story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

عالمنا في مرآة غزة

ص ص

بعدما تأكد مضيّ الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها الماسكة بزمام الأمور في الشرق الأوسط، بعد الانسحاب التكتيكي الذي قامت به روسيا من سوريا، في فرض خطة وقف إطلاق النار في غزة. وفي الوقت الذي تتنافس فيه الإدارتان الحالية والمقبلة في إنهاء العدوان بعدما تخلّصتا من الضغط والابتزاز الإسرائيليين في الفترة الانتخابية، تعالوا نستطلع أحوال العالم على ضوء ما أفرزه “طوفان الأقصى” وما تلاه من عدوان وحرب إبادة على فلسطينيي غزة.

الحرب، تلك الكلمة التي تثقل الضمير الإنساني، وكأنها الحبر الذي يُعاد به رسم خرائط السياسة العالمية، وتحديدا الحرب في غزة، التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، لم تكن مجرد مواجهة بين قوى غير متكافئة، بل كانت أشبه بمسرح تاريخي يكشف انزياح ميزان القوى الإقليمي والدولي من جديد.

ومثلما تسقط الحجارة في مياه راكدة، هزّت تلك الحرب المواقف والاصطفافات، وأجبرت الجميع على مراجعة أوراقهم، وتأمل وجوههم في مرآة العزة والكرامة التي صقلتها أيادي المقاومين الصامدين.

إقليميا، لأول مرة منذ سنوات، لم تعد القضية الفلسطينية مجرد ملف يتم تناوله بلاغيا في المؤتمرات، بل أصبحت اختبارا حقيقيا لقدرة الدول العربية على التفاعل مع الواقع الجديد.

في الحرب الأخيرة، لم يكن مجرد التنديد كافيا، ولم تعد البيانات الدبلوماسية تصرف في سوق المعاناة الفلسطينية، وباتت الأنظمة السياسية، ولو بشكل رمزي، أمام حتمية أخذ الموقف الشعبي الذي عبّر عن نفسه بأشكال مختلفة أبرزها المقاطعة، بعين الاعتبار.

الدول التي كانت تراهن على سلام هشّ مع إسرائيل وجدت نفسها أمام تحدٍ أخلاقي وشعبي لم تستطع تجاهله. من الرباط إلى بغداد، كانت العواصم العربية تحت ضغط الشارع الذي اشتعل غضبا، بينما لم يكن أمام الحكومات سوى السير على حبل رفيع يربط بين التزاماتها السياسية ومطالب شعوبها.

حتى التحالفات التي كانت تبدو متماسكة بدأت تظهر عليها التصدّعات، بينما أصبحت فلسطين مجددا محور النقاش الإقليمي.

أما دولياً، فالحرب الأخيرة كشفت مجددا تناقض الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية. وبينما استمرت القوى الكبرى في دعم إسرائيل تحت ذرائع “الدفاع عن النفس”، برزت أصوات أوروبية وأميركية تنتقد هذا الدعم غير المشروط وتطالب بمراجعة السياسات التقليدية.

لقد خرجت الجماهير في العواصم الغربية في مظاهرات غير مسبوقة تأييدا لفلسطين، مما أجبر بعض الحكومات على اتخاذ مواقف أكثر حذرا. لكن الأهم كان تحول النقاش في مراكز الفكر والبحث، حيث بدأ المحللون يتحدثون عن أزمة الشرعية التي تواجهها إسرائيل في ظل تصاعد الانتهاكات بحق الفلسطينيين.

عقود طويلة من الاستثمار في التعليم والإعلام والدعاية بمختلف أنواعها، الفنية والسينمائية والأدبية، أسقطها هجوم سابع أكتوبر بالضربة القاضية، وبدت الأجيال الصاعدة، رغم سطوة منصات التواصل الاجتماعي وانحيازها الواضح لإسرائيل، متمرّدة على جل المقولات التي بنيت عليها الصهيونية في المخيال الغربي، بما في ذلك مقولة “معاداة السامية”.

عندنا في المغرب، وجدنا أنفسنا في قلب هذا الزلزال السياسي بينما كنا نعتقد أن قدر الاستسلام للقدر الصهيوني بات حتميا. ومنذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، كان الموقف المغربي مشدودا بحبل رفيع بين التزاماته الدولية واستراتيجياته الوطنية. فجاءت حرب غزة لتضع هذه التوازنات على المحك.

على المستوى الرسمي، سعى المغرب للحفاظ على خطابه المتوازن، مؤكدا دعمه الثابت لحل الدولتين وحقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، لم يكن بإمكانه تجاهل نبض الشارع، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في مختلف المدن المغربية تطالب بمواقف أكثر حزما تجاه إسرائيل.

الأهم من ذلك، هو التأثير غير المباشر على قضية الصحراء المغربية. ففي حين استثمر المغرب علاقاته مع إسرائيل لتعزيز موقفه في هذا الملف، جاءت الحرب لتعيد ترتيب الأوراق، إذ أصبحت الرباط مطالبة بالتوفيق بين هذا التعاون وبين مسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين ومكانتها عند المغاربة.

من جهة أخرى، استغل خصوم المغرب الإقليميون هذا الوضع لتوجيه انتقادات لاذعة لسياساته، في محاولة لتأليب الرأي العام الداخلي. ضريبة بديهية ولا مفرّ منها لا يبدو أنها أثقلت كاهل المغرب بشكل معتبر، بفعل افتقاد الخصم الرئيس، أي الجزائر، لأية مصداقية في هذا المجال، بما أنها كانت تمنع حتى التظاهر تضامنا مع فلسطين.

اليوم، وبينما خفت صوت المدافع في غزة، فإن ما تركته الحرب من تداعيات لم ينتهِ. فلسطين عادت إلى قلب الأجندة الدولية، ولكن بشكل أكثر تعقيدا. دول المنطقة، بما فيها المغرب، باتت تواجه تحديا يتمثل في المواءمة بين المصالح الاستراتيجية والقيم الأخلاقية وعدم توسيع الهوة بين الأنظمة والشعوب.

ويبقى السؤال الذي يلوح في الأفق: هل ستتمكن الدول العربية من تحويل هذا الغضب الشعبي إلى استراتيجيات حقيقية تدعم المصالح الوطنية لهذه الدولة والحقوق الفلسطينية؟ أم ستظل فلسطين، كما قال محمود درويش، “جرحا نازفا في الجسد العربي”، يوقظ الضمير كلما اقترب من الموت، لكنه لا يشفى أبداً؟

ختاما، أنا شخصيا لم أكن يوما “طوباويا” في هذا الموضوع، ولا اعتقدت في يوم من الأيام أن الاختيارات والقرارات الرسمية يمكن أن تبنى على الاعتبارات الأخلاقية وحدها.

وبما أن حليفنا الأول في المجالات السيادية والعسكرية الحيوية هو الولايات المتحدة الأمريكية، العرّاب والحامي الأول لإسرائيل، فإنني لا أحمل وهم إمكانية تدبير العلاقات المغربية الأمريكية مع استبعاد كلي لهذا المعطى.

لكن، ورغم كل ذلك، يمكن القول إن المغرب، كما الدول العربية الأخرى، لم يعد بإمكانه أن يكتفي بالوقوف على الحياد أو الاكتفاء بردود الفعل التقليدية.

القضية الفلسطينية، بما تمثله من رمزية للعدل والكرامة الإنسانية، وبما تطرحه من تحد للأنظمة والقوى العالمية، أصبحت الاختبار الأخلاقي والاستراتيجي الأبرز في زمن تزداد فيه الاصطفافات وضوحا، ولا مكان فيه لأنصاف المواقف أو الحياد الزائف.

في عالم تُقاس فيه القوة بالتأثير والمصداقية، فإن الموقف من فلسطين ليس فقط مسألة تضامن، بل بوابةً نحو تحديد موقعك في التاريخ. الصمت أو الانحياز للمعتدي لم يعد مجرد خيار سياسي، بل تواطؤاً يعري الانفصال بين الشعارات والممارسة. وفي النهاية، فلسطين ليست فقط قضية شعب محتل، بل اختبار لمدى قدرتنا جميعا على الوقوف مع الحق.