story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حزب العدالة والتنمية.. من الإنقاذ إلى استعادة المبادرة

ص ص

يصطدم تقييم الأداء السياسي لحزب العدالة والتنمية، بتعدد مرجعيات التقييم، حيث تبرز مرجعية الأداء السياسي والفكري للحركة الاسلامية التي التحقت بحزب الحكرة الشعبية الدستورية، ومرجعية “الورقة المذهبية” المصادق عليها في مؤتمر 2004، ومرجعية أطروحة “النضال الديمقراطي” التي صادق عليها مؤتمر 2008 ، ومرجعية أطروحة “الشراكة من أجل البناء الديمقراطي” التي صادق عليها مؤتمر 2012، وتبرز كذلك مرجعية أخرى تتعلق بما عاشه الحزب في الفترة ما بين 2017 و2021، ومرجعية أخرى تتعلق نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021.

ويطرح تعدد مرجعيات التقييم، إشكالا منهجيا يحد من نجاعته، ولا يساعد على التركيز في التشخيص، وبالتالي كشف مكامن القوة ومكان الضعف بشكل دقيق.

لذلك يحاول هذا المقال، دمج هذه المرجعيات، وجعل التقاطعات فيما بينها مرجعية خلصت الممارسة بالاستناد إليه، إلى بروز نقاط قوة كبرى للحزب شكلت ما يمكن اعتباره عقيدة الحزب السياسية وهويته النضالية.

ظروف وسياق بروز وتشكل العقيدة السياسية والهوية النضالية لحزب العدالة والتنمية:

راكم حزب العدالة والتنمية، طيلة العقود الثلاثة الماضية، تجربة متميزة، وليس من المبالغة وصفها بالمتفردة، بالنظر إلى ظروف وسياقات إعادة إحيائه من طرف مكون من مكونات الحركة الاسلامية، كانت له اجتهادات سياسية متقدمة على اجتهادات باقي المكونات.

هذه الاجتهادات التي تصفها أدبيات الحركة بالمراجعات، كان لها الأثر الكبير في تنشيط حزب العدالة والتنمية، وخلق دينامية صاعدة في المشهد السياسي الوطني، بلغت أوجها بترؤس الحزب للحكومة لولايتين متتاليتين، وتدبيره للشأن العام المحلي في عدد كبير من الجماعات، سواء بالمجال الحضري أو القروي.

ولئن جرى التحول الكبير للحركة الاسلامية من السرية إلى العلنية، ومن الجماعة الهامشية إلى قلب المجتمع، تحت عنوان المراجعات، التي شملت إعادة تعريف الذات وتحديد هويتها، وبالتالي إعادة التعرف على المحيط الخارجي وعلى الفاعلين فيه، ثم الانطلاق نحو بناء علاقات قرب أحيانا، وتحالف أحيانا، وتطبيع أحيانا، وخصومة أحيانا أخرى، فإن التحولات اللاحقة في مسار الحزب، جرت هي الأخرى تحت عناوين ومفاهيم، أدى صقلها بالممارسة، إلى تشكل عقيدة سياسية للحزب وهوية نضالية، سمحت له بالتموقع السياسي الجيد، إلى أن بات القوة السياسية والانتخابية رقم واحد في المغرب، قبل أن تتوارى هذه العقيدة السياسية إلى الخلف لصالح اجتهادات وتقديرات، سِمتها التنازل بلا عائد، لتُتوّج بنتائج قاسية في انتخابات 8 شتنبر 2021.

معالم العقيدة السياسية والهوية النضالية لحزب العدالة والتنمية:

إنتاج سياسي ومفاهيمي أثرى التاريخ السياسي الحديث:

إن الحديث عن حزب العدالة والتنمية، هو حديث عن حزب أصيل ومتجذر في التاريخ السياسي الوطني، سواء باعتبار تاريخ تأسيسه، أو باعتبار تاريخ قومته الثانية، أو ولادته الثانية.

فإذا كان المغرب قد عرف إلى اليوم، 11 انتخابات تشريعية، فإن الحزب شارك في 7 منها، وتصدر المشهد في 4 منها على الأقل، والحقيقة أن الحزب تصدر المشهد السياسية منذ ولادته الثانية، فكان من بين القوى الانتخابية على الدوام.

وهذا التصدر لم يأت من فراغ، ولا من دعم لمركز نفوذ داخلي أو خارجي، وإنما كان السبب الرئيسي فيه كسبه السياسي، من خلال تبينه لخطاب نقدي قوي، أطرته مفاهيم ومقولات ضخها لأول مرة في التداول السياسي العمومي، وشكلت محط انتباه ومتابعة، من طرف الجميع.

ويُعتبر تأكيد الحزب على انطلاقه من المرجعية الاسلامية، أحد أهم معالم العقيدة السياسية للحزب، خاصة من خلال تدقيقاته في كون الانطلاق من المرجعية الاسلامية لا يعني أنه حزب ديني، أو أنه حزب يدافع عن الشريعة فقط، وإنما يقصد بها الانطلاق من القيم والمبادئ التي يدعو لها الاسلام، ويحاول إسقاطها على الحياة العامة، وجعلها مؤطرة للعلاقة بين الفاعلين في السلطة والمجتمع.

وواصل الحزب صقل عقيدته السياسية وهويته النضالية، من خلال الانتاج المكثف لمقولات سياسية سرعان ما كانت تتحول إلى قاطرة للخطاب السياسي للحزب، والموضوع الرئيسي للنقاش السياسي في البلاد، ومن هذه المقولات:

  1. التمييز بين الدعوي والسياسي (لحظة التأسيس والتمييز بين الحزب والحركة)
  2. الإصلاح من داخل المؤسسات (للابتعاد عن الصورة النمطية التي ألصقت بالحركات الاسلامية وبعض الاحزاب الجذرية)
  3. المساندة النقدية (تحديد التموقع داخل البرلمان إسنادا لتجربة التناوب مع الاحتياط في المشاركة في تحمل مسؤولية إخفاقاتها)
  4. المعارضة الناصحة (لحظة التحلل من المساندة النقدية والعودة إلى ممارسة المعارضة بما تتطلبه من خصوصية)
  5. الاستئصال (لتوصيف عنف الهجمة التي تعرض لها بعد أحداث 16 ماي 2003)
  6. التحكم (لتوصيف حالة الانسداد السياسي التي عرفها المغرب عقب تأسيس الاصالة والمعاصرة)
  7. النضال الديمقراطي مدخلنا للإصلاح (عنون أطروحة مواجهة التحكم، تستبطن هذه المقولة جواب الحزب على الانسداد السياسي وهو الديمقراطية ولكن هذه الجواب يتطلب النضال)
  8. الإصلاح في ظل الاستقرار (المقولة التي أطرت مشاركة الحزب في الحراك المغربي ضمن موجة ما سمي الربيع العربي)
  9. صوتنا فرصتنا لمواجهة الفساد والاستبداد (مقولة أطرت انتخابات 25 نونبر 2011 وساهمت في إعطاء طابع سياسي لهذه الانتخابات)
  10. الشراكة من أجل البناء الديمقراطي ( استمرار عنونة الحزب لمعركته بالديمقراطية، وبعث رسائل التنسيق والتحالف والشراكة مع كافة الفاعلين المعنيين بهذا العنوان)
  11. التنزيل الديمقراطي للدستور (الحزب هو أول من استعمل هذه العبارة التي شكلت موضوع نقاش سياسي ودراسات أكاديمية)
    إلى جانب مقولات أخرى، تميزت بالعمق السياسي والأفق الديمقراطي، وهو ما سهل التطبيع مع الحزب في الحياة السياسية، وفتح أمامه مساحات ومجالات التحالف على أرضية الديمقراطية، أو على أرضية كبح الاستبداد والتحكم والنزوع نحو الحزب الواحد، أو أرضية تنزيل الدستور بتأويل ديمقراطي.
    وخلال هذه المراحل، استمرت قضايا الهوية، حاضرة في خطاب الحزب، رغم تسجيل تراجع هذا الحضور في لحظة الانتقال إلى رئاسة الحكومة بعد 2011، خاصة مع تضمين الدستور مقتضيات شكلت إجابات على الكثير من الاشكالات الهوياتية، وجرت محاولة الانتقال ببعض هذه الاشكالات والقضايا من الخطاب ومن الدستور إلى السياسات العمومية، ومعركة دفاتر تحملات الإعلام العمومي شاهة على هذه المحاولة.
    كما يمكن القول أن الحزب وإن ترأس الحكومة بعد انتخابات 25 نونبر 2011، فإن خطابه السياسي ظل وفيا لهذه العقيدة السياسية والهوية النضالية، التي تشكل مصدر ازعاج حقيقي بالنسبة لخصومه، فكان تعبيرهم عن هذا الازعاج فجا من خلال مطالبته بالكف عن تبني خطاب المعارضة وهو يرأس الحكومة، ووصفه بكونه يمارس السلطة خلال أيام الأسبوع، ويمارس المعارضة خلال أيام نهاية الاسبوع.
    وفي الحقيقة أن الحزب كان يعبر باصراره على هذا الخطاب، عن استقلاليته، ويعبر أنه يمارس السياسة بمنطق مختلف لا يخضع للتصنيفات التقليدية الميكانيكية، التي تعتبر أن الانتماء للحكومة والاغلبية، يعني تغيير الخطاب وتغيير “الجلد السياسي” والخضوع للتعليمات وكفى.
    وهذا التمرد -إذا جاز التعبير- عن هذا التصنيف الميكانيكي، جعل نخبا كثيرة تقتنع بخطاب الحزب، وجعل فئات شعبية كثيرة تعود إلى التصالح مع السياسة، بعد أن دكت حوافر الفساد والاستبداد مقومات المقاومة والصمود لديها، ورأت في الحزب الجرأة على المنطق السائد في الحياة السياسية، والقدرة على تحقيق مكاسب ولو قليلة لفائدتهم.
    وهذا ما يفسر التقدم الانتخابي الكبير الذي عرفه الحزب خلال انتخابات 2015 الجماعية و2016 التشريعية، وليس الانجازات التي تحققت على أهميتها، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي.
    إن انتخابات 2015 و2016، نسفت كل الادعاءات التي وُوجه بها الحزب، وداست على كل الاتهامات التي رمي بها، ومنها اتخاذ الحكومة الأولى التي ترأسها لقرارات لا شعبية، أو قرارات أضرت بالطبقة المتوسطة، ومختلف الاتهامات التي حاول الخصوم من خلالها تفجير تناقضات أمام الحزب في علاقته بالملكية أو في علاقته بالأحزاب والفاعلين السياسيين، أو في علاقته مع عموم المواطنين، وكل ذلك ما كان ليتأتى لولا صمود الحزب في خطابه السياسي المبني على العقيدة السياسية والهوية النضالية المذكورتان.
    ما بعد انتخابات 2016: بداية الارتباك والهروب من مواجهة الحقيقة:
    إن ما عرفه الحزب طيلة الفترة من أبريل 2017 إلى انتخابات 8 شتبر 2021، من مظاهر الارتباك والانحسار السياسي والتنظيمي، يجد سببه الرئيس في مواصلة الهروب من الاجابة على أسئلة ما ذا حدث في فترة ما سمي بالبلوكاج، الذي انتهى بإعفاء الأمين العام للحزب حينها الأستاذ عبد الاله بنكيران من رئاسة الحكومة، وتولي الدكتور سعد الدين العثماني رئاسة الحكومة من بعده.
    حيث إن الحزب وإن حاول تجاوز هذا الحدث السياسي المؤلم، إلا أن أثره استمر في المجتمع، وشوش على علاقة المواطنين مع الحزب، وأثر سلبا على ثقتهم به، بل يمكن القول أن الحزب بما اتخذه من قرارات في هذه الفترة، تحلل من مقولة “الشعب هو الأصل” الواردة في أطروحة النضال الديمقراطي.
    وفي التقدير أن الشعب كان يرصد ويترقب، كيف سيتعامل الحزب مع مستجد إعفاء الأستاذ بنكيران، وكيف ستكون حكومة الدكتور العثماني، في علاقتها بالشعارات التي أطرت خطاب الحزب في انتخابات 2016، وفي فترة البلوكاج، والذي استند إلى عقيدته السياسية وهويته النضالية، فكان جواب الحزب هو أن تراجع عن هذه الشعارات، ودخل برجليه إلى “متاهة سياسية” خرج منها بالنتائج التي أعلنت لفائدته في انتخابات شتنبر 2021.
    لقد كانت فترة رئاسة الحزب للحكومة بعد البلوكاج، فترة تراجع الحزب عن عقيدته السياسية وهويته النضالية، التي حقق بها ما حققه من انتصارات وانتشار وتوسع، وحلت محلها أطروحة جديدة وخطاب جديد، كان بلا لون ولا طعم ولا روح، جعل مناضلي الحزب يشعرون بالغربة داخل حزبهم، وجعل المواطنين يتساءلون أين الحزب الذي صوتوا عليه خلال انتخابات أكتوبر 2016؟
    وإن كان متفهما أن ضربة الإعفاء كانت صادمة وقوية، وأنها ستربك الحزب في اللحظات الأولى، إلا أنه لم يكن مفهوما أن يحاول الحزب تغيير خطابه، بتغييب واضح للمضمون السياسيي، لصالح خطاب لم يألفه الحزب، يتعلق بالانخراط الكامل في مفردات التدبير واكراهاته، وتبني شعار “الانصات والانجاز”، والصمت على التجاوزات في حق الحزب، سواء من طرف السلطة أو من طرف بعض الأطراف الحزبية، ومنها أطراف مشاركة معه في الحكومة.
    إن نقاط قوة الحزب التي راكمها، لم تكن فقط في نظافة يد وزرائه وعموم منتخبيه، ولا في جديتهم في القيام بأدوارهم الانتدابية ومسؤولياتهم الانتخابية، وإنما كانت مرتبطة بنوع الخطاب السياسي الذي تبناه وصمد عليه، وأطر الجماهير بمفرداته ومقولاته، وإن نقط الضعف الحقيقية كانت هي تخليه عن عقيدته السياسية وهويته النضالية، وغياب الحس النقدي الذي عُرف به في الخطاب، ما أدى إلى عجز جماعي، خاصة على مستوى القيادة في التفاعل مع مستجدات الحياة السياسية، ومحاولة إخفاء هذا العجز بخطاب يبرر كل ما يُتخذ من قرارات باسم الحكومة، وخطاب يتجه إلى الذات الحزبية، محملا المسؤولية للمناضلين، وتشكيكهم في توافق طريقة تعبيرهم عن آرائهم المختلفة مع القيادة، مع مرجعية ومنهج وقيم الحزب، وهو ما نتج عنه فتور وترهل تنظيمي ملحوظ، وانسحاب صامت، استغله خصوم الحزب شر استغلال عبر الحملات الاعلامية المخدومة، التي سهلت شيطنة الحزب لدى مناضليه، ولدى عموم المواطنين.

من الانقاذ إلى استعادة المبادرة:

إن المجال ما يزال مفتوحا أمام الحزب للعودة إلى عقيدته السياسية، واستئناف القيام بواجباته الاصلاحية، خاصة مع ضعف وتهافت النخب التي تم تمكينها من المؤسسات المنتخبة بعد 8 شتنبر 2021، شريطة الاعتراف بكونه أخطأ الطريق عندما، تخلى عن هذه العقيدة السياسية، وما نتج عن هذا التخلي من أخطاء سياسية كبيرة، في قضايا شتى منها اللغة العربية وتقنين القنب الهندي وقضايا الحقوق والحريات وغيرها، ومحاولة تبرير التطبيع، والاعتذار الشجاع عنها بصريح العبارة للشعب، ثم الانطلاق نحو افاق جديدة، يراجع ويدقق من خلالها الحزب رؤيته للدولة ولوظائفها، ولمكانة مؤسساتها وأدوارها، ويبحث في منظومات الحكم، ويحدد الموقع المتاح له ضمنها، تواجدا أو تحالفا أو تنسيقا.

وقد شكلت المرحلة التي تلت المؤتمر الاستثنائي المنعقد في أكتوبر 2021، فترة ضرورية على مسار استعادة المبادرة، والتي يمكن أن نسميها فترة الانقاذ، و كان من استحقاقاتها لملمة الصف الداخلي بعد هزة انتخابات 8 شتنبر 2021، وإعادة الثقة لأعضاء الحزب في حزبهم، وفي العمل السياسي المؤسساتي، وبت خطاب المبادئ من جديد وإعادة إحياء رهانات التأسيس من جديد.

ويمكن القول أن الحزب نجح في مهمة الانقاذ، وهو ما ترجمه عقده لمؤتمراته الجهوية والاقليمية جميعها، ثم مؤتمرات هيأته الموازية، وعقد اجتماعات هيأته الوطنية والمجالية بوتيرة راتبة.

ويبقى أمام الحزب، أن ينجح في مهمة الاستئناف، وتقتضي أن يعود إلى لعب دور طلائعي في النقاش السياسي، وخوض معارضة قوية لكل الاختلالات والانحرافات التي تعج بها الحياة السياسية، وهو ما بدأه بالفعل وبشكل مكثف، منذ أبريل 2024، على أن يكرسه بانتاج مفاهيمي يؤطر النقاش العمومي، كما كانت عادته.

على أن الانتقال إلى مهمة استعادة المبادرة من جديد، تتطلب ترسيم النجاح في مهمة الاستئناف، وعدم التشويش عليها باختيارات سياسية وتنظيمية، قد تبدد النجاح المهمتين السابقتين، وتهدم التراكم الذي تحقق منذ مؤتمر أكتوبر 2021.

*حسن حمورو