مونديال 1938.. عندما خيّر موسوليني لاعبي إيطاليا بين اللقب أو الموت

ص
ص
لا شك أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر إمتاعا والأكثر شعبية وجماهيرية عبر أرجاء المعمورة. لقد تخطى تأثيرها حدود الرياضة بعد أن صارت من وسائل التغني بالأمجاد والعزة الوطنية، خاصة حينما يتم تحقيق إنجاز معين كالفوز بتظاهرة دولية أو التأهل لكأس العالم، كما أنها في خضم التنافس المحموم بين الدول غالبا ما شكلت عاملا في توتر العلاقات بينها خاصة في تلك التي تغيب فيها الحدود بين الرياضة والسياسة.
تعددت حالات الارتباط بين كرة القدم والسلطة السياسية واتخذت أنماطا متشابهة، فنظرا لجاذبيتها المميزة وكيف تستحوذ على عقول الجماهير، ولأن السلطة السياسية بطبعها انتهازية لا تفوت أي فرصة لتحقيق مآربها، فقد عمل الساسة على تجاوز بساطتها كرياضة شعبية وتلويثها برسائل سياسية، وبالتالي تحويلها إلى سلاح فعال ضمن ترسانتهم الناعمة لإخضاع الجماهير وتغييب عقولها.
ولا عجب في أن ارتماء السياسة في أحضان كرة القدم قد صار بحكم الأمر الواقع زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه، ويتضح بصورة حادة وفجة في الأنظمة الاستبدادية.
في هذه السلسلة نستحضر أهم الأحداث الكروية العالمية التي تداخلت فيها السياسة بكرة القدم بشكل واضح، وغيرت الكثير من نتائجها وسياقاتها التاريخية، وتركت مخلفات كبيرة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية للبلدان، وأطالت عمر العديد من الأنظمة الإستبدادية التي وجدت في الإنجذاب الجماهيري للعبة وسيلة لتغييب الديموقراطية والحكم بالحديد والنار، ولتلميع صورتها في الخارج.
لقد شكّلت النسخة الثالثة من كأس العالم عام 1938 مرحلة مفصلية بتاريخ كرة القدم، وتأثرت كثيرًا بالظروف السياسة المتوثرة التي كانت تسود العالم آنذاك، حيث كانت آخر حدث رياضي دولي قبل اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية.
وشهدت البطولة انسحابات بالجملة، إذ امتنعت أغلب دول القارّتين الأمريكيتين عن المشاركة بسبب عدم منح حق الاستضافة لأي منهما، ورفضت إنكلترا خوض غمار المونديال لتكبّرها على البطولة التي ترى أن جميع فرقها لا يرقون لمستوى المنتخب الإنكليزي، كما انسحبت إسبانيا من البطولة بسبب اندلاع الحرب الأهلية في بلادها، فيما انسحبت النمسا رغم تأهلها للنهائيات بسبب غزو ألمانيا النازية لأراضيها.
و استغلّت ألمانيا التي احتلّت النمسا انسحاب الأخيرة من المونديال فضمّت أربع من أفضل نجومها لتشكيلتها، باستثناء نجم النمسا الأول ماتياس سينديلار الذي فضّل الانتحار بعد ذلك بعام على اللعب بقميص الألمان وفق بعض الروايات.
كما نظّمت الجماهير الفرنسية مظاهرات حاشدة تنديداً بالنازيّة والفاشيّة في محاولة لإحباط الإيطاليين والألمان خلال البطولة، ومنعهم من الظفر باللقب فوق أراضيهم.
إيطاليا بقميص أسود
فازت فرنسا بمباراتها الأولى على بلجيكا بسهولة، لتضرب موعدا في ربع النهائي ضد إيطاليا. في ذلك الوقت، وفي 12 يونيو 1938، استقبل المضيفون المنتخب الإيطالي في ملعب “كولومبس”، في ظل الأوضاع السياسية المتأزمة بين البلدين.
إيطاليا، التي اعتمدت لأكثر من عقد من الزمان على اللون الأزرق، ظهرت على أرض الملعب بقميص وسروال أسودين بأمر من موسوليني، وهو اللون الذي تم استخدامه بالفعل في الألعاب الأولمبية عام 1936 أيضاً، كإشادة بـ”كاميسي نيري”، القوة العسكرية التي كانت موجودة في خدمة النظام الفاشي.
وبالإضافة إلى ذلك، غنى الإيطاليون نشيدهم الوطني وهم ينفذون التحية الرومانية التي أنشأها نظام موسوليني، مما تسبب في رفض الجمهور المحلي للمشهد، من خلال صيحات الاستهجان.
لكن “الأزوري” الذي كان باللون الأسود حينها سيطر بشكل كامل تقريبا على المباراة، وانتهت بنتيجة لصالحه 3-1، قادته إلى الدور نصف النهائي، ثم تأهلت إيطاليا للنهائي، ورفعت كأس “جول ريميه” بعد فوزها على المجر.
اللقب أو الموت
حسب تقرير صحيفة “آس” الإسبانية، فقد تمكنت فاشية بينيتو أندريا موسوليني، الذي حكم إيطاليا ما بين 1922 و1943، من تلطيخ الكرة بأكثر الطرق تدميراً على الإطلاق في تلك الفترة، حيث كان العالم متأثراً باحتلال ألمانيا للنمسا، وغزو اليابان لشمال الصين، وكانت الحرب الأهلية الإسبانية في أوجها، فيما استسلمت إثيوبيا للسيطرة الإيطالية، وكانت الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب دموية، شهدها الكوكب على الإطلاق، على وشك أن تبدأ.
انتظر الجميع لقاء إيطاليا والمجر المرتقب يوم الأحد 19 يونيو 1938 في ملعب أولومبيك دي كولومب بباريس، لتحديد بطل النسخة الثالثة من كأس العالم، فالمجر المدججة بأسلحتها الهجومية الفتّاكة ودفاعها الصلب، أرادت إحراز اللقب للمرة الأولى بتاريخها، بينما طمحت إيطاليا إلى أن تكون أول فريق يحتفظ بلقبه بطلاً للعالم، وكان الانتصار مهماً جداً للزعيم الفاشي موسوليني ، إذ أرسل برقيّة للاعبيه كتب عليها كلمتين فقط ” النصر أو الموت”، وهنا كان على نجوم إيطاليا أن يلعبوا بكل ما أوتوا من قوّة من أجل حماية رقابهم من المقصلة.
لكن غريزة البقاء كانت أهم بالنسبة للاعبي إيطاليا، فأنهوا الشوط الأول متقدمين 3-1، وأحرزوا كأس العالم للمرة الثانية بتاريخهم عقب نهاية اللقاء بانتصار تاريخي 4-2.
وبعد نهاية اللقاء قال حارس المجر أنتال تشابو جملته الشهيرة: “بقبولي الخسارة أنقذت 11 شخصا من الموت” في إشارة منه للبرقية التي أرسلها موسوليني للاعبيه، وكانت هذه النسخة آخر بطولة رياضية كبرى تجري قبل كأس العالم، حيث اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام التالي، وشكّلت البطولة بالنسبة للعديد من نجوم كرة القدم آخر محطّاتهم الكروية. إذ كان من المقرر أن تستضيف ألمانيا أو البرازيل النسخة التالية عام 1942، لكنّ أهوال الحرب حالت دون ذلك، ولم تعد البطولة للظهور إلا بعد 12 عاماً في البرازيل سنة 1950.