى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي صدم العالم هذا الأسبوع بإعلانه الرغبة في الاستحواذ على غزة وجعلها أرضا أمريكية.
لنحاول أولا استبيان سياق ومصدر هذه الأنباء:

قناة “إسرائيل 12” هي ذراع إعلامي تابع لمجموعة “كيشيت” الخاصة، والتي عوّضت منذ 1997 القناة الإسرائيلية الثانية. يغلب على هذه المنصة الإعلامية الطابع الترفيهي، لكنها تقدم أيضا محتوى إخباريا وسياسيا.

وبالرغم من أنها لا تعتبر صوتا لمصادر القرار الرسمي في إسرائيل، فإنها تبقى جزءا من المنظومة الدعائية الصهيونية التي لا تتحرّك إلا من داخل المشاريع والمخططات الرسمية.

ثم لماذا المغرب وصوماليلاند وبونتلاند؟ حاولت أن أجد قاسما مشتركا بين المغرب والمنطقتين الصوماليتين، فلم أجد سوى عنصر الانفصال. كل من صوماليلاند وبونتلاند تسعيان إلى الانفصال عن الصومال، والإعلان من داخل إسرائيل عن فكرة نقل فلسطينيين إليهما لن يعني سوى المساومة والابتزاز، أي قبول الخطوة في مقابل تمكينهما من الانفصال.

أما لماذا المغرب في هذه الخانة؟ فالجواب يبدو بسيطا، المقابل هو العكس تماما، بما أن هناك مشروع للانفصال مزروع في خاصرة المغرب، فإن المقابل الذي يُفهم من هذه المساومة هو الاعتراف بالوحدة الترابية ومنع حدوث الانفصال في الصحراء.

لكن هذه المساومات الإسرائيلية الرخيصة لا يمكن أن تُقرأ خارج سياق التصريحات الصادمة والمستفزة التي أدلي بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

هذا الأخير يساوم كلا من مصر والأردن، بما يملكه من أوراق ضغط عليهما، من أجل القبول بمخططات تهجير الفلسطينيين وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، ووصلت به الوقاحة درجة التهديد بضم غزة إلى السيادة الأمريكية مباشرة، بما يعنيه ذلك من ضغط وتعبير سافر عن الأطماع الأمريكية في المنطقة.

صحيح أن ترامب ليس إله هذا الكون، ولا يستطيع تحويل كل أحلامه إلى حقيقة، لكن ما يلقي به هذه الأيام في وجه العالم من تصريحات ليس مجرد أفكار عشوائية، بل يمكن تحليلها وفق تقنيات التفاوض التي تعتمد على إرباك الخصوم، وخلط الأوراق، وتحويل المستحيل إلى ممكن.

فتصريح ترامب حول احتلال غزة وإمكانية تهجير الفلسطينيين يضيف عنصرا مفاجئا في النقاش السياسي. والأطراف الفاعلة (حماس، والسلطة الفلسطينية، والدول العربية، وإسرائيل، وإيران، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي…) تجد نفسها مضطرة لإعادة تقييم استراتيجياتها.

ويصبح بالتالي من الصعب اتخاذ موقف موحد أو مقاومة أي مخطط آخر قد يتم فرضه لاحقا، خاصة مع استعمال ترامب لقصف عشوائي مكثف بجميع تقنيات الإرباك، من طرح ما يعرف ب”العرض الأول المربك”، أي استباق فتح مسار التفاوض عبر جعل عرض قوي وصادم ومربك هو أرضيته الحتمية، إلى جانب تقنيات إطلاق بالونات الاختبار وتحوير اتجاه التركيز نحو مقترحات مفاجئة…

أفكار ترامب التي تبدو حمقاء هي مجرّد أداة لتحقيق ما يعرف ب”توسيع نافذة أوفيرتون”. وتشير هذه الأخيرة إلى الفكرة التي أبدعها عالم السياسة جوزيف أوفيرتون، والتي تربط مقبولية أي تصوّر أو مقترح سياسي، بمدى استعداد الفضاء العام لقبوله ومناقشته.

وعندما يصوّب ترامب بندقيته الخطابية نحو مستوى يبدو مستحيلا، فإن غايته هي رفع السقف المتاح حاليا وبالتالي توسيع نافذة أوفيرتون. وما كان يبدو بعد الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في غزة سقفا للتفاوض، يصبح متجاوزا عبر استعداد الأطراف الأخرى للقبول بما يتجاوزه لمجرد الرغبة في منع تحقيق الأفكار الجنونية التي أعلنها ترامب.

كما أن عملية التدمير الممنهج والتقتيل الوحشي التي جرت في غزة، لم تحقق نصرا عسكريا لإسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، هذا صحيح، لكنها لم تكن عبثية أيضا، بل كانت تخلق وضعا جديدا عنوانه الخراب الذي لا يسمح بإقامة حياة طبيعية، وبالتالي يصبح خيار التهجير واحدا من الاحتمالات الواردة.

فهل يعني كل هذا أن أفكار ترامب الحمقاء ستجد طريقها نحو التحقق؟ وما علاقة المغرب بكل هذا الجنون؟

من المستبعد أن يتم بالفعل احتلال غزة من قبل الولايات المتحدة، فهذا قرار كفيل بإشعال حرب عالمية ثالثة كما يقول صديقنا الدكتور مصطفى كرين، لكن ما من شك أن مجرد طرح الفكرة يخدم أهدافا استراتيجية أخرى. والتهجير الجماعي للفلسطينيين قد لا يكون سياسة رسمية، لكنه قد يحدث تدريجيا من خلال سياسات الحصار والتدمير المتعمد.

الهدف الأساسي قد يكون فرض “إدارة أمنية جديدة” في غزة بقيادة إسرائيلية وأمريكية، مع إعطاء الدول العربية دورا شكليا فيها، يشرعن الوجود الأمريكي والإسرائيلي. وهنا يمكن أن نستشف ما يراد حمل المغرب على قبوله عبر تقنيات الابتزاز المستعملة ضده.

هناك عملية جسّ نبض المغرب والدول العربية الأخرى، عبر تقنية إطلاق بالونات الاختبار ثم دراسة ردود الفعل الرسمية والشعبية، المحلية والإقليمية والدولية.

وخلاصتنا الأساسية، كمغاربة، من هذه المعمعة، أن العلاقات مع إسرائيل لن تكون يوما سمنا على عسل مهما قدّمنا من تنازلات. والحضور الأمريكي في هذه العلاقات سيف ذو حدّين، قد يخدمنا أحيانا وقد يهدّد بذبحنا في أخرى.

في المحصّلة، قضية وحدتنا الترابية، وثباتنا على مواقفنا المبدئية تجاه القضية الفلسطينية، وتماسك وتراصّ جبهتنا الداخلية، هي أضلع مثلّث استقرارنا ونجاتنا من فترة الاضطرابات التي يمرّ منها العالم. ولا مجال للتضحية بأي ضلع مهما كبرت الإغراءات وتزايدت الضغوط.

الخوف كل الخوف، على الضلع المتعلّق بالجبهة الداخلية، لأنها تتأثر بهذا التجريف المتواصل للحقول السياسية والمدنية والإعلامية، وهذا الإصرار على إسكات وإضعاف الجميع، لدرجة يصبح معها الإضراب العام مجرّد حيلة “شوف الفريّخ” لتمرير وثيقة من حجم القانون التنظيمي الخاص بممارسة الإضراب… ولو بأقلّ من رُبع أعضاء البرلمان!