story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الملك والرميد وبنكيران

ص ص

هناك أحداث ولحظات تكون لها طبيعة مفصلية وترهن ما بعدها لسنوات، وربما لعقود، من بينها ما جرى يوم 10 أكتوبر 2016، عندما استقبل الملك في قصره بمدينة الدار البيضاء، كلا من رئيس الحكومة المنتهية ولايته حينها، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله ابن كيران، رفقة وزيره في العدل وعضو الأمانة العامة للحزب، المصطفى الرميد.

هذا الأخير كان وراء الإشارة “الحاسمة” خلال اللحظات التي طال فيها انتظار الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التي جرت يوم 7 أكتوبر 2016، عندما انسحب من مكان اجتماع اللجنة المكلفة بالإشراف على الانتخابات، بمقر وزارة الداخلية، والتحق بباقي إخوانه في قيادة الحزب، ليلتفّوا حول ابن كيران ويعلنوا فوزهم بالصدارة، بينما كان صوت وزير الداخلية محمد حصاد يتردد في الخلفية وقد كاد ينطق باسم حزب الأصالة والمعاصرة فائزا، قبل أن يستدرك وينطق اسم حزب العدالة والتنمية.

بل إن الرميد كان وراء ضغط مبكرّ على “الدولة العميقة” حين لجأ إلى الفيسبوك قبل ثلاثة أسابيع من موعد تلك الانتخابات، ليحتج على زميله وزير الداخلية، محمد حصاد، متهما إياه باحتكار التحضير للانتخابات وعدم إشراكه وزير العدل…

ويهمّنا هنا حدث استقبال الرميد إلى جانب ابن كيران يوم الإثنين 10 أكتوبر 2016، بمناسبة تعيين رئيس الحكومة الجديد، والذي يحتمل أن يكون هو تلك اللحظة الحاسمة والمهيكلة لكل ما نعيشه إلى الآن، من تراجعات سياسية وحقوقية وإفراغ للمؤسسات والفصول الدستورية من معناهما الديمقراطي.

هل كانت للملك، أو الدولة من ورائه، رغبة في تعيين الرميد رئيسا للحكومة بدلا من ابن كيران؟ وهل حال هذا الأخير بشكل أو بآخر دون تحقيق هذه الرغبة؟ وهل كان واقعنا اليوم سيكون مختلفا لو أن ابن كيران أفسح المجال للملك، من خلال اعتذاره أو استعفائه، وربما مبادرته إلى اقتراح الرميد كمرشح لرئاسة الحكومة، بما أن دولتنا تقوم جزئيا على لغة الإشارات؟

دعونا نوضّح بداية أن المنطق الديمقراطي وروح الدستور كانا يفترضان دون أدنى شك أو تردّد، تعيين ابن كيران رئيسا للحكومة، باعتباره زعيم الحزب الفائز بالانتخابات أولا، ولأن تلك الانتخابات كانت بمثابة استفتاء شعبي على شخصه، بعدما نزل إلى الميدان وخاض المعركة ودافع عن حصيلته ونال تجديد الثقة بالرغم من كل سياساته وقراراته غير الشعبية، من تحرير للمحروقات وفرض للاقتطاع من أجور المضربين… هذا أمر لا غبار عليه.

وما جرى بعد تلك الانتخابات من “بلوكاج” قاده رئيس الحكومة الحالي، عرير أخنوش، هو انقلاب على الإرادة الشعبية، وإعطاب لمسار البناء الديمقراطي، وتفخيخ للمؤسسات الدستورية، خاصة منها البرلمان والحكومة، دفعنا وما زلنا ندفع ثمنه غاليا، بفعل انهيار الثقة في هذه المؤسسات. وكل التراجعات السياسية والحقوقية والاعتقالات والمحاكمات التي جرت طيلة هذه السنوات، ما هي سوى أعراض جانبية لهذا النكوص الذي وقع بعد إفشال عملية تشكيل الحكومة الثانية لابن كيران.

لكن، وهناك دائما لكن، يهمنا هنا مساءلة سلوك الفاعل السياسي، وليس سلامة اختياراته ومواقفه من الناحية النظرية. السلطة تدبّر بالسلوك الذي يقدم عليه الفاعلون إلى جانب الدستور والقوانين والأعراف. ويهمّنا في حالة هذا اللقاء الثلاثي، الذي استقبل فيه الملك كلا من ابن كيران والرميد، أن نعرف الحقيقة، ونفهم ما جرى، ولا أقصد بتاتا الإشارة إلى المحاسبة أو المساءلة، لأنهما مفهومان يستعصيان على الثقافة السياسية المغربية ولم نتعلّم زراعتهما بعد في تربتنا العقيمة.

ما أعاد هذا الحدث إلى الواجهة هو عودة ابن كيران، في حواره الأخير مع الزميل حميد المهداوي، عن صحيفة “بديل”، إلى تفاصيل ذلك الاستقبال، وقوله إن الرميد سأله يومها، وهما في القصر الملكي في انتظار استقبالهما من طرف الملك، “ماذا سأفعل إذا عيّنني الملك؟”، فكان ردّ ابن كيران، حسب حواره الأخير دائما، أن قال للرميد: “إذا عيّنك فأنت هو رئيس الحكومة”.

يهمّنا كثيرا، كمواطنين تشملهم انعكاسات الوضع السياسي والمؤسساتي، أن نعرف ما إذا كانت هناك رغبة في تعيين الرميد، ومن ثم محاولة فهم لماذا؟ وكيف تعذّر الأمر؟ ونخلص بالتالي إلى استنتاج صواب سلوك الفاعلين المسؤولين عما جرى من عدمه؟

ولنسجّل أن كون ابن كيران كان مستعدا للتسليم بتعيين المصطفى الرميد رئيسا للحكومة، هو رواية أحادية الجانب، لا يوجد ما يؤكدها من جانب الطرفين الآخرين، أي المؤسسة الملكية والرميد.

وإذا كان سلوك وأعراف القصر لا يسعفان في التطلّع نحو الحصول على معلومة من هذا النوع من داخل المشور السعيد، فإن الرميد الذي تحدّث كثيرا في هذا الموضوع، لم يأت قط على تأكيد رواية ابن كيران. مع العلم أن حديث هذا الأخير عن استعداده القبول بتعيين الرميد بدلا منه، لم يحدث لأول مرة في لقائه مع الزميل المهداوي، بل سبق له أن قدّم الرواية نفسها يوم 29 ماي 2022، خلال حديثه أمام المؤتمر الجهوي لحزب العدالة والتنمية بمراكش.

يومها قال ابن كيران إن الرميد سأله حين كانا يهمّان بلقاء الملك عما يمكنهم القيام به، فأجابه: “إذا عيّنك الملك فأنت رئيس الحكومة، وسنطبق ما يريده جلالة الملك”.

وخلال استقبالنا المصطفى الرميد في برنامج “ضفاف الفنجان” قبل ستة أشهر، سألته عن معنى مرافقته لابن كيران يوم 10 أكتوبر 2016، أي يوم تعيين رئيس الحكومة بناء على انتخابات 7 أكتوبر من تلك السنة، فقال لي بالحرف:

“لم أرافقه، هو دعي للحضور، وأنا أيضا دعيت للحضور من طرف التشريفات والأوسمة. لم أكن أعرف موضوع هذه الدعوة، وهو كذلك. اتصلت به وأخبرته بالأمر، ثم تقابلنا في القصر وتكلمنا بعض الشيء. بعد ذلك نودي عليه، فعينه جلالة الملك رئيسا للحكومة، وبعد ذلك دعيت، وكنت أنا وهو، وكانت جلسة صعبة. هذا ما أستطيع قوله، كانت فيها مؤاخذات صريحة وواضحة لابن كيران بشأن تصريحاته التي اعتبر جلالة الملك أنها لا تتلاءم مع منصبه ومسؤولياته”.

لنلاحظ إذن أن الرميد لا يشير إلى تسليم ابن كيران بتعيينه رئيسا للحكومة بدلا منه من عدمه قبل الاستقبال.

ولنستحضر ما قاله ابن كيران في حواره مع “بديل” حين سأله الزميل المهداوي “هل كنت ستقبل أن تكون وزيرا في حكومة يقودها الرميد؟”، حيث أجاب رئيس الحكومة السابق جازما: “لم أكن لأقبل بالتعيين كوزير في حكومة الرميد.. يا نكون رئيس حكومة يا الباب أوسع من كتافي، ولن يلزمني الملك بأن أكون وزيرا مع الرميد أو غيره”.

ألا يعني ذلك “يا أنا يا هو”؟ وهل يمكن اعتبار ذلك بمثابة ضغط وإحراج للملك المعروف بحرصه الشديد على احترام الشكليات الدستورية وعدم الوقوع في أية شبهة بتجاوز المقتضيات الصريحة للدستور؟

إن هناك انطباع يكاد يصبح يقينا، لدي شخصيا على الأقل، أن كلا من ابن كيران والرميد خرجا من القصر الملكي يوم 10 أكتوبر 2016 وهما متأكدان من عدم إمكانية تشكيل حكومة جديدة بناء على ذلك التعيين.

سألت الرميد في حوارنا معه هل يتقاسم هذه القناعة، وكانت صيغة السؤال تقول حرفيا: “ألم يكن لكم تقدير بأن تشكيل الحكومة أصبح مهمة صعبة؟” فكان جوابه:

“فعلا، كان علي، وعلى ابن كيران بالضبط أن يستنتج استنتاجا معينة. لكن أنا لا يمكنني فعل ذلك، لأنه بمجرد انتهاء تلك الجلسة استبعدني وقرّب منه العثماني الذي كان يستبعده في السابق”.

وحين سألته عن مبرر هذا التغيير في سلوك ابن كيران، قال الرميد:

“بالنسبة إليه لم يحتمل الأمر، حسب ما يظهر، وغيّبني من المشاورات مع الأحزاب منذ ذلك اليوم، وأصبح العثماني هو الشخصية المفضلة لمصاحبته بعدما كان مستبعدا تماما. لم تكن لي الجرأة لأقول له بأن عليه القيام باستنتاجات، لأنني سأتهم بأنني أريد أن أسقطها في يدي، وهذا خلّف لدي عقدة، خاصة بعد الحديث عن أنه يمكن أن يكون الرميد بديلا. أردت أن يطمئن بأنه لم يكن لدي أي طموح، فقلت بأني لا أريد أن أكون “بنعرفة” العدالة والتنمية، وكانت تلك رسالة إليه ليطمئن، وبأنني أغلق هذا الباب بهذا التعبير الذي يحمل تجاوزا وقساوة، لكنني كنت أريد أن يطمئن، لأن علاقته معي تغيرت منذ استقبال الملك لي معه”.

أي أن الرميد كان مقتنعا بأن على ابن كيران أن يستنتج عدم إمكانية تشكيله حكومة جديدة، ووجد حرجا في التصريح له بذلك كي لا يتّهمه بالسعي إلى سحب البساط من تحت قدميه. وبعد إعفاء ابن كيران وتعيين العثماني بصفته الرجل الثاني في الحزب والخيار الممكن بعد حديث الرميد عن “ابن عرفة”، سيبرز التمسّك الملكي بوجود الرميد في الحكومة. “كنت تعبت، وأريد أن أستريح، لكن جلالة الملك اتصل بي شخصيا، وأنا مدين له بأمور كثيرة…”، يقول الرميد في حديثه مع “ضفاف الفنجان”.

وبما أننا أمام فرصة فريدة تحققت لنا بفضل نزوع قيادات حزب العدالة والتنمية إلى البوح وكشف معطيات لم يكن متاحا لنا الاطلاع على عُشرها مع قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي الذي قاد حكومة التناوب وحزب الاستقلال الذي قاد حكومة ما قبل الربيع العربي؛ أعود في الختام إلى سؤال البداية:

هل كان الملك يرغب في تعيين الرميد رئيسا للحكومة، خاصة أن موعد الاستقبال كان قد تأجل، وهذه معلوماتي الخاصة، بعدما كان مرتقبا قبل يومين من حدوثه الفعلي؟ وهل حال ابن كيران، عن قصد أو عن غير قصد، دون ذلك؟
أذكر دائما حديث شخصية مغربية التقيتها متم يناير 2017 في مقر الاتحاد الافريقي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بمناسبة خوض المغرب معركة استعادة مقعده الإفريقي، وهي شخصية متصلة بدوائر القرار، حيث كنا نناقش الأوضاع المتسمة بالبلوكاج حينها، فقال لي: “إذا نجح الرهان هنا، (يقصد نيل عضوية الاتحاد الافريقي)، فإن ابن كيران لن يشكّل الحكومة نهائيا”، وكان يقصد أن الدولة ستتقوى أكثر بإنجازها الخارجي ولن تخضع لابن كيران.

ودون أن ننازع أو نشكّ في أحقية ابن كيران في ولاية ثانية وفقا للمنطق الديمقراطي، ألا يفرض الحق في الاطلاع على الحقيقة وواجب قراءة ومساءلة سلوك الفاعل السياسي، التساؤل حول ما إذا كان كل ما جرى لاحقا نتيجة لعناد الطرفين؟