سقوط بشار وعودة ترامب.. الربح المؤجل!
سقط بشار الأسد، أو لعلّه أسقِط بتظافر عوامل ذاتية وأخرى خارجية، بل إن الأخيرة منها كانت واضحة وليس عليها غبار؛ ليس في السياق الحالي فحسب، بل منذ 2011 حيث حولت الإمبريالية الغربية الشرق الأوسط إلى رقعة شطرنج تبعثر أوراقها بأسلوب “الثورات الملونة”.. الغارة الإمبريالية على سوريا تُقرأ في هذا الإطار، أي في إطار “مخطط أطلسي” تقوده أمريكا العسكرية برصيدها في الابتزاز “الحقوقي” والضغط باختلاق التناقضات بين المجتمعات العربية وإدارات دولها.
وهذا ليس مخطط دونالد ترامب، وإنما هو مخطط نقيضه الاقتصادي-السياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، المجمع الصناعي العسكري وأجهزته الاستخباراتية والسياسية والثقافية والإعلامية.. غير أن ذلك لا ينفي مكتسبات قد يحققها ترامب من نتائج “الغارة” إياها؛ ومنها نذكر: تحييد سوريا المعارضة، الاستثمار في سوريا، إيجاد قابلية للضغط على تركيا، تعويض روسيا وقص أجنحتها، محاصرة إيران، الضغط على اليمين الإسرائيلي، ترضية الحلفاء العرب، الخ.
لم تكن سوريا القديمة، سوريا بشار الأسد، في مصلحة الأمريكيين عموما؛ ولم تكن في مصلحة ترامب بشكل خاص.. سوريا بشار الأسد كانت حليفا لإيران، وهذه تعارض مخططات ترامب في الشرق الأوسط.. عبر سوريا كان يمر السلاح إلى لبنان (باتجاه “حزب الله”)، ومنها إلى فلسطين وغزة.. لقد كان نظام البعث السوري حلقة مهمة في محور إيران – العراق – سوريا – لبنان – فلسطين، ومعلوم أن هذا المحور كثيرا ما كان يربك حسابات ترامب في الشرق الأوسط، استهدافه وإضعافه -إذن- يصب في مصلحة الرئيس الأمريكي الجديد. إنه على الأقل يضعف قدرات المحور الإيراني على الضغط كما كان يحدث في السابق، مما يقوي موقع نقيضه العربي الذي يبقى -على كل حال- في حاجة إلى مقاومة من نوع آخر، وهي التي يمكن تسميتها بـ”المقاومة الناعمة” (المقاومة الاقتصادية السياسية).
في سوريا الجديدة، سينشط الاستثمار في عدد من القطاعات مثل العقار وإعادة الإعمار والتنقيب على المعادن بما فيها النفط والغاز، أضف إلى ذلك الاستثمارات الغذائية والنسيجية والخدماتية المختلفة.. إنها سوق جديدة وواعدة ستفتح على مصراعيها أمام الاستثمار الأجنبي الخليجي والتركي والصيني والأمريكي والأوروبي.. إنها سوق توافق منطق ترامب في ربط العلاقات مع دول الجنوب، ومن المؤكد أنها ستكون على طاولة تفاوضه مع الإدارة السورية الجديدة ومع حلفائها الأتراك والقطريين أيضا. أما حلفاء ترامب العرب الذي ظلوا يشتكون توسع إيران في المنطقة، فنراهم في السياق الحالي يظفرون في الوقت نفسه بتراجع إيران والسوق السورية الجديدة. وهذا مكسب لا يمنحه ترامب دون مقابل، وإنما عليهم التفكير في الثمن المؤدى نقدا (رفع قيمة الاستثمارات في أمريكا) وسياسةً (الموافقة على خطة ترامب في فلسطين والشرق الأوسط).
وإذا كانت تركيا قد خدمت ترامب بتنحية المحور الإيراني من سوريا، فإنه يمتلك أوراقه الخاصة للضغط عليها. وهنا يمكننا الحديث عن “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) في الحسكة ودير الزور، وعن موقف الإدارة الأمريكية من أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) وجماعته “هيئة تحرير الشام”، وكذا عن موقف حلفاء أمريكا في الخليج العربي (السعودية، الإمارات، البحرين، الخ). إلى أي حد سيحصل التوافق بين أردوغان وترامب في سوريا وخارجها؟ هذا ما سيحدد مستقبل سوريا الجديد.. ومن شأن كل تناقض بينهما أن يفتح عدة جبهات على إدارة الشرع، أولاها جبهة “قسد”، وثانيها الجبهة الروسية-الإيرانية من جديد، وفي شروط جديدة، لا تضير ترامب إذا كانت محدودة ولا تحقق الهيمنة الإيرانية الروسية من جديد.
تواجد تركيا في سوريا يفتح ملفا للضغط عليها، وآخر للضغط على إيران، وعلى الطرف العربي نفسه؛ وإنها أيضا -وهذا ما قد يستغربه البعض-قد تستثمَر من قبل ترامب للضغط على اليمين المتطرف داخل “إسرائيل”.. فرغم تنحيتها للخطر الإيراني من سوريا،وهذا بمثابة مكسب لـ”إسرائيل”، إلا أن الدوائر العليا في الكيان تعتبرها تهديدا من نوع مغاير، وربما هو الأخطر. ولا أدل على ذلك من اللقاء الذي ترأسه بنيامين نتنياهو بحضور مسؤولين أمنيين وعسكريين لتقييم الخطر التركي بعد سقوط النظام السوري السابق. إن ترامب في تعامله من اليمين “الإسرائيلي” في حاجة إلى رادع جيوسياسي وعسكري، وقد يكون الامتداد التركي في سوريا هو هذا الرادع.