اللغز السوري!
مباشرة بعد إعلان اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل في 27 نونبر الماضي، اشتعل الوضع في سوريا؛ إذ أعلنت فصائل المعارضة المسلحة، وأبرزها هيئة تحرير الشام، عن عملية “ردع العدوان” ضد قوات النظام وحلفائه.
التصعيد الجديد بدأ في أكتوبر الماضي، حين نفّذ الطيران الروسي وقوات من النظام السوري هجمات قوية على مواقع المعارضة المسلحة في إدلب. باستدعاء السياق إذن، تبدو عملية ردع العدوان بمثابة رد فعل على هجمات سورية روسية على إدلب، رأت فيها تركيا وحلفاؤها من قوات المعارضة السورية خرقا لاتفاق وقف إطلاق بين روسيا وتركيا في الأراضي السورية كما جرى التوصل إليه في دجنبر 2016، والذي انضمت إليه إيران لاحقا وبات يُعرف بمسار آستانة لخفض التصعيد.
تطورات في الموقف، غدتها ظروف دولية وإقليمية متفجرة، أبرزها الحرب في أوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان ونتائجه السلبية على النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما اقتنصته فصائل المعارضة السورية بحيث استغلت كل ذلك لمزيد من خلط الأوراق، بغية فرض شروط جديدة.
لا حاجة للتذكير بأن سوريا تحظى بأهمية جيوسياسية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط. إذ أصبحت، منذ تحطيم العراق وتحييده سنة 2003، في قلب الضغوط الإقليمية بين عدة مشاريع دولية (أمريكا، روسيا)، وفي قلب التناقضات الإقليمية التي حولتها إلى ساحات للمواجهة المباشرة، بما في ذلك المواجهة المسلحة، خصوصا بين قوى رئيسية في الإقليم (تركيا، إيران، إسرائيل).
تناقضات لم يحسن النظام السوري إدارتها، سواء في سنة 2011 حين فقد السيطرة على أراضيه، أو اليوم إذ يمكن أن تذهب برأسه، حيث باتت قوى المعارضة المسلحة على مشارف مدينة حمص، ملتقى الطرق الاستراتيجية في سوريا كلها.
ويمكن القول إن تفجر الصراع من جديد في سوريا، بعد اتفاق آستانة الذي سمح للنظام باستعادة السيطرة على جزء واسع من الأراضي بين صيف 2016 وربيع 2017، يعود إلى التطورات الجديدة في العالم والإقليم (الحرب في أوكرانيا، الحرب على عزة ولبنان) التي أدت إلى تعديل في موازين القوى بين الأطراف الإقليمية والدولية، بعضها موجود على الأرض في سوريا مثل أمريكا وتركيا وإيران وروسيا، وبعضها يحاول استعادة بعض النفوذ والتأثير مثل السعودية والإمارات.
موازين جديدة في القوى أدت بجميع الأطراف إلى القيام بتعديل في حسابات المصالح والقدرات والإرادات، وأفضت إلى الانفجار الذي رأيناه يوم 27 نونبر الماضي، أي إعلان فصائل المعارضة المسلحة الهجوم على قوات النظام السوري، ليس من أجل استرجاع ما فقدته سنة 2016 أي حلب ونواحيها، بل من أجل رأس النظام نفسه.
في هذا السياق، تحاول هذه الورقة الإجابة عن سؤال: لماذا تفجر الوضع في سوريا؟ وهل يستطيع النظام السوري النجاة مرة أخرى؟
عودة إلى الخلف
قبل ثماني سنوات، وبالضبط بين صيف 2016 إلى ربيع 2017، كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما يستعد للخروج من البيت الأبيض بينما يستعد خلفه حينها دونالد ترامب لحكم الولايات المتحدة لأول مرة (ولايته الأولى).
خرج أوباما دون أن ينفذ وعوده بإسقاط النظام السوري، إذ اكتفت الولايات المتحدة الأمريكية بالمكاسب التالية: التموقع قرب حقول النفط والغاز السورية في الشمال الشرقي، تشييد قواعد عسكرية جديدة حول إيران لاستكمال سلاسل القواعد الممتدة من عمان مرورا بالخليج حتى كردستان لتطويق إيران وحماية إسرائيل، تعميق تحالفاتها مع القوى الكردية في المنطقة ونسج التحالف بين الأكراد وإسرائيل، وانتزاع برنامج السلاح الكيماوي من النظام السوري لتفكيكه.
وقد اقتضى منها تحقيق تلك الأهداف، نشر قوات عسكرية في شمال شرق سوريا وهي منطقة احتكاك واتصال جغرافي بين العراق وسوريا وتركيا وعلى مسافة قصيرة من الحدود الإيرانية. في المقابل، صرفت النظر عن استمرار النظام السوري، رغم الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه، بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي لإجبار المعارضة على التراجع.
ومن أجل أن ينقذ نفسه في مواجهة الثورة السورية التي تحولت مبكرا إلى ثورة مسلحة تدعمها قوى إقليمية مثل تركيا، استعان الأسد بإيران الذي أمدته بالسلاح والعتاد والميليشيات الشيعية المقاتلة، من باكستان وأفغانستان إلى حزب الله في لبنان مرورا بميليشيات شيعية من العراق.
تحولت الثورة في سوريا من ثورة شعب لإسقاط النظام إلى مواجهة إقليمية، بين النظام وإيران وحلفائهما من جهة، والمعارضة السورية وحلفائها خصوصا تركيا وقطر من جهة أخرى. وبسبب شراسة المواجهات، استعان النظام سنة 2015 بالحليف الروسي، الذي ساعده فعليا على البقاء والاستمرار، مقابل قواعد عسكرية جوية وبحرية على البحر الأبيض المتوسط. مثلما ساعدته عوامل أخرى منذ 2013 منها نشأة داعش في العراق، ثم تمددها إلى سوريا حيث أعلنت تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، اختلطت أوراق الجميع، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأمريكية ركزت حينها على محاربة الإرهاب (داعش، القاعدة..) بدل المساعدة على إسقاط نظام الأسد.
في ظل المعطى الروسي والإيراني المساند للنظام، وتغير أولويات أمريكا في سوريا بذريعة الحرب على الإرهاب، أرادت تركيا أن تضمن لها بعض النفوذ على الأرض استعدادا لفترة مساومات سياسية في سوريا كانت تعلم أنها قادمة لا محالة مع الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة ترامب (2016-2020).
لهذا أوعزت أنقرة إلى المليشيات القريبة منها بتنظيم هجمات في ريف حلب الشمالي والغربي، ثم دعمت هذه القوات لاحقا بعملية عسكرية سميت حينها “درع الفرات”. وقد كان لهذه العمليات هدف مشترك، هو إبعاد قوات الأسد وإبعاد قوات قسد (قوات سوريا الديمقراطية) الكردية عن الخاصرة التركية، ولكن تقدم العمليات لم يكن بلا سقف.
اضطرت تركيا لاحقا للتفاهم مع روسيا على إخراج المعارضة السورية من مدينة حلب إلى محافظة إدلب، ضمن تفاهمات لوقف إطلاق النار في كل الأراضي السورية، وباتت تعرف لاحقا باتفاقيات آستانة لخفض التصعيد.
كما اضطرت تركيا للدخول في ترتيبات سياسية مع روسيا وإيران في مسار آستانة، والذي استفاد منه نظام الأسد في استعادة السيطرة على مناطق سورية كثيرة، كان قد فقدها إثر اندلاع الثورة السورية سنة 2011، لكن تلك المكاسب للنظام لم تكن بدون شروط وضعت فوق الطاولة في مفاوضات آستانة، تتضمن إلزام النظام السوري بتنفيذ إصلاحات تسمح بعودة آمنة للاجئين السوريين في تركيا.
تحوّلت هذه القضية إلى مشكلة سياسية للنظام التركي، وتسببت في خسارته الانتخابية مؤخرا، وضغطت على الأتراك لإيجاد حل عاجل وجذري. لكن الأسد، وبعد أن استرجع جزءا من أراضيه، ومنها حلب، لم ينفذ شروط آستانة، فلم يسمح بعودة السوريين في تركيا ولا أنجز أية إصلاحات سياسية تمهد لإدماج المعارضة، ومضى في حكمه وكأنه حقق انتصارا مظفرا، مستهينا بقدرة تركيا على قلب الطاولة، حين يتعلق الأمر بأمنها القومي في الداخل والخارج.
لا تملك تركيا السيطرة على هيئة تحرير الشام التي تصنفها جماعة إرهابية، لكنها تملك علاقة مؤثرة مع المعارضة السياسية والجيش السوري الحر، وتشكل الوجه الجديدة لجبهة النصرة، التي انفصلت عن تنظيم القاعدة.
حوّلت اسمها إلى هيئة تحرير الشام، كما عدلت في عقيدتها السياسية والعسكرية، وصارت قريبة من فصائل المعارضة المسلحة الأخرى التي تدعمها تركيا. خلال السنوات الماضية، كان قائد هذه الهيئة، المسمى أبو محمد الجولاني، يعتبر مسار آستانة بين تركيا وروسيا وإيران “مؤامرة على الثورة السورية”، لكنه التزم بالترتيبات.
ولوصمه بالإرهاب من قبل جميع الأطراف، وجدت الهيئة نفسها أيضا خارج مسار جنيف التفاوضي التي ترعاه الأمم المتحدة، ويبحث أفق الحل السياسي في سوريا. لكن بفعل حسابات النظام السوري الخاطئة، سيكون الجولاني بالمرصاد، فهو رصد أولا تغير السلوك الأمريكي في التعامل مع جماعات تصنفها إرهابية في أفغانستان، حيث سلمت الحكم لحركة طالبان، ويبدو أنه فكّر في سيناريو مشابه. كما رصد الامتعاض التركي من تعنت النظام السوري، وعلاقاته المتينة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حتى أنه سلّمها جزءا من حلب ومطارها الدولي، وهو ثاني مطار استراتيجي في سوريا بعد مطار دمشق.
وخلال العدوان على عزة ولبنان، رصد الجولاني بدون شك سلوك النظام السوري الذي اختار النأي بالنفس، وظهر على غير وفاق مع إيران وحزب الله، لحساباته التي تتعلق بالحاجة إلى إعادة التأهيل للاندماج في جامعة الدول العربية وفق التزامات مع السعودية والإمارات ومصر لا شك أنها تتضمن وضع مسافة مع إيران.
رصد الجولاني كل تلك التطورات التي عكست تغيرا في موازين القوى والإرادات، متخذا الهجمات الروسية-السورية في أكتوبر الماضي، ذريعة لانخراط بل قيادة عملية ردع العدوان.
موازين القوى
من الصعب فهم عملية “ردع العدوان” بدون استحضار التطورات التي حدثت على مستوى ميزان القوى الإقليمي والدولي، والحسابات الخاسرة للنظام السوري، وعجز القوى العربية عن التأثير الفعال سواء لصالح النظام أو ضده. في ضوء ذلك، يمكن فهم التطورات الجديدة وفق المعادلات التالية:
تغول إسرائيل مقابل تراجع إيران: حوّلت إسرائيل أحداث السابع من أكتوبر من هزيمة لها إلى نصر عسكري حاسم. فعلت ذلك باستخدام وتفعيل مبدأ “كثافة النيران”، أي توظيف القوة العسكرية المفرطة، بشكل غير مسبوق في أي حرب سابقة بينها وبين القوى الفلسطينية أو العربية، بما في ذلك استخدام التهجير والتجويع والقتل الجماعي كأسلحة لكسر إرادة المقاومة الفلسطينية في غزة.
لقد تحركت إسرائيل بدافع غريزة البقاء، فاعتبرت أن 7 أكتوبر استهدفت وجودها، ما يبرر لها الدفاع عن النفس، ناسية أنها قوة احتلال في الواقع وليست دولة طبيعية في فلسطين. لم تقدم إسرائيل أي مبادرة للحل، أو من أجل أي اتفاق، واكتفت بالتفاعل مع ما يقدم إليها من قبل الوسطاء (مصر وقطر وأمريكا)، فترفض وتناور وتؤجل، من أجل ربح مزيد من الوقت لتحقيق أهدافها. وبقدر ما تفشل في ذلك، تصبح أكثر شراسة وعنفا وتدميرا.
عمليا، وبمساعدة فعالة وحاسمة الولايات المتحدة الأمريكية، وعجز عربي عن التأثير، وتواطؤ أوربي، استطاعت إسرائيل أن تلحق تدميرا بل إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة. وقد حاولت تكرار الأمر نفسه في لبنان، حتى تفرض شروطها، وهو ما تأتي لها بنسبة كبيرة في اتفاق الهدنة بينها وبين لبنان.
صحيح أنها لم تستطع تحقيق كل أهدافها، لكنها حققت الشيء الكثير، مثل إسقاط شعار “وحدة الساحات” وبالتالي فصل غزة عن لبنان، وهي ضربة صعبة ومؤلمة لمحور المقاومة الإيراني.
إن قبول حزب الله بالاتفاق، لم يكن من دون ضوء أخضر إيراني، والقبول به من الطرفين، سواء كان من أجل عدم الاصطدام بأمريكا أو تفويتا للفرص على إسرائيل، لا يغير في النتيجة كثيرا، وهي أن الاتفاق يؤشر على بداية تراجع محتمل لإيران في لبنان كما في سوريا، كيف ذلك؟ لقد اتخذت إيران من سوريا حليفا ومعبرا استراتيجيا نحو لبنان والبحر الأبيض المتوسط، وجعلت من حزب الله رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني، باعتباره تهديدا لها.
وخلال العدوان على غزة ولبنان، يبدو أنها اضطرت في الغالب إلى إجراء تغييرين في مواقع انتشار قواتها في سوريا، إما بالسحب أو الترحيل نحو لبنان أو على حدوده. كما تعرضت قواتها لضربات متتالية من لدن إسرائيل خلال السنوات الماضية، وأساسا منذ بدء العدوان على غزة، أفقدتها العديد من المواقع والتجهيزات وحتى مستشارين وقادة العسكريين، وقع الإجهاز عليهم حتى وهم في السفارة الإيرانية في دمشق.
بدون شك، صبّت تلك الاعتداءات الإسرائيلية على إيران في سوريا، في صالح تركيا والمعارضة المسلحة السورية.
الاعتداءات الإسرائيلية، “ردع العدوان”، فرض اتفاق الهدنة على حزب الله في لبنان، كلها ضربات قوية لم تكن لتخطر على بال صناع القرار إيران، حتى في أسوأ السيناريوهات المحتملة، بحيث أن كل خصومها سيقررون محاربتها في نفس الوقت وفي أماكن مختلفة. تبدو الصورة هكذا: بالأمس كان يتعين على إيران أن تنقذ حليفها في لبنان، حزب الله، ويبدو أنها لم تنجح تماما في ذلك، واليوم يجب عليها أن تنقذ حليفها الآخر في دمشق بشار الأسد، فهل تفعل؟
علينا أن نتذكر أن إيران استطاعت إنقاذ النظام السوري عقب الثورة عليه سنة 2011، إلى جانب الدعم الروسي طبعا. كانت ميليشيات إيران تقاتل في البر، تحت حماية وغطاء الطيران الروسي في الجو. لكن هذه الصورة يبدو أنها تغيرت اليوم، فما يظهر أنه تراجع إيراني في لبنان، امتد أو يكاد إلى مواقعها العسكرية في سوريا، أو هكذا تصورت الأمر قوى المعارضة المسلحة، التي سارعت إلى اقتناص الفرصة في اليوم نفسه الذي تجرعت إيران وحزب الله كأس السم في لبنان.
لا ينبغي فصل ذلك عن تحولات سياسية داخلية في إيران، التي أظهرت، منذ انتخاب رئيسها الحالي، مسعود بزشكيان، ميولا قوية للتوافق والتفاوض مع القوى الغربية وأمريكا. يؤكد ذلك الخطاب السياسي الصادر عن فريق بزشكيان، خصوصا حين زار الولايات المتحدة الأمريكية لحضور الدورة السنوية للأمم المتحدة.
كما تأكدت تلك الميول في مواقف أخرى، منها الضربات المتبادلة بينها وبين إسرائيل، إذ تبين من خلال الضربة الأخيرة الإسرائيلية وجود تنسيق وتفاهمات مسبقة لكي لا تتعدى إسرائيل الخطوط الحمراء الإيرانية مثل استهداف برنامجها النووي، ومصانع السلاح الاستراتيجي لديها.
ويبدو أن إيران كانت على علم مسبق حتى بالأهداف التي قررت إسرائيل استهدافها، فأخلتها من العاملين فيها. باختصار شديد، كانت لبنان ورقة إيرانية أمريكية لاختبار الثقة بينهما، ومن المحتمل أن تكون سوريا كذلك جزء من هذه الصفقة. ففي لبنان، ظهر التراجع الحقيقي لإيران في الإقليم، قد يكون مؤقتا، لكنه قائم حاليا، وفي سوريا قد يتأكد التراجع نفسه، ما يجعل النظام السوري في مأزق غير مسبوق، وهو ما تؤكده نتائج المعارك في الميدان حتى كتابة هذه الورقة.
انشغال روسيا في أوكرانيا: تستمر الحرب بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير 2022، بمعنى أنها شارفت على استكمال سنتين، دون حل واضح في الأفق. يعول الغرب على إنهاك روسيا، من خلال دعم أوكرانيا بالسلاح والعتاد والمال وحتى بالمقاتلين، لدفع روسيا إلى التراجع. لكن الأخيرة تبدو مصممة على المضي في خططها، بما في ذلك عدم التنازل عن شرق أوكرانيا وجزيرة القرم.
ويبدو أن تجميد القتال في سوريا منذ 2016، باتفاق مع تركيا، قبل أن تنضم إيران إلى مسار آستانة، أفاد روسيا من أجل التركيز على جوارها الإقليمي وأساسا شن حربها على أوكرانيا لإفشال خطط حلف الناتو هناك. وبسبب الهدوء في الساحة السورية، نقلت روسيا أجزاء كبيرة من السلاح والعتاد والقوات إلى الساحة الأوكرانية، بينما تفرض عليها التطورات الجديدة إعادة التركيز على سوريا، خصوصا إذا كانت متشبثة باستمرار نظام الأسد.
علاوة على ذلك، تربط روسيا بتركيا التزامات سياسية في إطار مسار آستانة، فالتراجع التركي سنة 2016، كما سبق الذكر، لم يكن مجانا، بل على أساس إعادة تأهيل النظام السوري من أجل القيام بإصلاحات سياسية لإدماج المعارضة، وفي الوقت نفسه إعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى قراهم ومدنهم في الشمال السوري.
لكن تركيا تبدو منزعجة من عدم تنفيذ النظام السوري لالتزاماته، وهو أمر محرج لروسيا كذلك في علاقتها بتركيا. وعموما، تضع الأحداث الأخيرة روسيا في مأزق؛ فهي بحاجة إلى التركيز في أوكرانيا، لكن قد تسعى إلى إنقاذ الأسد، لكن دون الإضرار بعلاقتها مع تركيا. أخطاء النظام السوري قد تدفعها إلى التراجع، لكن ليس إلى الحد التي تسمح بالإطاحة به، لكن بما يفرض عليه التفاوض مع تركيا لإيجاد حل.
تعنت النظام ومناوراته: اعتبر النظام السوري عدم إسقاطه بعد 2011 انتصارا له، خصوصا بعد اتفاق وقف الإطلاق النار بين روسيا وتركيا سنة 2016 كما سبقت الإشارة. لكن رغم الدعم الروسي والإيراني له، وتراجع الموقف التركي والأمريكي عن المطالبة بإسقاطه، إلا أنه لم يوظف تلك الأوراق من أجل بناء علاقات جديدة مع المعارضة السياسية والمسلحة، ولا استطاع إحداث أي خلخلة فيها، اللهم تحالفه مع أكراد سوريا في شخص حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وذراعه المسلح (قسد).
ويلاحظ من خلال سلوك النظام تركيزه على ثلاث أولويات خلال السنوات الأخيرة:
أولا: إحياء خطوط اتصال مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي منحها الإشراف والحماية على مناطق شمال الشرق السوري على الحدود مع تركيا، وخلال الفترة ما بعد 2020 أصبحت طرفا في تسيير مطار حلب الدولي، وهي خطوة لا يمكن أن تقبل بها تركيا مثلا؛
ثانيا، إعادة تأهيل علاقاته، أي النظام السوري، بالدول الخليجية أساسا، خصوصا السعودية ومصر والإمارات، وقد أقدم على خطوات عديدة في هذا السياق منها إعادة تفعيل عضويته في جامعة الدول العربية، زيارات متبادلة وغير ذلك.
وثالثا، النأي بالنفس طيلة فترة العدوان على غزة ولبنان، إذ يلاحظ أنه تجنب الانخراط في المواجهة مع إسرائيل رغم الاختراق المتكرر لأجوائه من لدن هذه الأخيرة، كما لم ينخرط في تعزيز حماية القوات الإيرانية ولا قوات حزب الله في سوريا، بالرغم من الضربات التي تعرض لها الطرفين، وهو موقف لا شك أنه أحدث اضطرابا لدى إيران وحلفائها، وطرح تساؤلات حول نوايا النظام وخلفيات مواقفه.
إذا استحضرنا أن الدول العربية التي سعى النظام السوري إلى تطبيع علاقاته بها لن تغير كثيرا في واقع المعارك الجارية اليوم في سوريا، فإن سوء التفاهم بينه وبين إيران التي تبدو في حالة تراجع، والخصومة القوية بينه وبين تركيا، ثم انشغالات روسيا عنه في أوكرانيا، وهي القوى الثلاث الأكثر تأثيرا في ديناميات الوضع السوري، كلها تطورات سلبية في حسابات النظام لا شك أن قوى المعارضة السورية المسلحة قد رصدتها بدورها، واستحضرتها في الترتيبات الأخيرة التي أسمتها “ردع العدوان”. وهي ترتيبات لا يبدو أن تركيا بعيدة عنها.
فرصة تركيا: تبدو تركيا الفاعل الأكثر حضورا في عمليات القتال الجارية في سوريا. صحيح أنها لم تعلن صراحة وعلانية عن دعمها لقوات المعارضة المسلحة السورية، لكن معظم التحليلات تشير إلى أنها وراء ما يحدث والمستفيد الأول منه.
أولا، لأن تركيا ظلت منشغلة طيلة السنوات الماضية بكسر القوى الكردية في المنطقة، سواء في العراق أو سوريا أو الداخل التركي، وتصرح علانية أن المشكلة الكردية تمثل تهديدا وجوديا لها. ويلاحظ أنها تدخلت عسكريا وسياسيا لهذا الغرض في العراق، بهدف ضبط الحركية الكردية في شمال العراق/كردستان، ولها قواعد عسكرية في كركوك والموصل.
لنتذكر أنها كانت وراء إفشال الاستفتاء حول استقلال كردستان العراق سنة 2017، وفي الأشهر الأخيرة ضغطت بقوة من أجل تقليص صلاحيات مؤسسات الحكم الذاتي الكردستاني، خصوصا دمج الموظفين (الإدارة) في ميزانية الدولة العراقية، واحتكار الشركة العراقية للغاز والبترول تسويق النفط الكردستاني، ومصادقة المحكمة العليا على نتائج الانتخابات التشريعية في كردستان، وهي إجراءات تقلص وتقوض منسوب استقلالية الأكراد في العراق، وتنهي تدريجيا طموحهم في الاستقلال.
أما في سوريا، تسعى تركيا باستمرار من أجل تغيير الوضع الديمغرافي شمال سوريا، عبر دمج العرب والترك وسط الكرد، وفصل أكراد سوريا عن أكراد تركيا، ومنع قيام سلطات حقيقية للحكم الذاتي للأكراد في سوريا حتى لا تنعكس على الوضع السياسي والدستوري في تركيا كذلك. في ضوء كل ذلك، لا يمكن تصور أن تركيا يمكن أن تقبل بقرار النظام السوري إشراك تنظيم (قسد) في الإشراف على مطار حلب الدولي، فهي خطوة مستفزة لها جدا، ويصعب أن تقبل بها في الظروف الحالية.
اختار النظام السوري معاكسة تركيا على طول الخط، فتحالف مع الحزب الوطني الكردستاني وذراعه (قسد)، في الوقت الذي يرفض أي تسوية سياسية أوسع تشمل المعارضة السورية المسلحة، خصوصا تلك التي لها صلات بتركيا. وإذا كانت تركيا قد تراجعت سنة 2016، في سياق إقليمي تميز بالثورة المضادة ضد مخرجات ما يسمى بـ”الربيع العربي”، ومن أجل مصالحها مع روسيا وإيران في مناطق أخرى، فإن ذلك التراجع كان مؤقتا، في انتظار إنضاج ظروف جديدة، وهو ما تعبر عنه عملية “ردع العدوان”، التي تطرح في العلن ضرورة الوصول إلى حل سياسي في سوريا، لكنها قد تتطور في أي لحظة لقطف رأس النظام في سوريا، فعل وصلت التناقضات في الساحة السورية بين مختلف القوى إلى حد التوافق على إسقاط النظام؟
خلاصة: من الصعب التكهن بمصير النظام، وبالتطورات التي قد تحصل في المواقف خلال الفترة المقبلة، كل ما يمكن رصده أن تركيا مثلا، وهي المستفيد الأول حتى الآن مما يجري، دعت مجددا إلى حل سياسي في سوريا، لكن الملاحظ أن قوى المعارضة المسلحة التي تقود عملية “ردع العدوان” تتصرف على أساس أنها لن تقف إلا بعد الإطاحة بالنظام.
ومنذ دخول فصائل المعارضة إلى حلب ثم حماة، ثم إعلان التوجه صوب مدينة حمص الاستراتيجية، يبدو أن الإطاحة بالنظام السوري هدف مطروح على الطاولة، وأن العملية لا تهدف إلى إجباره على التفاوض فقط. لكن هل ستترك روسيا وإيران وحزب الله حليفهم بشار الأسد لمصيره؟ الأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بأن تجيب على ذلك؟