story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ضمانات نجاح الحكم الذاتي في الصحراء

ص ص

أولا : في السياق
بين خطاب جلالة الملك الموجه إلى الأمة، بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان (أكتوبر 2024)، وما سبقه من رفض محكمة العدل الأوروبية للطعن الذي تقدمت به المفوضية الأوروبية ومجلس أوروبا بخصوص اتفاقية التجارة والصيد البحري بين المغرب وأوروبا، مرورا بالحوار الذي أجرته أسبوعية الأيام في عددها 1107 للفترة الممتدة بين 05 و11 دجنبر 2024، وما تلاه من صمت للقبور إزاء ما جاء به الحوار من وقائع وأحداث، وكشفه لأول مرة عن معطيات ووقائع مرتبطة بمشروع مبادرة الحكم الذاتي، مرورا بالحوار \البودكاست الذي أجرته قناة عربي 21 مع عزيز غالي، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وما أعقب هذا الحوار من انفجار لنقاش سطحي وواسع، كشف مرة أخرى عن جهلنا الجماعي، وإن بتفاوت، بعمق وخلفيات نزاع الصحراء، مع ما يترتب عن هذا الجهل، من اصطفاف غير معقلن، بل إن هذا الجهل المركب، حال ويحول في مناسبات كثيرة من امتلاك رؤية متكاملة ومنسجمة للترافع في الموضوع بكل عقلانية ووضوح بعيدا عن منطق التخوين والتضييق الشعبوي على الرأي المخالف.

ثانيا: احترازات لا بد منها

  1. في الحاجة إلى تملك ملف الصحراء
    خلال العقد الأخير من القرن الماضي، كان الصف الوطني وهو يناضل من أجل دمقرطة الدولة والمجتمع، يشكو باستمرار من احتكار الدولة، في شخص وزارة الداخلية لملف الصحراء. ومع التحولات التي عرفها المغرب نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة، وما ترتب عنها من إقرار للأمم المتحدة، عبر تقاريرها الرسمية، بفشل مخطط التسوية كإطار لإجراء الاستفتاء، وبداية الحديث عن إمكانية استكشاف طريق ثالث، سواء، عبر الاتفاق الإطاري، أو من خلال “خطة سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، وما تلا هذه التطورات من تقديم المغرب لمشروع مبادرة لتخويل الصحراء حكما ذاتيا…
    خلال هذا التحول، كان يفترض، أن يعرف ملف الصحراء، باعتباره قضية وجود، تغييرا على مستوى المقاربة، بما في ذلك فتح إمكانية تملك المغاربة، من جميع المستويات والمواقع للملف بكل معطياته وتحدياته، لكن، المؤسف، أن التحول العميق الذي عرفه الملف من حيث الإطار القانوني المرجعي، لم تواكبه دينامية مجددة لإنتاج المبادرات والأفكار وتجديد الخطاب المتصل بموضوع النزاع.
  2. الحاجة إلى حماية الرأي المخالف
    إن تصريح عزيز غالي، الذي جاء في سياق نقاش عام حول قضايا مختلفة، تستأثر باهتمام الرأي العام، وبصرف النظر عن مساحة الاختلاف بشأن هذه التصريح، لا ينبغي أن تختلق الذرائع وتشرعن دعوات البعض لمحاكمته بدعوة المساس بإجماع الأمة، وذلك لاعتبارات عدة من أهمها:
    • أن عزيز غالي، سواء باعتباره رئيسا للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أو باعتباره الشخصي، له كل الحق في التعبير عن أفكاره ومعتقداته طبقا للالتزامات المملكة ونص الدستور، باعتباره التعاقد الأسمى بين المغاربة.
    • إن المساحة المكفولة بقوة القانون، سواء لعزيز غالي أو غيره، للتعبير عن مواقف وآراء مختلفة، هي ما يوفر مزيدا من الضمانات والمشروعية الفعلية، لتعزيز مشروعية وجاذبية مبادرة الحكم الذاتي، كمدخل للحل سواء لدى الرأي العام الدولي أو لدى طيف من المواطنين الصحراويين الذين لا زالوا مرتبطين بشكل أو أخر بأطروحة جبهة البوليساريو…
    إن مبادرة الحكم الذاتي المستندة إلى المعايير الدولية، لم ولن تتملك شرعيتها ومشروعيتها إلا في إطار القطع مع الماضي وبناء دولة الحق والقانون وتعزيز الديموقراطية، باعتبارها الفضاء الأوحد لبعث رسائل الاطمئنان، سواء للمنتظم الدولي أو للإخوة المرتبطين بجبهة البوليساريو.
    إن الممارسة الدولية، التي ارتبطت بخيار تقرير المصير بمعناه الداخلي، أكدت وتؤكد أن ضمانات نجاح، تقرير المصير بمعناه الداخلي، تتوقف في المقام الأول على مدى نضج مستويات التحول الديموقراطي وتعزيز حكم القانون وحماية حقوق الإنسان الفردية والجماعية، بما في ذلك حقوق ومصالح المجموعات المختلفة، والملاحظ أن منظومة حقوق الإنسان ليست ضامنة فحسب لمشروعية تقرير المصير بمعناه الداخلي، بل إنها في نفس الوقت تشكل الإطار القيمي المرجعي الذي يحول في المستقبل دون تحول بنية تقرير المصير بمعناه الداخلي إلى استقلال أو انفصال.
  3. الحاجة إلى تعزيز الحوار الوطني بشأن نزاع الصحراء
    إن الوقائع والأحداث السالفة، كشفت وتكشف عن حاجتنا الجماعية لفتح نقاش وطني، مسؤول وهادئ حول كل قضايانا المصيرية، إذ لا يمكن أن نواجه عسر القضايا الكبرى بغرس رؤوسنا في الرمال. وأعتقد أن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، وما تضمنه من روح ودعوة صريحة للتعبئة واليقظة، لا يمكن اختزال تجاوبنا معه في بضعة موائد ولقاءات عابرة، هنا وهناك، بقدر ما نحتاج لتسخير ذكاءنا الجماعي لبناء رؤية متكاملة ومنسجمة بين الحق التاريخي والقانوني، دون أن نتأخر ولو للحظة، على خوض معركة شرسة من أجل صيانة وحماية حقوق الأفراد والجماعات وتعزيز البناء الديموقراطي وبناء دولة الحق والقانون، بما في ذلك توفير كل الضمانات القانونية لحماية الرأي المخالف.
  4. في القول بأن الجمعية تتبنى موقف الأمم المتحدة
    لاشك أن مقاصد وميثاق الأمم المتحدة، يشكل إلى جانب العهود والاتفاقيات الدولية منظومة القانون الدولي، التي توافقت بشأنها البشرية كمدخل لتجاوز ويلات الحروب المدمرة التي شهدها العالم في القرن 20، إلا أن التسليم بكونية وأهمية منظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وما ترتب عنها من تقليص أحيانا لسيادة الدول مقابل ضمانات المشترك الإنساني في السلم والأمن الدوليين، لا يمكن أن ينفي من تفكيرنا الجماعي أيضا، أن هذه المنظومة المتصلة بالقانون الدولي هي في النهاية إرث إنساني مشترك، تأسس في سياق تنافس محموم بين المعسكر الشرقي والغربي، ورغم كل محاولات التوفيق الهادفة إلى تصميم وهندسة اتفاقات جامعة وموحدة، فإن الجميع كان ولا يزال يشتكي من ازدواجية المعايير خاصة بمناسبة إعمال منظومة القانون الدولي، ولنا أمثلة راهنة صريحة مما جرى ويجري في فلسطين ولبنان.
    والمؤكد أن ازدواجية المعايير في إعمال القانون الدولي، قد باتت خلال هذه الألفية مثار سؤال عريض لدى الرأي العام الدولي المطالب بضرورة إصلاح منظومة الأمم المتحدة.

أ‌. الأمم المتحدة وازدواجية المعايير إزاء النزاع الإقليمي في الصحراء
لابد من التذكير، بأن المغرب هو من وضع مطلب تقرير مصير إقليم إفني والصحراء، مباشرة بعد استقلاله الوطني، وفي تجاوب مع مطلب المغرب أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا تحت رقم 2072 (XX) بتاريخ 16 دجنبر 1965، طالبت فيه بضرورة “إسراع الحكومة الاسبانية، باعتبارها السلطة صاحبة الإدارة باتخاذ كافة التدابير الضرورية فورا، من أجل تحرير منطقتي إفني والصحراء من الهيمنة الاستعمارية، وأن تدخل في مفاوضات بشأن مشكل السيادة المتعلقة بهاتين المنطقتين”.
وفي وقت لاحق راسلت مدريد الجمعية العامة، معلنة أنها دخلت في مفاوضات مع المغرب من أجل تنفيذ التزاماتها وفق التوصية الواردة في القرار 2072، الصادر عن الجمعية العامة.
وبما أن الشرعية الدولية، لم تكن مفصولة عن مستويات وحدة التقاطب الدولي، فإن مدريد، ستسعى إلى عزل ملف إفني عن الصحراء في سعي منها لشرعنة وجودها بالساقية الحمراء ووادي الذهب.
باتساق مع موقف مدريد، سعت الجزائر، التي كانت في هذه الحقبة مدعومة بعائدات النفط والغاز وتصاعد وضعها الاعتباري داخل مجموعة عدم الانحياز والمعسكر الشرقي، إلى التأثير على التوصيات اللاحقة الصادرة عن الجمعية العمومية بشأن نزاع الصحراء، وذلك من خلال إقحامها لعبارة “أو أي طرف مهتم”، وبالتالي أصبحت التوصيات المضمنة في قرارات الجمعية العامة، الداعية إلى تقرير مصير إقليم الصحراء الغربية، تدعو إلى إطلاق مفاوضات مع المغرب وأي طرف مهتم، وهذا ما حصل في القرارات : 2299 (XXI)، 2345 (XXI)، 2428 (XXIV)، 2591 (XXIV)، 2983 (XXIVII).
وبعد توقيع اتفاق مدريد الثلاثي، لم تتردد الجزائر في مراسلة الأمم المتحدة معتبرة أن “معاهدة مدريد تشكل خرقا متعمدا للتوصيات الصادرة عن مجلس الأمن، وأن حكومة الجزائر، تنكر أن تكون لتصريح مدريد أي صلاحية وتعتبره باطلا”.
بفعل الموقف الجزائري من جهة، واستمرار الغموض في موقف فرنسا والولايات المتحدة اللتين اختارتا تحويل النزاع في الغرب الإسلامي إلى ورقة لممارسة مزيد من الاستنزاف المزدوج إزاء الرباط والجزائر، هذا الاستنزاف المتحكم فيه كان يستهدف من جهة مواجهة مد المعسكر الشرقي وفصل الغرب الإسلامي عن الشرق الأوسط، خاصة بعد حرب أكتوبر، دون التفريط طبعا في مصالح القوتين سواء بالمغرب أو الجزائر…
في هذا السياق أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة توصيتين متناقضتين في موضوع النزاع بالصحراء، بتاريخ 20 دجنبر 1975، التوصية الأولى 3458 (XXXA) جاء في فقرتها الثانية:
“أن الجمعية العامة تؤكد تمسكها بمبدأ تقرير المصير، واهتمامها بأن ترى هذا المبدأ مطبقا في حق سكان الصحراء الاسبانية بوسائل تضمن وتسمح لهم بالتعبير عن إرادتهم بحرية طبقا لتوصيات الأمم المتحدة”.
وفي نفس اليوم، صدرت التوصية الثانية 3458(XXXB) ، والتي وافقت على اتفاقية مدريد وأوصت باستشارة السكان ونصت الفقرة الأولى منها، على أن الجمعية العامة للأمم المتحدة “أخذت بعين الاعتبار معاهدة مدريد المبرمة في 14 نونبر 1975 بين حكومة موريتانيا والمغرب وإسبانيا”.
وطلبت الجمعية العامة في الفقرة الرابعة من الإدارة المؤقتة “اتخاذ كافة الخطوات الضرورية لضمان حق سكان الصحراء المنحدرين من الإقليم في ممارسة تقرير المصير، من خلال استشارات حرة، بمساعدة ممثل عن الأمم المتحدة يعينه الأمين العام” الصفحة 64، الأوجه القانونية الدولية للصحراء المغربية للأستاذ عبد الفضيل كنيديل.
تناقض التوصيتين السالفتين، لم يمنع الرباط من التأكيد على أن استرجاعها لإقليم الصحراء يتفق بشكل كلي مع القانون الدولي، إذ أنه وبعد أن دعا مجلس الأمن، في قراره 380 )1975( الأطراف المعنية والمهتمة بالأمر إلى إجراء مفاوضات في إطار المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، أبرم المغرب بتاريخ 14 نونبر 1975 مع موريتانيا وإسبانيا اتفاق مدريد المسجل لدى الأمم المتحدة بتاريخ 09 دجنبر 1975 تحت رقم 14450 والذي أنهت إسبانيا، بموجبه مسؤولياتها وسلطاتها على ذلك الإقليم، بوصفها السلطة القائمة بالإدارة.
وتنص صيغة اتفاق مدريد على أن الاتفاق أبرم وفق المفاوضات التي دعت إليها الأمم المتحدة عبر الجمعية العامة، وأنشأ الاتفاق إدارة مؤقتة لتدبير الإقليم، وأكد في الوقت ذاته أن رأي سكان الصحراء عن طريق الجماعة الصحراوية سيكون موضع احترام.
بعد ذلك، أحيطت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 دجنبر 1975، علما باتفاق مدريد، وطلبت تنظيم استشارة استفتائية للسكان من خلال التوصية الواردة بالقرار 3458 )ي 30.د(، وبتاريخ 18 نونبر اجتمع البرلمان الاسباني في جلسة خاصة بالصحراء ووافق بالأغلبية 345 صوت وامتناع 4 أصوات وتصويت 4 نواب ضد الاتفاق الثلاثي.
ونظمت الاستشارة الخاصة بالجماعة الصحراوية، باعتبارها إطارا تمثيليا للساكنة بتاريخ 26 فبراير 1976، في إطار أحكام اتفاق مدريد الذي أقرته أيضا الجماعة الصحراوية، للتذكير فإن الأمم المتحدة لم تبعث من يمثلها في الإشراف على الاستشارة الاستفتائية التي نظمتها الجماعة الصحراوية بتاريخ 26 فبراير 1976، علما أن توصية الجمعية العامة كانت تفترض حضور ممثل عن الأمين العام لهذه الاستشارة.
ورغم كل هذه الخطوات، التي تم نهجها في تفاعل مع القانون الدولي ومقاصد وميثاق الأمم المتحدة، فإن ملف النزاع بشأن الصحراء سيدخل شوطا آخر من التصعيد جراء دخول الجزائر في مواجهة عسكرية فعلية مع المغرب، خاصة أثناء حرب أمكالة الأولى والثانية، )والتي تم خلالها أسر ما يزيد عن 100 ضابط جزائري، تم تسليمهم لاحقا بوساطة مصرية(، علما أن الجزائر و إسبانيا لم يعترفا، بشكل رسمي بجبهة البوليساريو إلا خلال اتفاقية المحبس التي وقعت 22 أكتوبر 1975 ببلدة المحبس، بحضور سالازار، الحاكم العسكري الاسباني، والوالي مصطفى السيد، عن جبهة البوليساريو، والقيادة العسكرية الجزائرية بالجنوب ممثلة في النقيب عبد العالي جمال والنقيب أحمد العياشي.

ب‌. في تقرير المصير
مؤكد أن “مبدأ تقرير المصير” ارتبط بإعلان أو تصريح منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، الذي اعتمدته الجمعية العامة بموجب قرار 1514)د15( وما تلاه من تراكم في ممارسات القانون الدولي عبر عمل الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن الإقرار بهذا المنحى الليبرالي لتطور منظومة القانون الدولي، لا ينبغي أن يلغي أو يغيب لدى المهتمين من الصف الديموقراطي والاشتراكي، أن “مبدأ تقرير المصير” كان ولازال يحتفظ بأفهام وتأويلات هامة في التراث اليساري.

ثالثا: تطور مفهوم “تقرير المصير”

  1. تطور “تقرير المصير” في الأدبيات المرتبطة بحركة اليسار
    لا يتسع المجال لمقاربات مستفيضة في هذا السياق، ومع ذلك يمكن الوقوف عند المواقف والاتجاهات الكبرى التي قاربت أطروحة تقرير المصير، والتي من أبرزها:
    ‌أ. الموقف الذي قادته روزا ليكسمبرغ، وتمحور حول رفض المشاركة في الحرب، من منطلق أن الصراع الوحيد لتحقيق تقرير المصير، يرتبط بالنضال ضد البرجوازية وانتزاع السلطة والملكية من يدها.
    ‌ب. الموقف الذي أسس له لينين، وتمحور حول فكرة مفادها أن النضال لضمان حقوق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها، يمر عبر تحويل الحرب الإمبريالية إلى ثورة شاملة ضد الرأسمالية، وذلك من خلال تبنيه لتقرير مصير الشعوب، رفعا لكل توجس قومي وأملا في توحيد القوى العمالية لمختلف الأمم والشعوب، وتوجيه بوصلة الصراع ضد الرأسمالية.
    تباين المواقف بشأن مبدأ تقرير المصير، بين اتجاهات فكرية مختلفة سيتعمق بمناسبة قيام الاشتراكية في بلد متعدد القوميات، وهكذا سنجد أنفسنا أمام مواقف واتجاهات مختلفة، فهناك من لم يجد، معنى ل”مبدأ حق تقرير المصير”، في المجتمع الاشتراكي، طالما أن الهدف الأسمى للاشتراكية، هو القضاء على كل أشكال القهر القومي انطلاقا من قضائها على الاستغلال الطبقي.
    بينما ذهب اتجاه أخر إلى القول ” أن إلزام أمة ما على العيش داخل حدود أمة أخرى، يعد شكلا من أشكال الخيانة لمبادئ الاشتراكية، فيما ذهب رأي ثالث إلى القول، إن المجتمع الاشتراكي، وإن كان غير قادر على أن يحتوي كل الأمم بداخله عن طريق القوة، فإنه سرعان ما يخلق الشروط الضرورية لإلغاء القهر القومي وبناء مجتمع انتقالي نحو ملكوت الحرية الجماعية”.
    وفي هذا السياق، يبرز موقف روزا ليكسمبورغ، التي تدعي فيه أن دعم حق كل أمة في الانفصال يعني في الواقع دعم بورجوازيتها، فيما يؤسس لينين لموقف جدلي ومترابط بين الأممية والديموقراطية وحق تقرير المصير، وذلك بزعمه أن حق تقرير المصير يشكل مدخلا للتعاون والوحدة الطوعية في أفق الاندماج بين الأمم.
    موقف لينين هذا، التركيبي بين الأممية والديمقراطية وحق تقرير المصير، سعى من خلاله أيضا، إلى مواجهة حالة الريبة والعداء بين العمال من خلفيات إثنية وأممية مختلفة، وبالتالي تيسير خيار التحالف بين الشعوب المستعبدة وتحويلها إلى حليف رئيسي جديد للبروليتارية.
    إن الموقف من “تقرير المصير” في الفكر الماركسي والاشتراكي عموما، لم يكن موقفا ثابتا بقدر ما كان خاضعا للتحليل الملموس والتمييز الدقيق بين طبيعة التناقضات المجتمعية، الثانوي منها والمركزي، التي من شأنها أن تعمل لصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة.
    في هذا السياق، يمكن العودة إلى موقف ماركس من المسألة الإيرلندية، ففي 1848، كان ماركس يرى أن قضية استقلال إيرلندا، على هامش الصراع الطبقي في انجلترا، وكان يلوم القوميين الإيرلنديين، لأنهم لم يتمكنوا من ربط أنفسهم بالحركة العمالية الثورية في إنجلترا. ومع تراجع هذه الحركة العمالية الثورية في انجلترا، وما تلاه من تحالف بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة الانجليزية ضد الإيرالنديين، قدر ماركس أن العقبة الأساسية أمام تحرير العمال الانجليز، أصبحت في وقوفهم في نفس الصف مع الطبقة الحاكمة، في مواجهة الاستقلال الإيرلندي، وبالتالي غير رأيه وأقر بأن المسالة الإيرلندية، يجب أن تكون في مقدمة أولويات الثوريين، لأنها تشكل مدخلا مركزيا لتجاوز عقم وتراجع الطبقة العاملة الإنجليزية.
    والملاحظ أن موقف ماركس من المسألة الإيرلندية، ارتبط في الأصل بتقدير ماركس أن انجلترا أصبحت في مقدمة الدول التي بلغ التناقض فيها أوجه بين البروليتاريا والبرجوازية، وبانتصار البروليتاريا الانجليزية على بورجوازيتها سيتحقق انتصار سائر المضطهدين على مضطهديهم.
    وفي المسألة البولندية، كانت روزا ليكسمبورغ ضد النزعة القومية البولندية، فيما رأى لينين أن أفضل طريق لتقويض الحركة القومية البولندية، هي أن تعلن الطبقة العاملة الروسية )الطبقة العاملة في الدولة المضطهدة(، أنها ليست لديها مصلحة في استمرار القمع القومي القيصري الروسي، وذلك بهدف رفع الريبة وتوحيد الطبقة العاملة في كل من روسيا القيصرية وبولونيا.
    والملاحظ أن المنهج الماركسي، وهو يتصدى لمعالجة المسألة القومية، كان حريصا على توحيد نضالات الطبقة العاملة، من أجل الإطاحة بالرأسمالية وإلغاء الحدود، وبالتالي لم يتردد في الدفاع عن الحق الديموقراطي للأمم في تقرير مصيرها.
    التذكير اليوم، باختلاف مواقف واتجاهات الفكر اليساري من تقرير المصير، ليس دعوة طوباوية مفصولة عن الواقع، كما أنه لا يبرر التملص من كون “تقرير المصير”، وبالصرف النظر عن اختلاف التوجهات الفكرية بشأنه، فإن تطوره الحاسم، في منظومة القانون الدولي، ارتبط بتطور المبدأ في سياقه اللبيرالي، ومع التسليم بفعلية هذا الاتجاه، فإن الممارسة الدولية المرتبطة بالقانون الدولي تؤكد، من جهة على ضرورة التعاطي مع منظومة القانون الدولي باعتبارها منظومة نسقية، يعزز بعضها البعض الآخر، ومن جهة ثانية فإن أهداف وميثاق الأمم المتحدة، تشدد على أهمية السلم والأمن الدوليين، كخلفية موجهة لفهم وإعمال مقتضيات القانون الدولي، وغير خاف أن هذه الخلفية الموجهة، كانت ولازالت تتطلب من الفاعلين أيا كانت مواقعهم، ومن حركة اليسار في المقام الأول، إعادة تأطير قراءة “مبدأ تقرير المصير” وفق متطلبات ومبادئ بناء السلم والأمن الدوليين، علما أن استحضار هذه القاعدة، لا يمكن إلا أن يقود نحو ترجيح أهمية تقرير المصير بمعناه الداخلي، باعتباره مدخلا وأفقا لبناء السلم المغاربي، فضلا عما يوفره من فرص متجددة لشعوب الساحل والصحراء، للتذكير فإن هذه الخلفية المستندة على مبادئ السلم والأمن الدوليين، هي ما تؤطر الاعتبارات والحيثيات الموجهة لمختلف القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص نزاع الصحراء.
  2. تطور تقرير المصير في المرجعية الليبرالية
    قبل الحرب العالمية الأولى، كان القانون الدولي الأوروبي وفق مضمونه الكلاسيكي، يبيح للدول الغربية الاستيلاء بالقوة على أراضي الغير.
    1.2 تقرير المصير في مبادئ ويلسون
    بعد الحرب العالمية الأولى، سيتقدم الرئيس الأمريكي وودورو ويلسون بما سمي “مبادئ السلام من أجل إنهاء الحرب العالمية الأولى”، في خطاب له بتاريخ 08 يناير 1918، علما أن هذا الخطاب جاء ردا على منشور فلاديمير لينين بشأن السلام الصادر في 1917 بعد نجاح الثورة البولشوفية، في القضاء على الامبراطورية القيصرية.
    تضمنت مبادئ ويلسون 14 مبدأ لعل أهمها:
    • …
    • “9. إعادة النظر في حدود إيطاليا، بحيث تضم جميع الجنس الإيطالي.
    • 10. منح القوميات الخاضعة للإمبراطورية النمساوية حق تقرير مصيرها.
    • 11. الجلاء عن صربيا ورومانيا والجبل الأسود، وإعطاء صربيا منفذا إلى البحر، وإقامة علاقات جديدة بين دول البلقان كافة، مبنية على أسس قومية تاريخية، وضمان حريتها الاقتصادية والسياسية.
    • 12. ضمان سيادة الأجزاء التركية، وإعطاء الشعوب الأخرى غير التركية، التي تخضع لها حق تقرير المصير.
    • 13. بعث الدولة البولندية، بحيث تضم جميع العنصر البولندي، وإعطائها منفذا إلى البحر”.

من خلال هذه المبادئ المتضمنة في خطاب الرئيس الأمريكي ويلسون، نسجل ما يلي:
• مبدأ تقرير المصير، الذي جاء ضمن مقترح ويلسون، طبق فقط على الدول المهزومة خلال الحرب العالمية الأولى، خاصة ألمانيا، والنمسا، وهنغاريا، وتركيا، وذلك من خلال :
* إلحاق جنوب تيرول بإيطاليا.
* اقتطاع أراضي ألمانيا لصالح بولندا.
* اقتطاع أراضي هنغاريا لصالح تشيكو سلوفاكيا ورومانيا.
وبالتالي فإن ” مبدأ تقرير المصير” تحول إلى مجرد أداة لخدمة مصالح دول الحلفاء.

2.2 تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة
ارتبط الإقرار ب”الحق في تقرير المصير” في ميثاق الأمم المتحدة بسياقين مختلفين، حيث ورد في المادة الأولى من الفصل الأول، مرتبطا ب “حفظ السلام والأمن الدولي ومنع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها، وحل المنازعات الدولية سلميا وإنماء العلاقات الودية بين الأمم”.
أما في المادة 55 من الفصل التاسع، فقد ارتبط تقرير مصير الشعوب ب”تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”.
ورغم تنصيص ميثاق الأمم المتحدة على “مبدأ تقرير المصير” في ميثاقها، فإن الدول الغربية، ظلت تنظر إليه باعتباره، مبدأ سياسيا، وليس حقا قانونيا دوليا.
وفي سياق التطورات اللاحقة التي ستعرفها منظومة القانون الدولي، انطلاقا من الممارسات التي أرستها الجمعية العامة للأمم المتحدة في مسار مواكبتها لحركة التحرر التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، سيعرف “مبدأ تقرير المصير ” تطورا جديدا.

3.2 تقرير المصير من خلال إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة
إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة المعروف بتصريح الاستقلال 1514 )د15( الصادر بتاريخ 14 دجنبر 1960، والذي ينص في مادته الثانية على:
“لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
لكنه عاد وأكد في المادة 6 من نفس التصريح على:
“كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”.
ما قد يبدو تناقضا بين مواد التصريح، يؤكد أن تصريح أو إعلان الاستقلال، لا يمكن تفسيره أو تأويله إلا ضمن منظومة نسقية للقانون الدولي ومن ذلك:
تصريح مبادئ القانون الدولي بشأن علاقة الصداقة والتعاون بين الدول القرار 2625 )د25( الصادر عن الجمعية العامة في سنة 1960 والمتعلق بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفق ميثاق الأمم المتحدة، والذي ضم ضمن مبادئه الأساسية:
“أ. المبدأ الخاص بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية لدولة ما وفقا للميثاق.

4.2 تقرير المصير في العهد الدولي لحقوق المدنية والسياسية
جاء في المادة الأولى: “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق، حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
وجاء في المادة 4 من نفس العهد “لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، دون ما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي، القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي”.

5.2 ملاحظات بشأن تطور مبدأ تقرير المصير في الممارسة
هل يمكن أن نقرأ المسافة بين الحق في تقرير المصير والحق في سلامة الوحدة الترابية الوارد سواء في تصريح الاستقلال أو في الإعلان المتعلق بعلاقة الصداقة والتعاون الدولي على أنه تناقض أو جمع بين مبدئين مختلفين، أم أن الأمر يتطلب الحرص على قراءة المبادئ باختلاف مضمونها، ضمن نظام نسقي للقانون الدولي؟
ألا تعتبر عملية الجمع والتركيب بين الحق في تقرير المصير وحماية سلامة ووحدة الأمم، مجرد انصياع توافقي بين مختلف الدول الفاعلة في قرارات المنتظم الدولي؟
هل يمكن قراءة قرارات الجمعية العامة، سواء تلك المتصلة بتصريح أو إعلان الاستقلال أو المرتبطة بعلاقة الصداقة والتعاون، مفصولا عن الاعتبارات والديباجة الواردة في النصين، علما أن الديباجة والاعتبارات، هي في الأصل إطار مرجعي مفسر وموجه للقرارات الصادرة عن الجمعية؟ وفي هذا السياق وانطلاقا من ديباجة إعلان الاستقلال خاصة الفقرة: “وإذ تؤكد أنه يجوز للشعوب، تحقيقا لغاياتها الأساسية، التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية دون الإخلال بأية التزامات ناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة والقانون الدولي”.
وبالرجوع إلى الفقرة 2 من المادة 4 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية: “لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي، القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي”.
بناء على هذه القراءة التركيبية لنظام القانون الدولي في علاقته بالاعتبارات والديباجة الموجهة له، ألا يمكن تأكيد أن منظومة الأمم المتحدة لم تكن دوما منزهة أو بعيدة عن تأثير مصالح القوى الكبرى في بناء الاتفاقات والعهود بما يرجح كفة مصالحها، فضلا عما سلف، فإن ما قد يبدو تعارضا أو تناقضا بين المبادئ أو حضورا لثقل المصالح والتوازنات فإن “مبدأ تقرير المصير” يطرح إشكالات متعددة من قبيل:
ما المقصود بالشعب؟ ما هو مضمون تقرير المصير؟
ما هي الوسائل اللازمة لتنفيذه؟
كيف يمكن المواءمة بين الحق في تقرير المصير وسلامة ووحدة الدول؟
كيف يمكن إقرار المساواة في السيادة بين الدول؟
ما هي سبل منع استعمال القوة ومنع التدخل في سيادة الدول وسلامتها؟
وإذا كانت وثيقة هيلسينكي الصادرة بتاريخ 1975، في سياق البحث عن وضع أسس جديدة للأمن والتعاون بين الدول الأوروبية من المعسكرين الشرقي والغربي، قد جاءت في سياق التمهيد لنهاية الحرب الباردة ودخول الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مفاوضات للحد من الأسلحة الاستراتيجية، مما وفر فرصة لإعلان مشترك قائم على قاعدة المساواة في السيادة بين الدول واحترام حقوق السيادة الوطنية لكل دولة وحصانة حدودها ووحدة أراضيها وسلامتها، فإن انهيار المعسكر الشرقي سرعان ما سيدفع المنتظم الدولي إلى الدفع في اتجاه دعم استقلال الشعوب والجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا سابقا، دون أي ما احترام للتعهدات السابقة المرتبطة بسيادة الدول.

6.2 تقرير المصير في منظور الدول الغربية خلال عقد التسعينات
إذا كان تطور “مبدأ تقرير المصير” حسب قرارات الجمعية العامة والمعاهدات الدولية ذات الصلة، قد ظل محافظا على نوع من التركيب النسقي بين الحق في تقرير المصير والحق في سلامة ووحدة الدول، فإن هذه المنظومة ستعرف تغييرا كبيرا في أعقاب تفكيك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، وما تلا هذه الفترة من ازدياد الطلب على تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان، خاصة في عقد تسعينيات القرن الماضي.
هذا السياق سيسمح بالانتقال من الحق في تقرير المصير إلى الحق في الانفصال، خاصة بالنسبة للدول والكيانات الناشئة عن تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا، ومسارعة المنتظم الدولي إلى الاعتراف بالدول التي أعلنت انفصالها من جانب واحد…
هذا التحول الذي مورس أحيانا رغم وجود قرارات صادرة عن الجمعية العامة تؤكد أحقية وسلامة الوحدة الترابية للدول (حالة صربيا(، برره البعض بأن غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، التي من شأنها حماية منظومة الحكم الذاتي للكيانات الناشئة، يعطيها الحق في الانفصال، وبالتالي فإن الالتزام بحق حماية سلامة ووحدة الدول الوارد في تصريح الاستقلال، لا ينطبق إلا على الدول التي تحترم تقرير المصير وتتوفر على حكومات وبنيات مؤسسية، تمثل كافة الشعب دون تمييز على أساس عرقي أو عقدي…
هذا التفسير الذي ساد في بداية تسعينيات القرن الماضي يبدو غير منسجم، على اعتبار أن الدستور السوفياتي، يؤكد في فصله 72 حق الجمهوريات المشكلة للاتحاد في تقرير المصير بالاستقلال عن الاتحاد.
نفس الشيء ينطبق على يوغوسلافيا التي كان دستورها يؤكد على أن جمهورية يوغوسلافيا، تعد اتحاد دولة شعوب في شكل جمهوري…
إن الانحياز لدعم انفصال الكيانات التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي أو ضمن يوغوسلافيا، بدعوى غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، هو انحياز يستند إلى مبرر سطحي، بحيث كان الأولى التصدي للأسباب والعوامل التي تحول دون التمتع بالديموقراطية وحقوق الإنسان، عوض الدفع في اتجاه تفكيك الحق في دولة موحدة…
وغير خاف أن هذا الاتجاه في التأويل، الذي ساد في عقد التسعينات من القرن الماضي، قد تسبب في حالة من الفوضى، وأضر بشكل كبير وغير مسبوق بالأمن والسلم الدوليين مع ما ترتب عن هذا الضرر من جرائم فضيعة ضد الإنسانية وارتفاع مهول في نفقات الأمم المتحدة المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين، والتي انتقلت في زمن قياسي من 700 مليون دولار إلى حوالي 4 ملايير )الصفحة 14، المبادرة المغربية بشأن الصحراء كتعبير عن تقرير المصير، عبد الفضيل كنيديل(.

7.2 تقرير المصير ونسقية القانون الدولي
لا يمكن قراءة ” مبدأ إعلان الاستقلال” أو “مبدأ تقرير المصير” الصادر بموجب قرار الجمعية العامة 1514)د15( بتاريخ 14 دجنبر 1960 إلا في إطار نظام متكامل، وهذا النظام يفترض قراءة أفقية للإعلان في علاقته بالديباجة، على اعتبار أن الديباجة جزء لا يتجزأ من القرار، بالإضافة إلى علاقة التنصيص الصريح في الفقرة 2 على: “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
مع ما يرد في الفقرة السادسة من نفس القرار، حيث جرى التأكيد:
“كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”.
في المسافة بين الفقرة الثانية والفقرة السادسة من إعلان الاستقلال، لن نكون أمام تناقض، بقدر ما نحن أمام وضعية، تفترض قراءة المبدأ في ضوء هذه النسقية، التي لا تخلو طبعا من الكشف عن أن بناء منظومة القانون الدولي، لم تكن يوما كتابا مقدسا، بقدر ما كانت نتاج سيرورة شاقة لبناء وتكييف التوافقات بين إرادات مختلفة، ليس بالضرورة كلها مبدئية، بل إننا إذا عدنا للديباجة سنجد أنها تستند بالإضافة إلى مقاصد وميثاق الأمم المتحدة إلى التطلع للانعتاق من الاستعمار. والديباجة، حين تؤكد على حق الشعوب، تحقيقا لغايتها الخاصة، في التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية، فإنها ربطت هذا الحق المشروع للشعوب، بعدم الإخلال بأية التزامات ناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي القائم، وهي بذلك تقيد حق الشعوب في التصرف في ثرواتها بما تسميه الالتزامات الناشئة بحكم التعاون الدولي، وهي عبارة في الختام موجهة بالأساس لحماية مصالح الدول الكبرى.
وبالنظر إلى كون القانون الدولي يشكل منظومة متكاملة، يفسر بعضها البعض الأخر، فإن تصريح منح الاستقلال لا يمكن قراءته وفهمه إلا ضمن الحدود التي يؤطرها إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلق بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة، الصادر بموجب القرار 2625 )د25(، خاصة المبادئ التالية:

  1. مبدأ امتناع الدول في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة، أو استعمالها ضد السلامة الاقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي نحو أخر يتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة.
  2. مبدأ فض الدول لمنازعتها الدولية بالوسائل السلمية.
  3. المبدأ الخاص بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية لدولة ما.
  4. مبدأ تساوي الشعوب في حقوقها، وحقها في تقرير مصيرها بنفسها.
  5. مبدأ المساواة في السيادة بين الدول.
    في ضوء هذه المبادئ العامة المضمنة في القرار 2625، ألا يمكن أن نتساءل بأن القول بحق “تقرير مصير شعب الصحراء الغربية” يتنافى، بل ويتناقض مع هذه المبادئ مع ما تشكله من مرجعية لحق المغرب كدولة وكيان في تقرير مصيره العام، وفي حقه الأوحد في معالجة وتدبير القضايا التي تكون من صميم ولايته القومية؟

8.2 تقرير المصير في الممارسة الدولية
الكل يعلم أن مسألة حدود الدول الافريقية، مرتبطة بطبيعة الحدود الموروثة عن الاستعمار الغربي، وأن الدول الافريقية، بما فيها تلك التي ترفع صوتها بمناصرة “مبدأ تقرير المصير”، تتمسك بكل قوة بهذه الحدود الموروثة، وإن كانت الحدود الموروثة لا تتوافق بالضرورة مع مصالح وإرادة العديد من الشعوب، ولعل ذلك ما ينعكس على حجم وطبيعة الصراعات الإثنية التي تجتاح الدول الافريقية مثل دول الحوض الافريقي، حيث عمل الاستعمار على توزيع بنيات اجتماعية وإثنية كبرى بين عدد من الدول.
والملاحظ أن الحدود الموروثة عن الاستعمار خاصة في إفريقيا، وما تطرحه من تحديات جراء احتمال اندلاع حروب إثنية وقبلية، هي ما دفعت معهد أسبين بكولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى تنظيم ورشة للتفكير في غشت 1994، في أعقاب انتهاء الحرب الباردة للتفكير الجماعي في نوعية وطبيعة الحروب المقبلة وما تطرحه من تحديات. الورشة تميزت بمشاركة عدد من الخبراء وشخصيات بارزة مثل ماركريت تاتشر، جيمس بيكر، برنار كوشنير، وجاك أطالي. هذا الأخير اعتبر في هذه الورشة أن الحروب المقبلة، ستكون مزمنة وستحدث في المناطق البدوية التي لازالت فيها القبيلة هي البنية المعبرة عن أشكال الهوية، واعتبر أن هذه الحروب المزمنة، ستشكل تحديا كبيرا أمام الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، وأن الحل لتدبير هذه الحروب المقبلة يمر عبر الاندماج الاقتصادي والسياسي والجهوي لهذه المناطق والأقاليم.
بين إشكالات الحدود الموروثة عن الاستعمار وورشات التفكير، في سبل مواجهات الحروب المزمنة المتصلة بتنامي نزوعات الانفصال، كيف تعاطت الممارسة الدولية مع الحق في تقرير المصير في ارتباطه في الحق في سلامة الوحدة الترابية؟

‌أ. مسألة كتانكا
وهي عبارة عن مقاطعة تقع جنوب الكونغو الديموقراطية، وقد كانت تسمى مقاطعة شابا في عهد موبوتو سيسوكو )الزايير سابقا(، وتقع على الحدود مع زامبيا عاصمتها الإدارية لوبومباشي، وتتكون من أربع مقاطعات، وقد شهدت حربا ضروسا مع الدولة المركزية وطالبت بالاستقلال عن الكونغو الديموقراطية، لكن اللجنة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب رفضت تمكين المقاطعة من تقرير المصير وأقرت بأن “كتانكا ملزمة باختيار بديل أخر عن تقرير المصير الخارجي، يتلاءم واحترام السيادة والوحدة الترابية لدولة الزايير )الكونغو الديمقراطية حاليا(. القرار صدر في 1995.
وغير خاف أن تأييد تقرير مصير شعب كتانكا كان سيفتح المجال نحو إعادة رسم الخريطة بالبحيرات الكبرى.

‌ب. مسألة ناميبيا
باعتبار ناميبيا مشكّلة من عرقيات وقوميات مختلفة، فإن جنوب افريقيا، طالبت بتمكين كل القوميات والشعوب المشكلة لناميبيا بتقرير مصيرها، وجراء هذا الخلاف عرضت المسألة الناميبية على محكمة العدل الدولية التي أقرت حق تقرير مصير كافة شعب ناميبيا، بصرف النظر عن تعدد العرقيات والقوميات.

‌ج. مسألة جنوب افريقيا
لا تتردد جنوب افريقيا في الجهر بمساندة مبدأ تقرير مصير الشعوب، إلا أن جنوب افريقيا نفسها قررت مصيرها إزاء حالة لبرتايد ممثلة في منظومة الفصل العنصري بين البيض والسود، لكنها بالمقابل لم تعمل على تمكين مختلف الشعوب والقوميات المشكلة لها على تقرير مصيرها.

‌د. مسألة جزر مايوت
خضعت جزر القمر بما فيها جزيرة مايوت للاستعمار الفرنسي، وقد سعت فرنسا في محاولة منها للحفاظ على مصالحها الجيو استراتيجية في هذه المنطقة إلى فصل جزر مايوت عن جزر القمر، حيث عملت على تنظيم استفتاء شعبي بالجزيرة، وافق بأغلبية ساحقة على استقلال الجزيرة في سنة 1976، لكن الأمم المتحدة اعتبرت هذا الاستفتاء الذي صوت لصالح الانفصال بنسبة 99 في المائة باطلا، كما اعتبرت أن أي استفتاء سيجري لاحقا في الجزيرة يعد خرقا لسيادة دولة القمر ووحدتها الترابية.

‌ه. مسألة إقليم الكيبيك بكندا
رفضت المحكمة العليا بكندا الاعتراف بحق انفصال مقاطعة الكيبك معتبرة أن سكان هذا الإقليم يعدون جزءا من الشعب الكندي الذي يتمتع بحقه في تقرير المصير بمجموعه.

9.2 في مفهوم “شعب”
ماذا نعني بمفهوم “شعب”؟ لماذا لم تحرص الأمم المتحدة والجمعية العامة بمناسبة إصدارها لتصريح منح الاستقلال على تدقيق معنى لفظة “شعب”؟
هل يمكن أن نحدد مفهوم “شعب” من خلال مجموعة بشرية منظمة في دولة؟ هل تستقيم المحاولات التي تسعى لربط مفهوم “شعب” بالمشترك التاريخي والثقافي؟ ألا يعد هذا المشترك الموضوعي مجرد تحديد للهوية المشتركة وليس لمفهوم “شعب”؟ لماذا يرد مفهوم “شعب” في الغالب في صيغة نكرة؟
يؤخذ على إعلان منح الاستقلال بموجب قرار الجمعية العامة 1514، الدورة 15 الصادر بتاريخ 14 دجنبر 1960، أنه لم يحدد بشكل دقيق مفهوم “شعب” ولا مضمون تقرير المصير ولا الوسائل اللازمة لتنفيذه، ذلك أن “لفظة كل الشعوب غير دقيقة”، سيما وأن الإعلان صدر، في وقت كانت أغلب الشعوب التي عانت من الاستعمار، قد تحررت بالفعل. وبالتالي فإن الغموض الذي يكتنف لفظ “كل الشعوب” ربما سعى أو سكت على خلفية التقاطب الحاد بين المعسكرين الشرقي والغربي، سيما وأن المعسكر الشرقي وحلفاؤه من الدول النامية، كانت تهدف إلى محاربة الاستعمار الغربي واستكمال التحرر، بينما كان الغرب، يسعى إلى نشر الديموقراطية والقيم الغربية واتخاذها مدخلا لدعم تقرير مصير الشعوب والقوميات المكونة للاتحاد السوفياتي ومن يدور في فلكه.
غموض لفظ “كل الشعوب” تم تكراره أيضا في العهدين الدوليين الصادرين في 1966، مما يجعل بعض المختصين، يعتبرون أن تأكيد كل من تصريح 1514 و2625، على أن تقرير المصير، يجب ألا يمسّ بالسلامة والوحدة الترابية للدول، يقتضي فهمه باعتباره موجها للشعوب المنظمة في إطار دول، حيث يرفض لها أي حق في الانفصال، من شأنه أن يؤثر أو يضر بالسلامة والوحدة الترابية لهذه الدول… وأن تقرير المصير بهذا المعنى خاص بالدول والكيانات المستعمرة بهذه الصفة.
على قاعدة هذا الفهم، سعى المنتظم الدولي، بمناسبة إعداده للاتفاقية المتعلقة بالشعوب والقبائل الأصلية، من خلال الفقرة 3 من الاتفاقية 169، إلى رفع الغموض وتأطير مفهوم “شعب” بحيث يمنع أي تأويل للدفع في اتجاه تكوين كيان أو دولة على قاعدة الحقوق المشروعة للشعوب الأصلية، وجاء في المادة 1 من الاتفاقية 169:
“الشعوب القبلية في البلدان المستقلة التي تميزها أوضاعها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، عن القطاعات الأخرى من المجتمع الوطني والتي تنظم مركزها القانوني، كليا أو جزئيا عادات أو تقاليد خاصة بها أو قوانين أو لوائح تنظيمية خاصة، وأضاف في الفقرة 3 لرفع اللبس وتدقيق المفهوم:
جاء في الفقرة 3: “لا يجوز أن تفسر كلمة “شعوب” في هذه الاتفاقية، بأنها ترتب أي آثار فيما يتعلق بالحقوق التي ترتبط بهذه الكلمة بموجب القانون الدولي”.
التدقيق الذي غاب عن تصريح إعلان الاستقلال وحضر بمناسبة الاتفاقية 169 الخاصة بالشعوب والقبائل الأصلية، لا يلبي فقط المهنية والوضوح المفترض في منظومة القانون الدولي، وإنما يلبي خلفية مصالح الدول التي قامت في الأصل على أنقاض، اجتثاث الشعوب الأصلية، كما يلبي من جهة أخرى طموح البلدان المتمسكة بالحدود الموروثة عن الاستعمار، وما قد يترتب عن الغموض في هذا المقام، من إمكانية لخلق كيانات جديدة، مما قد يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وهذا يعني أن المبدأ بصرف النظر عن الغموض الذي لازمه في تصريح الاستقلال أو في العهدين الدوليين، إنما كان غموضا مقصودا لتلبية التوازنات الدولية.

10.2 هل ينطبق مفهوم “شعب” على سكان الصحراء
أ. في البنية الاجتماعية
إذا كان تصريح إعلان الاستقلال، يلفه بعض الغموض بشأن مفهوم “تقرير المصير” و”مفهوم الشعب” نطاقه ووسائل إعماله وتنفيذه، فإنه في حالة الصحراء، يصطدم بغموض مركب، ينسحب على “الإقليم” و”الشعب”.
فإقليم الصحراء، الذي يسمى في بعض الأدبيات “بتراب البيضان”، و”الصحراء الاسبانية”، و”الصحراء الغربية”، احتاج إلى عشرات السنين قبل أن تظهر معالمه الجغرافية النهائية. أما “ساكنة” أو “سكان الصحراء”، المختلف بشأن عددها الفعلي، فإنها مجرد بنيات اجتماعية تشكل امتدادا طبيعيا لسكان شمال المغرب، لذلك فإن كل الوثائق والتوصيات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، كانت تتحدث عن “سكان” أو “ساكنة الصحراء”، كما أن وثائق مخطط التسوية، بجميع مراحل مراجعاتها، ارتبطت برهان اجراءات وتدابير “تحديد الهوية” باعتبارها المدخل المركزي لمعرفة الهيأة الناخبة المشكلة “لساكنة الصحراء”.
يتشكل إقليم الصحراء من مجموعات بشرية مختلفة انصهرت على مدار قرون، مكوناتها الأمازيغية والافريقية مع المجموعات العربية الوافدة، إما بفعل المصاهرة أو التجارة والترحال أو بفعل الديناميات التي واكبت نشر الإسلام…
امتزاج وانصهار هذه المجموعات القبلية المختلفة، سيتحول بشكل تدريجي إلى قاعدة خلفية مركزية لخلق وإسناد الانعطافات الكبرى في تاريخ السلالات التي تداولت على حكم المغرب، والتي يمثل تحالف قبائل صنهاجة ولمتونة بالجنوب المغربي أحد عناوينها الكبرى من خلال تأسيس دولة المرابطين.
ومن بين أهم سمات الانصهار الصنهاجي الأمازيغي والأفريقاني مع المكون العربي، نرصد مايلي:
• احتفاظ المجال الصحراوي عموما ومجال إقليم الصحراء بشكل خاص بما كان يطلق عليه من أسماء خلال الفترة الأمازيغية خاصة أسماء الأماكن من وديان وجبال وسهوب.
“على هذا الأساس فمن مظاهر الانزياح عن العلمية في مقاربة التاريخ الصحراوي، مسألة التسمية، فمن ينعت الصحراء الصنهاجية، صحراء البيضان، بالصحراء الحسانية، فإنه يلغي الحقائق والرغبات المحلية… لأن مركز التصور الجغرافي يتحول في ظروف تاريخية محددة إلى مركز تصور إثني، مركزي، فتلصق الأحكام الصادرة عن المركز بشكل تعسفي بالأطراف والهوامش، مما يؤدي بالضرورة إلى تراجع الثقافات المحلية واندثارها رويدا رويدة إلى حد تشكل مركبات نقص تجاهها تتحدد ي شكل شعور بالدونية عند الانتماء إليها” ص 29، من كتاب “المعجم الصنهاجي في لسان الصحراء” سعيد كويس.
• ارتباط الحرف التقليدية وكل ما يتصل بالعمل اليدوي بحقل دلالي أمازيغي.
• ارتباط الشعر أو “لغنى” الذي هو في الأصل ديوان البنيات الاجتماعية في الصحراء من حيث بنياته الإيقاعية والموسيقية بالمكون الأمازيغي الصنهاجي، يقول الشاعر :
” ظَلْ الهنكور يوم كلفو من تيمكرار يلا اوكار
فالصل يهبش راسو كفو هبش أسرارو فأرار”
يقول الدكتور سعيد كويس: “الحسانية عندنا لم تنشأ وتترعرع إلا في بيئة صنهاجية، تفاعلت وتواردت فيها ثقافتان بدويتان في وعاء إسلامي، لذلك لا يجوز النظر إلى بنياتها اللغوية على أنها عربية خالصة بقدر ما يجب أن ينظر إليها بشكل بنيوي لا يغيب مكونا على حساب أخر، ويكشف عن عمق التثاقف في صحراء المغرب وضرورة استثماره لصالح الوطن لا ضده”، ص 26 من الباب الأول من كتاب “المعجم الصنهاجي في لسان الصحراء”.
• ارتباط التحول الذي عرفته إحدى أكبر البنيات الاجتماعية القبلية بالإقليم من زاوية، إلى قبيلة حاملة للسلاح، بطبيعة ونطاق المصاهرات والانصهار مع البنيات القبلية السائدة بجنوب المغرب، سواء منها العربية أو الأمازيغية الصنهاجية.
• ارتباط البنيات الاجتماعية السائدة بالإقليم والصحراء بشكل عام بأصولها الممتدة بوسط وشمال المملكة.
• اعتداد البنيات الاجتماعية والقبلية بالإقليم، وبالصحراء بشكل عام، بالانتساب الجماعي لجد موحد سواء كان صحيحا أو وهميا، وانتفاء أي شكل من أشكال الانتماء الفردي، فالصحراوي ينتمي للقبيلة وللجماعة قبل أي انتماء للأسرة، ولم يثبت في أدبيات وتمثلات الصحراويين ربط انتمائهم بمجال الصحراء بقدر ما ظلوا مرتبطين بالانتماء إلى البنيات القبلية المختلفة، حيث لا حدود ولا فواصل بين الأوطان.
• انتفاء أي مصدر أو وثيقة تثبت تسمية البنيات الاجتماعية والقبلية بتسمية “شعب الصحراء”.
• أول من استعمل لفظ “شعب الصحراء” كان وزير الإسكان الإسباني في حكومة فرانكو بمناسبة زيارته للعيون في أعقاب أحداث الزملة.
إقرار قيادات البنيات الاجتماعية بالصحراء والرعيل الأول من النخبة المثقفة بوجود ارتباط دائم “لإقليم الصحراء وبنياته الاجتماعية بالمملكة المغربية، وفي هذا السياق يقول الوالي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو، وأمينها العام في مذكرة بشأن إقليم الصحراء، في يناير 1972 المنشورة بالصفحة 143 من كتاب الدكتور علي الشامي، “الصحراء الغربية عقدة التجزئة في المغرب العربي”، إن “تعاقب الدول والتنازع على السلطات وتناحر القبائل أدت إلى زيادة الهجرة لهذه المنطقة المحايدة الأمنة واللجوء إليها من كل مغلوب. بل وفي كثير من الأحيان، الاعتصام بها من طرف الثائرين الذين يحضرون للانقضاض على أعدائهم ونتيجة لهذه الهجرة المتعاقبة صوب الصحراء والمعاكسة أحيانا منها إلى المغرب، فقد كانت المنطقة مرتبطة ارتباطا وثيقا في غالب الأحيان بالسلطة القائمة في المغرب. وكثيرا ما كانت تمارس سلطات مركزية من قبل هذه الحكومات على سكان المنطقة، خصوصا في حالة الحروب، فكانت كثير منها تجند سكان المنطقة لنصرتها، ويمكن القول أن المنطقة كانت إقليما مغربيا كسائر الأقاليم المغربية الأخرى”.
• احتفاظ المجال الصحراوي بمسافات واسعة للتحرك وتدبير السلطة الزمنية بالإقليم، لم يحل يوما دون استمرارية الوحدة الوطنية عبر مؤسسة البيعة وما تقتضيه من التزامات متبادلة. يقول علي الشامي في كتابة عقد التجزئة في المغرب العربي، الصفحة 93:
“إن القبائل المتمتعة باستقلال ذاتي عن المركز، لا تتناقض باستقلاليتها عن وضعية القبائل القريبة من المركز. فالسلطة المركزية موحدة ولكنها فوق المجتمع، أي لا تضبط شؤونه الداخلية إلا من خلال ضبط شروط المركزة تجاريا وحربيا، أما العلاقات الداخلية فتبقى محافظة على ركائزها: الدور السياسي لشيخ القبيلة أو لمجموعة زعماء القبائل، ومعالجة القبائل لمشاكلها اليومية… أما الوحدة الفعلية بين هذه القبائل أو بينها وبين المركز، فإنها ستتمثل بالشرع وبالانتماء إلى الجماعة الاسلامية الواحدة”.
هذا الترابط بين البنيات الاجتماعية بالإقليم، وعموم التراب الوطني، سيكون من بين أهم ما سجلته لجنة الأمم المتحدة التي قامت بزيارة استطلاعية إلى الإقليم بتاريخ 09 أكتوبر 1975، في أعقاب احتجاج المغرب على الاحصاء الاسباني:
“إن سكان هذا الإقليم، بسبب طريقة عيشهم البدوية، ينتقلون بسهولة عبر الحدود إلى البلدان المجاورة، حيث يستقبلهم أفراد من عائلاتهم أو حتى أفراد من أسرهم، إن ذهاب السكان وإيابهم، عبر حدود الإقليم يجعل من الصعب إجراء إحصاء كامل للسكان الصحراء الاسبانية…” تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 19 دجنبر 1991.

ب‌. في حدود إقليم النزاع: البنية الجغرافية
إذا كانت البنيات الاجتماعية التي عمرت الإقليم ظلت مرتبطة بأصولها في شمال المملكة، فإن إقليم الصحراء المتنازع بشأنه، في حد ذاته، لم تكتمل صورته النهائية كإقليم خاضع للاستعمار الاسباني إلا بتاريخ 10 يناير 1958، والملاحظ أن استكمال النفوذ الاسباني على الإقليم سواء بمفهومه “الصحراء الاسبانية” أو “الصحراء الغربية” مر من المراحل التالية:
• في 1476 أقامت إسبانيا حصنا على الشواطئ الصحراوية الأطلسية المقابلة لجزر الخالدات، تحت اسم حصن “SCMP” .
• معاهدة السلام والتجارة الاسبانية المغربية الموقعة بتاريخ 28 ماي 1767.
• معاهدة السلام والصداقة والملاحة والتجارة والصيد الموقعة بتاريخ 01 مارس 1799.
• معاهدة السلام والصداقة بين اسبانيا والمغرب الموقعة بتاريخ 26 أبريل 1860.
• المعاهدة البريطانية المغربية حول امتلاك المغرب لمنشآت شركة نورت ويست أفريقيا بطرفاية بتاريخ 13 مارس 1895.
• البيان الفرنسي الإسباني حول وحدة التراب المغربي الموقع بتاريخ 03 أكتوبر 1904.
• المعاهدة السرية الفرنسية الاسبانية الموقعة بتاريخ 03 أكتوبر 1904.
• ملحقات الاتفاق الفرنسي الألماني الموقعة بتاريخ 04 نونبر 1911.
• معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب الموقعة بتاريخ 30 مارس 2012.
• المعاهدة الفرنسية الإسبانية الموقعة بمدريد بتاريخ 27 نونبر 1912.
رغم كون الاستعمار الاسباني للمغرب ابتدأ منذ 1476، فإنه ظل مرتبطا بالسواحل الأطلسية إلى حين اكتشاف منجم الفوسفاط، ومع ذلك فإن فرنسا هي التي لعبت دورا كبيرا في مساعدة وحمل اسبانيا على التوسع في الإقليم، وهكذا :
احتلت إسبانيا مدينة طرفاية في 1920، واحتلت إفني في 1934 أو سنة ما يسمى في الأدبيات الصحراوية بسنة “ملكى لحكام”، واحتلت السمارة في 1937 بدعم وإسناد من فرنسا، وفي 1958 بعد تنفيذها بتعاون مع فرنسا لعملية إكوفيون )المكنسة( الموجهة ضد جيش التحرير، أصدرت ظهير 10 يناير 1858 الذي اعتبرت بموجبه إقليم الصحراء مقاطعة إسبانية.

ج. البنية السكانية للإقليم
* غموض من حيت المساحة
إن الغموض الذي رافق إحكام النفوذ الاسباني على إقليم الصحراء، يوازيه غموض آخر بشأن الأرقام المتضاربة، سواء من حيث مساحة الإقليم أو عدد سكانه. فإذا كان بعض الكتّاب الإسبان يتحدثون في منتصف السبعينات عن مساحة إجمالية تقدر ب 266 ألف كلم مربع، فإن كلا من علي يعتة وأتيليو كوديو تحدثا عن مساحة بحوالي 272 ألف كلم مربع. بينما تداولت الأمم المتحدة عبر الجمعية العامة رقما آخر يقدر المساحة الإجمالية بـ280 كلم مربع، وذلك في سنة 1974. أما جبهة البوليساريو فكانت تتحدث عن مساحة 284 ألف كلم مربع، وقدّمت إسبانيا في مناسبات مختلفة أرقاما مختلفة أيضا، حيث تحدثت الحكومة الاسبانية في بداية النزاع عن 278 ألف كلمتر مربع، في حين قدمت وزارة الخارجية الاسبانية رقم 280 ألف كلم مربع، أما وزارة الإعلام فكانت تتحدث عن 284 ألف كلم مربع.
* غموض في البنية السكانية
• في كتابه les tribus de la haute Mauritanie ، الصادر سنة 1915، عمل بول مارتي على تقديم بيانات أولية عن ساكنة إقليم الصحراء، حيث جاء في الكتاب أن أعداد أولاد دليم يشملون حوالي 560 خيمة، بمعدل 6 أشخاص لكل خيمة، أي ما مجموعه 3360 شخص.
• أولاد تيدرارين، 400 خيمة بمعدل 6 أشخاص لكل خيمة أي ما مجموع 2400 فردا.
• الرقيبات، تضم القبيلة بأكملها حوالي 4100 خيمة، بمعدل 6 أفراد لكل خيمة أي ما مجموعه 24600 شخص.
• تكنة، وتشمل 5273 موقد نار )كانون(، تتكون بشكل رئيسي من المنازل والبقية من الخيام، بمعدل 6 أشخاص لكل “كانون” أي ما مجموعه 31680 شخص…كتاب للأستاذ محمد الغيث ماء العينين، “مسألة الصحراء وإشكالية الهوية”.
• في مارس 1966 عملت إسبانيا على جمع توقيعات من 800 زعيم صحراوي يمثلون 6947 خيمة، لتستعملها كقاعدة لشرعنة مطالبة السكان بالاتحاد مع إسبانيا، وتعرف هذه السنة في التمثل الشعبي الجماعي بعام السنية.
• استندت اسبانيا على هذه التوقيعات، ليقدم مندوبها الدائم بالأمم المتحدة بتاريخ 8 شتنبر 1966، مطلب إجراء استفتاء يمكن الصحراويين من تدبير شؤونهم بأنفسهم، وبالاستناد إلى نفس التوقيعات السابقة، قدمت إسبانيا في نونبر 1966 ما يفيد أن 91 في المائة من السكان يطالبون بالانضمام إلى إسبانيا.
• في أواسط الستينات، كانت المصادر الاسبانية تقدر عدد السكان بحوالي 15 ألف نسمة، إلا أن بلاغا للمكتب الدبلوماسي بوزارة الخارجية الاسبانية أفاد بتاريخ 12 يناير 1973 أن عدد السكان هو 60 ألفا، وبتاريخ 25 نونبر 1972 قال مندوب إسباني في لجنة الوصاية للأمم المتحدة بنيويورك أن “إحصاء أجري مؤخرا في الصحراء، بيّن أن أعداد السكان 59972، معظمهم من القبائل الرحل. وفي تصريح أدلى به الكولونيل إدواردو بلانكو، المدير العام لإنعاش الصحراء، يوم 13 شتنبر 1974، ذكر أن عدد سكان الصحراء بلغ 70 ألف نسمة (ص 191، الصحراء الغربية عقدة التجزئة في المغرب العربي، الدكتور علي الشامي).
• أجرت إسبانيا إحصاء السكان في الفترة الممتدة بين شتنبر ونونبر 1974 واقتصر الإحصاء على السكان الحاملين لبطائق التعريف التي منحتها السلطات الاسبانية منذ 1970، علما أن عددا من شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية أفتت بتحريم التعامل مع الاستعمار الاسباني، مما جعل أعدادا كبيرة لا تشارك في الاحصاء.
• أسفر الاحصاء الاسباني على ما يلي: مجموع السكان 73497 منهم 38336 ذكور و35161 إناث، ويتوزع إحصاء السكان وفق البنيات القبلية التالية:


• تضارب الأرقام بخصوص إجمالي سكان الصحراء، استند إلى اختلاف المواقف والمواقع:
* جبهة البوليساريو في بداية تأسيسها، كانت تروج لحوالي مليون نسمة، بينما ذهب أحمد بابا مسكة إلى الحديث عن 500 ألف نسمة.
* أكد الأستاذ علي يعثة في كتابه “الصحراء المغربية الغربية” أن عدد سكان الصحراء، كان قبل الاحتلال الاسباني يبلغ 200 ألف نسمة، أما بعد الاستعمار فإنه تراجع إلى 60 ألف نسمة بفعل عمليات التهجير التي طالت السكان في أعقاب حرب إكوفيون.
* أما الأستاذ عبدو عبد الغني في كتابه “الطريق الثوري لتحرير الصحراء الغربية”، فيذكر أن عدد السكان يترواح بين 70 و80 ألفا، وأن المهجرين منهم نحو المغرب وموريتانيا والجزائر لا يزيد عن 300 ألف، كتاب عقد التجزئة ، علي الشامي ص 70.
* مجلة أنفاس التي ارتبطت بحركة اليسار تحدثت في بعض أعدادها عن ساكنة بحوالي 250 ألف نسمة.

الإحصاء المغربي
حسب إحصاء مغربي رسمي، جرى بتاريخ 30 مارس 1966، فإن عدد السكان موزع على الشكل التالي :

  1. منطقة طرفاية 27976 نسمة.
  2. الساقية الحمراء وواد الذهب 48400 نسمة
  3. موريتانيا 9000 نسمة من المهاجرين
  4. تندوف 1200 من المهاجرين
    أي أن العدد الإجمالي للسكان حسب الاحصاء الرسمي المغربي بلغ في 1966، 98386، “عقدة التجزئة” علي الشامي، ص 70 و 71.
    • شكك المغرب في صدقية الإحصاء الإسباني، لا سيما الجانب المتعلق بتعداد اللاجئين خارج الإقليم، فبعثت الأمم المتحدة لجنة للتقصي في ماي 1975، وأصدرت تقريرها بتاريخ 09 أكتوبر 1975 وأكد التقرير:
    “نظرا للروابط الوثيقة التي تجمع صحراويي الإقليم بأولئك الذين يعيشون في الجنوب المغربي أو بشمال موريتانيا، فمن الصعب جدا معرفة منهم الذين يرجع أصلهم إلى الإقليم، كما أشار التقرير إلى التناقض الحاصل بين معطيات الإحصاء الاسباني، وما أقرت به السلطات الاسبانية للجنة الأممية حول تعداد اللاجئين الصحراويين، فمن رقم 1700 شخص في الاحصاء إلى 9000 شخص، قالت إسبانيا أنهم موزعون بين المغرب وإسبانيا، في الوقت الذي تقدر تعدادهم حكوماتا البلدين المجاورين بين أربعين ألف وخمسين ألف، وقد أقر المغرب بوجود حوالي 35 ألف شخص لاجئ في جنوبه مع وجود أعداد أخرى اندمجوا في جهات أخرى من البلاد.” من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 19 دجنبر 1991.

رابعا : ساكنة الصحراء في مخطط التسوية

  1. من خلال الوثيقتين S/21360 و S/22464
    إذا كان مخطط التسوية المتضمن في الوثيقة S/21360 بتاريخ 18 يونيو 1990، والذي تم التأكيد عليه في الوثيقة S/22464، الصادرة بتاريخ 19 أبريل 1991 عملا بالقرار 658 )1990(، قد احتوى على وثيقة مقترحات التسوية ومخطط التنفيذ، بهدف تحقيق حل عادل ونهائي لمسألة الصحراء الغربية وفقا لقرار الجمعية العامة 1514، الدورة 15، عن طريق تثبيت وقف إطلاق النار بناء على القرار 690 )1991(، وبهدف إجراء استفتاء لتمكين “شعب الصحراء الغربية” من ممارسته لحق تقرير المصير، فإن خطة التسوية الواردة في الوثيقتين، خاصة الجوانب المرتبطة بتحديد الهوية الواردة في الفقرة “أ” تحت باب “تعداد السكان”، والتي تشمل المواد من 24 إلى 30 من الوثيقة S/21360، بينما وردت في الوثيقة S/22464 ، الباب المتعلق “بالتحقق من هوية الناخبين وتسجيلهم” الفقرات من 19 إلى 24.
    إن هذه الوثائق التي تعد بمثابة الإطار القانوني المرجعي المعتمد من طرف الأمم المتحدة كقاعدة لإجراء الاستفتاء، استندت إلى ما تسميه بشكل علني وواضح “سكان” أو “ساكنة الصحراء الغربية”، ولم يرد في هذه الوثائق بالمطلق ما يفيد أن بالإقليم “شعبا”.
  2. من خلال الوثيقتين S/1997/742 و S/1997/882
    كانت الأمم المتحدة تفترض من خلال خطة التنفيذ، أن مخطط التسوية قد لا يستغرق أكثر من 27 أسبوعا، من أجل تنفيذ كافة مضامينه، وأمام الإشكالات الموضوعية المرتبطة بمسطرة تحديد الهوية المعقدة، وما نجم عنها من خلافات مركبة، بشأن الهيأة الناخبة المحتملة، ستضطر الأمم المتحدة إلى القيام بمراجعات عميقة خاصة بعد تعيين كوفي عنان لجيمس بيكر كممثل خاص. وبعد قيادة هذا الأخير لجولات من الحوار والمفاوضات، بهدف تقريب وجهات النظر بين مختلف الفرقاء، أصدر الأمين العام الوثيقة S/1997/742 التي تضمنت ما سمي باتفاقات هيوستن والاتفاقات التوفيقية بشأن القضايا الخلافية المتصلة بتنفيذ تحديد الهوية واستكمال منظومة الهيأة الناخبة، إلا أن اتفاق هيوستن الذي اعتبر في بدايته بمثابة نصر وتقدم، سرعان ما سيكشف عن عمق الخلافات وهشاشة الاتفاقات التوفيقية، خاصة تلك المرتبطة بالقبائل المصنفة ضمن مجموعات H61 و H41 و J51 وJ52.
    أما الوثيقة S/1997/882، فقد تضمنت مراجعة جديدة لمخطط التنفيذ وحددت أفق نهاية 1998 كتاريخ مفصلي لإجراء الاستفتاء، قبل أن تنفجر الخلافات بشأن المجموعات القبلية المختلف بشأنها، ومسطرة الطعون التي اتسع نطاقها بشكل رهيب وباتت تتطلب بنيات ومؤسسات خاصة للاستجابة لها.
    إن مخطط التسوية الذي كان يطمح لإجراء استفتاء “تقرير المصير”، كان يسعى للتوفيق بين هدف “تقرير المصير” باعتباره مبدأ مؤطرا بتراكمات منظومة القانون الدولي، في بعدها اللبيرالي، مع ما يتطلب هذا البعد من بنيات مصاحبة ترتبط بوطن ومواطنة، ومداخل تقليدية، تعود لما قبل الدولة، ممثلة في البنيات القبلية والاجتماعية، مع ما يستتبع هذه البنيات من إشكالات مركبة وعصية على الفهم أحيانا. ولعل هذا الوضع المعقد، هو ما دفع الأمناء العامين للأمم المتحدة للتعبير بشكل صريح على تعقيدات مخطط التسوية التي حالت وتحول دون إجراء استفتاء متكامل ونزيه:
    يقول الأمين العام للأمم المتحدة بيريس دي كويير، والذي ارتبط المخطط باسمه أحيانا:
    “إن سكان هذا الإقليم بسبب طريقة عيشهم البدوية، يتنقلون بسهولة عبر الحدود إلى البلدان المجاورة، حيث يستقبلهم أفراد قبائلهم أو حتى أفراد أسرهم. إن ذهاب السكان وإيابهم عبر حدود الإقليم يجعل من الصعب إجراء إحصاء كامل لسكان الصحراء الغربية، ويخلق مشكلة معقدة في تحديد هوية صحراويي الإقليم، ويزيد من صعوبة إجراء استفتاء اللاجئين يدعوا إلى الرضا”. تقريره S/23299، الصادر بتاريخ 19 دجنبر 1991.
    وجاء في تقرير الأمين العام بوطرس غالي في الوثيقة S/1994/1257، الفقرة 19:
    “ومع هذا )الجهود المبذولة(، لم يتم خلال شهرين الأولين للعملية إلا تحديد هوية نسبة ضئيلة جدا من مقدمي الطلبات، فيما اتسع النطاق المحتمل للعملية اتساعا شديدا بفعل سيل الطلبات التي وردت في اللحظة الأخيرة، فضلا عن ذلك، اتضح أن العملية أكثر تعقيدا مما كان متوقعا”.
    أما الأمين العام كوفي عنان الذي بادر إلى تعيين وسيط من الوزن الثقيل في محاولة لتجاوز إشكالات مخطط التسوية، فإنه وبعد فشل كل المحاولات، قال في تقريره S/2001/613 الصادر بتاريخ 20 يوليوز 2001، الفقرات 22 و23:
    “وتعزى بشكل خاص الصعوبات في تحديد من من الصحراويين مؤهل للمشاركة في الاستفتاء، إلى خصائص السكان الصحراويين، ولا سيما تقاليدهم البدوية والتركيبة القبلية للمجتمع. وعليه، وبسبب عدم الدقة في تحديد الانتماء القبلي في الإقليم، أصبحت هذه القضية الأساسية منذ البدء موضع خلاف عميق بين الطرفين، حيث أصرت جبهة البوليساريو على أنه بموجب خطة التسوية ينبغي ألا يشارك في الاستفتاء سوى 74000 من السكان الذين أحصوا في التعداد الاسباني في الإقليم عام 1974. وللمغرب رأي معارض مفاده، أن هناك آلاف آخرين من القبائل الصحراوية مؤهلين أيضا للتصويت، بمن فيهم أولئك الذين كانوا موجودين في الإقليم أثناء إجراء التعداد، لكن لم يحصوا، وأولئك الذين نزحوا إلى المغرب في السنوات السابقة، وأولئك الذين يقيمون في مناطق، كانت في السابق جزءا من الإقليم وأعادتها إسبانيا إلى المغرب في الخمسينات والستينات”.
    وجاء في قرار مجلس أوروبا 2004\2024 الوثيقة 13526 الخاصة بلجنة الأسئلة السياسية والديموقراطية، والوثيقة 13544 لجنة الأسئلة القانونية وحقوق الإنسان، الفقرة 4.5:
    “يأخذ )مجلس أوروبا( بعين الاعتبار صعوبة إجراء الاستفتاء، خاصة ما يتعلق بتحديد الهوية، الهيأة الناخبة، وهي المهمة التي كانت مكلفة بها بعثة المينورسو، والتي هي مكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار ودعم تدابير الثقة من أجل الإجابة على حاجيات الأسر الصحراوية بمخيمات اللجوء بتندوف”.
  3. ملاحظات
    إن الإجراءات المرتبطة بمخطط التسوية، الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة، وخضع خلال هذه المرحلة للعديد من المراجعات، ارتبط بما يلي:
    • اعتبار مخطط تحديد الهوية إجراء مركزيا لتحديد الهيأة الناخبة المسموح لها وفق المخطط وبناء على القانون الدولي، المشاركة في الاستفتاء.
    • إن استفتاء “تقرير المصير” كان رهينا بساكنة الصحراء الغربية، ولم يكن مرتبطا بمفهوم “شعب الصحراء”. فكل اللوائح الصادرة عن الأمم المتحدة تتحدث عن “سكان أو ساكنة الصحراء”.
    • أن الوسيط الأممي جيمس بيكر في رده على المذكرة الجزائرية الواردة ضمن المرفق الثاني لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر عملا بقرار مجلس الأمن 1349 )2001(، المؤرخ في 27 أبريل 2001 في الفقرة 6 المتعلقة “بشعب الصحراء”، قد رد عليها بيكر من خلال تحليل المذكرة الجزائرية في الفقرة 6 أيضا :
    “وفيما يتصل بالقول إن الاتفاق لا يسمح “للشعب الصحراوي” )القوسين في النص الأصلي لجيمس بيكر( بممارسة حقه في تقرير المصير، تخطئ المذكرة )مذكرة الجزائر( عندما تدعي أن هذه، هي العبارة المستعملة رسميا، فالعبارات المستعملة في خطة التسوية برمتها هي “الصحراويون الغربيون” أو “سكان الصحراء الغربية” أو “شعب الصحراء الغربية”، علاوة على ذلك وعندما تشير المذكرة إلى “الصحراويين الحقيقين بوصفهم أقلية مغمورة بجمهور أخر من السكان”، تبدو وكأنها لا تعد من الصحراويين الحقيقيين إلا أولئك الذين يعيشون في مخيمات تندوف، وتغفل جزءا كبيرا من السكان الصحراويين الذين اختاروا البقاء في الإقليم الخاضع للإدارة المغربية وما زالوا يقيمون فيه، والأهم من ذلك أن المذكرة تغفل أن الاتفاق الإطاري ينص على إجراء استفتاء بشأن المركز النهائي للصحراء الغربية بعد خمس سنوات”.
    إن رد الوسيط الأممي جيمس بيكر، يؤكد بوضوح أن مخطط التسوية، استند إلى “سكان” و”ساكنة الصحراء”، وحتى في الحالات التي يتم فيها الحديث عن “شعب الصحراء”، فإن الإضافة الواردة في الجملة لا تحدد المقصود ب”الشعب” بشكل دقيق بقدر ما تؤكد أن “شعب الصحراء” هو “شعب” موزع بين مخيمات لحمادة والأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية.
    وأعتقد أن رد خبير، من مثل وحجم جيمس بيكر، يتجاوز الرد عن المذكرة الجزائرية، بقدر ما يؤسس لتوجه عام في التأويل. لكن المؤسف أن هذا التأويل الذي جرى ضمن القانون الدولي كما طورته الممارسة القانونية الدولية، في تدبيرها لنزاع الصحراء، يتم القفز عليه بشكل غير مبرر بمناسبة البث في القضايا المطروحة على محكمة العدل الأوروبية، ذلك أن رد بيكر أكد مسألة جوهرية وهي أن مقاربات الحكم الذاتي عبر الاتفاق الإطاري أو غيره من الحلول السياسية لا تمنح المغرب “صفة السيادة”، كما تدعي الجزائر، بقدر ما تستهدف معالجة المركز القانوني للصحراء بتخويلها حكما ذاتيا، على أن يخضع هذا الحكم الذاتي لاحقا لاستشارة استفتائية، وفق أهداف وميثاق الأمم المتحدة.
    هذا التأويل الذي أرساه جيمس بيكر من خلال تحليله للمذكرة الجزائرية، كفيل بتوضيح أن المقاربات التي نهجتها مثلا في الآونة الأخيرة محكمة العدل الأوروبية لرفض طعن المفوضية ومجلس أوروبا، استندت إلى حكم نهائي بشأن مركز إقليم الصحراء، والحال أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، صاحب الاختصاص الحصري، لم يتوصل بعد، عبر حلوله السياسية إلى تحديد المركز القانوني للصحراء، وبناء عليه، تكون قرارات محكمة العدل الأوروبية مبنية على خلفيات سياسية اختزالية، تعتبر ساكنة الصحراء المتواجدة بمخيمات لحمادة الوجه الوحيد لساكنة الصحراء بشكل عام، وبالتالي فإنها تستند بشكل عشوائي إلى إصدار حكم بشأن المركز القانوني للصحراء، في وقت لازالت الأمم المتحدة ومجلس الأمن، صاحب الاختصاص الحصري، يبحث عن حل سياسي يوضح من خلاله المركز القانوني للصحراء.
    ارتباط مخطط التسوية بـ”السكان” أو “الساكنة” سيتأكد من خلال الرأي الاستشاري لوكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية في رسالة موجهة بتاريخ 29 يناير 2002، جاء في الفقرة 9:
    “تضع المادة 73 من ميثاق الأمم المتحدة المبادئ الأساسية التي تسري على الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. فأعضاء الأمم المتحدة الذين اضطلعوا بمسؤوليات عن إدارة هذه الأقاليم أقروا بذلك المبدأ القاضي بأن مصالح سكان هذه الأقاليم تأتي في المقام الأول وقبلوا الالتزام بالعمل من أجل تحقيق أكبر قدر من الرفاهية لسكان هذه الأقاليم كأمانة مقدسة في أعناقهم”.
    فهذا الرأي الاستشاري بصرف النظر عما يتطلبه من تدقيق، فإنه يؤسس رأيه على مصالح سكان الإقليم، وليس على إرادتهم ولا على مفهوم “شعب”.

خامسا : الحكم الذاتي وأفق استكشاف الحل السياسي
تذهب بعض القراءات الانفعالية، ومن ذلك ما عبر عنه رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في معرض قوله، بأن الجمعية تؤيد موقف الأمم المتحدة الداعي إلى إعمال “مبدأ تقرير المصير” إلى النفي القطعي بكون “الحكم الذاتي” ضمن مداخل التفاوض السياسي بشأن الصحراء. والحال أن هذا القول مجانب للصواب، على اعتبار أن الأمم المتحدة، وإن أكدت على إعمال “تقرير المصير”، فإن شكله وأسلوب تنفيذه، ظل مفتوحا على إمكانيات التفاوض السياسي بين أطراف النزاع، وسنسعى من خلال هذه القراءة إلى بيان كيف تحول مقترح الحكم الذاتي، باعتباره أحد أشكال “تقرير المصير”، بمعناه الداخلي من خلال الفقرات الموالية.
في هذا الباب، سنسعى للتوضيح بأن خيار الحكم الذاتي، سواء عبر مقترح الأمم المتحدة المعنون بالاتفاق الإطاري، والذي تقدم به جيمس بيكر في أعقاب الموافقة المبدئية للمملكة المغربية في التنازل على بعض من صلاحياتها إلى جهة الحكم الذاتي، أو من خلال مخطط بيكر الثاني أو ما يعرف بمخطط سلام من أجل تقرير مصير “شعب الصحراء الغربية”، وصولا إلى المبادرة المغربية من أجل تخويل الصحراء حكما ذاتيا، قد تحول إلى إطار مرجعي وقانوني لأفق استكشاف حل سياسي.

  1. أفق استكشاف الحل السياسي
    بفعل التعقيدات الموضوعية المرتبطة بتنفيذ خطة التسوية، خاصة الجوانب المرتبطة بتحديد الهوية، ستبدأ الأمم المتحدة عبر الممثل الخاص الأمين العام، في استكشاف إمكانات البحث عن حل سياسي متوافق بشأنه، شريطة أن تكون المملكة المغربية باعتبارها “السلطة القائمة بالإدارة”، مستعدة للتنازل، عن بعض من سلطاتها لساكنة الإقليم، كما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 25 أكتوبر 2000 عملا بالقرار 1309(2000).
    ابتداء من تاريخ صدور القرار 1301(2000)، في 31 ماي 2000، والقرار 1324(2000)، والقرار 1342 (2001)، و القرار 1349 (2001)، تم التأكيد بشكل متكرر على أن الأمم المتحدة تتوقع من الطرفين أن يقدما إلى المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة مقترحات محددة وملموسة، يمكن الاتفاق عليها من أجل حل المشاكل المحددة المتعلقة بتنفيذ خطة التسوية، واستكشاف جميع السبل والوسائل من أجل التوصل في وقت مبكر، إلى حل دائم ومتفق عليه لنزاعهما على الصحراء الغربية.
    وفي تقريره الصادر بتاريخ 9 فبراير 2002 عملا بالقرار 1380(2002)، جاء في الفقرة 37: “وفي ختام هذه المشاورات، رأى مبعوثي الشخصي، وأشاطره الرأي، أن عقد اجتماعات أخرى بين الطرفين من أجل البحث عن حل سياسي لن يأتي بنجاح، بل قد يأتي بعكس المرام، ما لم تكن حكومة المغرب بصفتها السلطة الإدارية في الصحراء الغربية، مستعدة لتقديم أو تأييد تفويض لجزء من السلطة الحكومية لجميع السكان، والسكان السابقين في الإقليم بشكل حقيقي وملموس ويتفق مع المعايير الدولية”.
  2. الحكم الذاتي كإطار للحل السياسي
    بناء على القرار 1359(2001) المعتمد في 29 يونيو 1 200وبعد موافقة المملكة المغربية المبدئية على مشروع الاتفاق الإطاري، بدأ الحديث عن حل سياسي وفق مشروع الاتفاق الاطاري. وجاء في نص القرار: “وإذ يأخذ في عين الاعتبار أيضا مشروع الاتفاق الإطاري، بشأن مركز الصحراء الغربية الوارد في المرفق الأول لتقرير الأمين العام والذي ينص على تفويض قدر كبير من السلطة ولا يستبعد تقرير المصير”.
    تتكون وثيقة مشروع الاتفاق الإطاري الواردة ضمن المرفق الأول من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر بناء على القرار 1359(2001)، والمعتمد في 29 يونيو 2001، من سبعة مواد أساسية، توضح هياكل ممارسة السلطة في الصحراء الغربية، سلطة الحكم الذاتي، سلطات الدولة المغربية، مكونات السلطة التنفيذية بالصحراء، تدابير مواجهة مناط التنازع بين السلطة التنفيذية بالصحراء والسلطة المركزية بالرباط.
    يوقع مشروع الاتفاق الإطاري بين المملكة المغربية وجبهة البوليساريو والجزائر وموريتانيا، تحت رعاية كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
    وافتقدت وثيقة مشروع اتفاق إطاري بشأن مركز الصحراء الغربية، أو مخطط بيكر الأول للهندسة والبناء القانوني، وانعدمت فيها الاعتبارات والديباجة المؤطرة للصلاحيات والاختصاصات.
    كما رفضت جبهة البوليساريو مشروع الاتفاق الإطاري ورفعت مذكرة تفصيلية بشأن المقترح، ترد ضمن المرفق الأول المضمن في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، الصادر عملا بقرار مجلس الأمن 1380(2001) المؤرخ 27 نونبر 2001.
    ورفضت الجزائر مشروع الاتفاق الإطاري بموجب التعليقات الواردة في المرفق الثاني من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر عملا بقرار مجلس الأمن 1380(2001) المؤرخ 27 نونبر 2001.
    كما بعث المغرب بتعليقاته على موقفي البوليساريو والجزائر والواردة ضمن المرفق الثالث من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر عملا بقرار مجلس الأمن 1380(2001) المؤرخ27 نونبر 2001، مؤكدا أن جبهة البوليساريو إذ ترفض للمغرب حق تفويض أي سلطة للسكان، فهي بذلك تعارض الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الذين اقترحا، أن يفوض المغرب بوصفه السلطة القائمة بالإدارة، عددا معينا من السلطات المذكورة في مشروع اتفاق الاطاري (تعليقات الحكومة المغربية، المرفق الثالث).
    بعد رفض الجزائر والبوليساريو، لمشروع الاتفاق الاطاري، بشأن مركز الصحراء الغربية، تقدم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، بعد جولة من المفاوضات بمشروع وثيقة جديدة سميت بمخطط بيكر الثاني أو خطة “سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، ضمن المرفق الثاني من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، الصادر عملا بقرار مجلس الأمن 1469(2003) بتاريخ 25 مارس 2003.
    تتكون الوثيقة، “خطة سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، من 23 مادة و 4 فصول رئيسية موزعة على الشكل التالي: أولا الغرض أو الأهداف، ثانيا استفتاء تحديد المصير، ثالثا السلطة في الصحراء الغربية، رابعا الأمور الأخرى.
    يعتبر مشروع وثيقة خطة “سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، محاولة للدمج بين الحل السياسي ومخطط التسوية (أنظر المواد 5 و 6) بما فيها نتائج القوائم النهائية للهيأة الناخبة.
    بتاريخ 14 يناير 2003، تقدمت المملكة المغربية بملاحظاتها حول المشروع، مؤكدة أنه إذا كان المبعوث الخاص مكلفا من المجلس باقتراح حل سياسي، يضمن حق تقرير المصير، فإن الممارسة الدولية تبين إلى حد كبير، أن الاستشارة الديموقراطية، بشأن المركز القانوني المتفاوض بشأنه بين الطرفين لإقليم من الأقاليم، تتيح للسكان تقرير مصيرهم وتستند هذه الممارسة إلى قرار الجمعية العامة 1514 (د15) المؤرخ في 5 دجنبر1960، وإلى إعلان مبادئ القانون الدولي، المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفق لميثاق الأمم المتحدة، المرفق بقرار الجمعية العامة 2625(د25) المؤرخ 24 دجنبر 1970، والذي ينص على أن خيارات استقلال شعب أو ارتباطه أو اندماجه أو اكتسابه أي مركز سياسي آخر، يحدده بنفسه بحرية، إعمالا من جانبه لحقه في تقرير مصيره.
    إن الاتفاق الإطاري بشأن مركز الصحراء الغربية، الذي اقترحه المبعوث الخاص في يونيو 2001 بصيغته النهائية، سيعرض على موافقة السكان عن طريق استشارة استفتائية (المرفق الأول من التقرير S/2001/613 المؤرخ 20 يونيو 2001.
    إن المبعوث الشخصي، كان قد أعلن قبل أن يبادر إلى اقتراح الاتفاق الاطاري، أنه يعتقد أن “تقدما ملموسا قد تحقق نحو التحديد ما إذا كانت حكومة المغرب، بوصفه الدولة القائمة بالإدارة في الصحراء الغربية، على استعداد لعرض أو تأييد نوع من انتقال السلطة إلى جميع سكان الإقليم وسكانه السابقين وهو أمر أصيل وجوهري ويتماشى مع القواعد الدولية، “الفقرة 19 من التقرير S/2001/398 بتاريخ 24 أبريل 2001”
    إن عنوان الوثيقة خطة “سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، يقتصر على جانب من جوانب الولاية المنصوص عليها في القرار 1429 ويتغاضى عن السعي إلى إيجاد حل سياسي، يعطي لتقرير المصير في الحالة الراهنة كامل مدلوله.
    لم تكتفي ملاحظات المملكة المغربية بالتركيز على الإطار العام للوثيقة، بل شككت في نزاهة ومصداقية المعايير المعتمدة للبث في الهيئة الناخبة، والتي حددتها الوثيقة في ثلاث فئات، وجددت المملكة في ختام ملاحظاتها التزام المغرب بالحوار والتفاوض كوسيلة للتسوية السلمية الدائمة للنزاع حول الصحراء، في ظل احترام السلامة الإقليمية لدول منطقة المغرب العربي، وفقا للشرعية الدولية.
    بتاريخ 26 فبراير 2003، وجّه رئيس الجمهورية الجزائرية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يعرب فيها عن تأييد الجزائر الخطة، مع تقديم بعض الملاحظات بشأن: الفترة التمهيدية ومدتها سنة واحدة قبيل انتخاب سلطة الصحراء الغربية، ومسألة المسجونين، ومسألة اللاجئين، ومسألة قوات الطرفين، والفترة الواقعة بين انتخاب سلطة الصحراء الغربية وإجراء الاستفتاء على الوضع النهائي للإقليم، والاستفتاء المتعلق بالوضع النهائي للإقليم، والضمانات المتعلقة بحسن تنفيذ الخطة.
    بتاريخ 8 مارس 2003 وجهت جبهة البوليساريو رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تؤكد فيها، أن المبعوث الشخصي حاول أخذ بعض الشواغل التي عبر عنها الطرفان في الاعتبار. ورغم أنها قدمت عددا من الملاحظات والتعليقات على الخطة فإنها وافقت عليها.
    بعد رفض المغرب لمشروع “خطة سلام من أجل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”، عاد مجلس الأمن بموجب القرار 1570 (2004) الصادر بتاريخ 28 أبريل 2004 إلى تأكيد التزامه بمساعدة الطرفين على التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين يضمن تقرير مصير شعب الصحراء الغربية في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده. وبذلك، لم يعد مطلب تقرير المصير مرتبطا بإعمال مخطط التسوية ولا بمخطط بيكر الثاني، بقدر ما أصبح مفتوحا على الاجتهادات المبتكرة، التي تنتصر للسلم والأمن الدوليين وتتماشى مع الشرعية الدولية.
  3. في المبادرة المغربية لتخويل الصحراء حكما ذاتيا
    في 11 أبريل 2007، سلّم المندوب الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تتضمن وثيقة مشروع “المبادرة المغربية للتفاوض على وضع الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء” والتي وصفها قرار مجلس 1754 الصادر بتاريخ 30 أبريل 2007 “بالجدية والمصداقية”.
    يتألف مشروع “المبادرة المغربية بشأن التفاوض للتخويل الصحراء حكما ذاتيا” من ثلاثة فصول و 35 مادة موزعة على الشكل التالي: أولا التزام المغرب بالعمل على إيجاد حل سياسي، ثانيا العناصر الأساسية للمقترح المغربي، ثالثا مسار الموافقة على نظام الحكم الذاتي وتفعيله…
    وجاء في المادة 27 من المشروع: “يكون نظام الحكم الذاتي للجهة موضوع تفاوض، ويطرح على السكان المعنيين بموجب استفتاء حر، ضمن استشارة ديمقراطية، ويعد الاستفتاء، طبقا للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، بمثابة ممارسة حرة من لدن هؤلاء السكان، لحقهم في تقرير المصير”.
    خضع إعداد نص المبادرة المغربية بشأن التفاوض لتخويل الصحراء حكما ذاتيا، لحوار وطني واسع شاركت فيه الأحزاب السياسية وممثلو الأمة، وهيئات المجتمع المدني والمجلس الملكي للشؤون الصحراوية، كما حرص معدوه على استلهام مقترحات الأمم المتحدة ذات الصلة، والأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيا وثقافيا.
  4. الحكم الذاتي والمرجعية القانونية للتفاوض بشأن الصحراء
    شكل تقديم مبادرة الحكم الذاتي في أبريل 2007، منعطفا جديدا في المرجعية القانونية المؤطرة للنزاع، وهكذا أصبحت كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن إلى غاية القرار الأخير 2756 )2024(، تستند إلى القرار 1754 )2007(، وتؤكد على ضرورة التوصل لحل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين، على أساس من التوافق، يكفل لشعب الصحراء الغربية تقرير مصيره في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده، مع التأكيد في جميع القرارات على تأييده للتوصية التي وردت في التقرير المؤرخ بتاريخ 14 أبريل 2008 (S /2008/251)، والتي جاء فيها :
    “تحلي الطرفين بالواقعية والرغبة في التسوية أمر ضروري لإحراز تقدم في المفاوضات، ويشجع البلدين المجاورين على تقديم إسهامات هامة وفعالة في هذه العملية، ويشدد على أهمية أن تسهم جميع الأطراف المعنية في عرض تفاصيل مواقفها من أجل التوصل إلى حل”. أنظر على سبيل المثال القرار 2654)2022(،2548)2020(،2440)2018(،2351)2017(،2285)2016(.
    والملاحظ أن هذا التحول المفصلي في المرجعية المؤطرة للحل السياسي، والذي انطلق بعد تقديم المغرب لمقترح الحكم الذاتي في 10 أبريل 2007 في تجاوب من المملكة مع نداءات المنتظم الدولي، لتجاوز حالة الجمود، الناجمة عن فشل مخطط التسوية، ارتبط أيضا بالدينامية غير المسبوقة التي أطلقها الوسيط الأممي بيتر فان فالسوم من خلال نهجه لأطروحة التركيز والملاءمة بين الشرعية الدولية والواقع السياسي.
    إن تحول مبادرة الحكم الذاتي، كمضمون لحل سياسي إلى إطار مرجعي لمختلف القرارات الصادرة عن مجلس الأمن تؤكده تقارير الأمين العام والقرارات ذات الصلة، جاء في باب الملاحظات والتوصيات من تقرير الأمين العام الأخير الصادر بموجب القرار 2703 )2023( الفقرة 89:
    “غير أن ذلك يتطلب من جميع المعنيين أن ينخرطوا بحسن نية وبروح من الانفتاح وأن يمتنعوا عن وضع شروط مسبقة وأن يسهبوا في عرض مواقفهم بهدف التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم يقبله الطرفان”
    وجاء في ديباجة ونص القرار 2654 )2022(:
    “وإذ يشجع الطرفين في هذا السياق على إظهار المزيد من الإرادة السياسية للمضي قدما صوب التوصل إلى حل، وذلك بطرق منها توسيع نطاق نقاشهما حول ما يطرحه كلاهما من مقترحات”
    قبل أن يؤكد القرار في الفقرة 09:
    “ويشدد على أهمية أن تسهم جميع الأطراف المعنية في عرض تفاصيل مواقفها من أجل التوصل إلى حل”.
    كما أن الوسيط الأممي دي ميستورا، طالب خلال زيارته إلى الرباط ولقائه بوزير الخارجية، بتقديم تفاصيل مضمون مبادرة تخويل الصحراء حكما ذاتيا، مما يؤكد أن المقترح المغربي مطروح وبقوة ضمن الإمكانات الفعلية للتوصل لحل عادل ومقبول يوفر السلم للفضاء المغاربي والساحل والصحراء.
  5. أشكال وأساليب إعمال تقرير المصير
    إن الدعوة إلى “تقرير مصير شعب الصحراء الغربية” ظلت مفتوحة على كل الوسائل والاجتهادات المبتكرة التي تتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده، كما يتأكد ذلك سواء من بعض قرارات الجمعية العامة أو ملاحظات واستنتاجات الوسيط الخاص للأمين العام. فقد جاء في القرار 67/129 بشأن مسألة “الصحراء الغربية” المتخذ من طرف الجمعية العامة في 18 دجنبر 2012 (A/67/413) في سياق اعتبارات القرار التنصيص على تعدد خيارات وأساليب تقرير المصير.
    ” وإذ تسلم بأن جميع الخيارات المتاحة لتقرير مصير الأقاليم، خيارات سليمة ما دامت تتفق مع الرغبات التي تعرب عنها الشعوب المعنية بحرية، وتتوافق مع المبادئ المحددة بوضوح في قراري الجمعية العامة 1514(د15) و1541 (د15) المؤرخين 15 دجنبر 1960″ وغيرهما من قرارات الجمعية.
    كما جاء في تقرير الأمين العام المقدم بموجب قرار مجلس الأمن 1301 (2000) المؤرخ 31 ماي 2000 في الفصل الرابع الخاص بالملاحظات والتوصيات، ما يفيد أن تقرير المصير بأفق حل سياسي، يبقى مفتوحا على الاجتهادات المبتكرة، الفقرة 29:
    “ويمكن للحل السياسي كما بين المبعوث الخاص للطرفين أن يتخذ أشكالا عدة، غير أن أهم ما في الأمر عدم اللجوء إلى الخيار العسكري، إذ يمكن التوصل إلى اتفاق عن طريق التفاوض يتم بموجبه “إدماج الصحراء الغربية” على نحو كامل في المغرب، أو اتفاق تفاوضي يمنحها الاستقلال الكامل أو اتفاق تفاوضي يأتي بحل وسط أو اتفاق تفاوضي يسمح بتنفيذ خطة التسوية”.
    وفي تقرير الأمين العام (S/2006/249) الصادر بموجب القرار 1634 (2005) وعلى إثر الجولة الاستكشافية التي قادها الوسيط الأممي فالسوم في الفترة بين 11 و 17 أكتوبر 2006 إلى المنطقة، أفاد أن المسألة لا تزال تواجه طريقا مسدودا ولا يزال هناك عدم اتفاق تام بشأن كيفية تمكين “سكان الصحراء الغربية” من ممارسة حقهم في تقرير المصير (الفقرة 6 التقرير(S/2006/49) والملاحظ أن الفقرة تؤكد ضمنيا على تعدد أشكال وأساليب إجراء تقرير المصير.
    وفي جواب مبطن على سعي الجزائر والبوليساريو، في حصر مفهوم تقرير المصير في إجراء الاستفتاء، وانطلاقا من القاعدة العامة الموجهة لمجلس الأمن والتي تفيد بأنه لا يمكن التوصل لأي حل لمسألة “الصحراء الغربية”، إلا من خلال التوافق في الآراء، استنتج المبعوث الشخصي للأمين العام السيد فالسوم كما وارد في الفقرة 34 من الفصل الخاص من الملاحظات والتوصيات.
    تقرير (S/2006/249):
    ” لدى فإن الخيار المتبقى، هو اللجوء إلى إجراء المفاوضات المباشرة التي ينبغي إجراؤها دون شروط مسبقة وينبغي أن يكون الهدف منها هو إنجاز ما ليس بوسع خطة أخرى إنجازه، أي التوصل إلى حل توفيقي بين الشرعية الدولية والواقع السياسي، يكون من شأنه التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول لدى الطرفين، ينص على تقرير “المصير لشعب الصحراء الغربية””.
    إن مقترح بيتر فان فالسوم الوارد في سياق الإحاطة، التي قدمها لمجلس الأمن بتاريخ 18 يناير 2006، والمتضمنة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة (S/2006/249)، يؤكد من خلال الدعوة إلى التوفيق بين الشرعية الدولية والواقع السياسي، على تعدد أشكال وأساليب تقرير المصير وعدم انحصارها في مضمون محدد… بل إن فالسوم قال خلال إحاطته أمام مجلس الأمن بتاريخ 18 يناير 2006:
    ” أصبحت أكثر إدراكا لوجود قوى من خارج المنطقة تعمل على تصليب المواقف ضد خيار إجراء المفاوضات”.
    الفقرة 39 تقرير (S/2006/249).
    ” وفي أعقاب قرار مجلس الأمن 1675 (2006) الذي مدد ولاية بعثة المينورسو لأكثر من 6 أشهر، اشتغل الوسيط الأممي بيتر فان فالسوم لإيضاح موقفه بشأن العلاقة بين الشرعية الدولية والواقع السياسي فقد جاء في تقرير الأمين العام (S/2006/817)، الفقرة 15:
    ” لكن مبعوثي الشخصي في اتصالاته مع الطرفين والدولتين الجارتين على مدى الأشهر الستة الماضية، بين أن قوله بأن مجلس الأمن قد استبعد حلا لمسألة “الصحراء الغربية” لا يقوم على رضى الطرفين، لا يعني ضمنا تضائلا في احترام الشرعية الدولية، ذلك أن الشرعية الدولية كما يرى هو، أعم من قرار الجمعية العامة 1514 (د15)، وأنها تشمل على وجه الخصوص، ميثاق الأمم المتحدة. إن الميثاق هو الذي نص على أن قرارات الجمعية العامة لا تجد طريقها إلى التنفيذ المباشر، فيما منح مجلس الأمن السلطة الخالصة للبث في ما إذا كان أي نزاع ينبغي النظر فيه في إطار الفصل السادس (حل النزاعات سلميا) أو في إطار الفصل السابع (الإجراءات فيما يتعلق بحالات تهديد السلم ووقوع العدوان). وإذا ما أعمل مجلس الأمن تلك السلطة واختار الفصل السادس فإنه يتصرف وفقا للشرعية الدولية …”.
    وفي سعيه لحلحلة حالة الجمود التي يعرفها ملف الصحراء، وانطلاقا من رؤية منسجمة بين الشرعية الدولية والواقع السياسي، قال الوسيط الأممي بيتر فان فالسوم في إحاطة قدمها لمجلس الأمن بتاريخ 21 أبريل 2008: “استقلال الصحراء الغربية خيار غير واقعي”، القدس العربي عدد 5875 – 24 أبريل 2008. مجددا دعوة الدول الخمس عشرة الأعضاء في المجلس إلى التوصية بمواصلة المفاوضات مع الأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي والشرعية الدولية”.
    وجراء هذه الإحاطة التي تميّزت بالجرأة والتحول النوعي، قال مـحمد عبد العزيز، الأمين العام لجبهة البوليساريو: “إن تصريحات المبعوث الشخصي للأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للصحراء الغربية”، بيتر فان فالسوم، تقصيه تلقائيا من صفة الوساطة وتشجع على عودة المواجهات”.
    وأضاف مـحمد عبد العزيز: “لا تمثل تصريحات فان فالسوم إلا شخصه، وتجرّده من أهليته للوساطة التي تلزمه بالإشراف على المفاوضات، والتي تدعو إلى تطبيق لوائح مجلس الأمن”. وردّت الناطقة الرسمية باسم الأمين العام للأمم المتحدة ميشل مونطاس: “أن ممثله الشخصي بيتر فان فالسوم مؤهّل بصفته وسيطا دوليا في المفاوضات حول الصحراء لتقديم استنتاجاته الخاصة واقتراحاته لمجلس الأمين بغية إخراج هذا الملف من المأزق الحالي”، القدس العربي عدد 5875 – الخميس 24 أبريل 2008.
    وعلى الرغم من انتهاء ولاية المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة “بيتر فان فالسوم” في غشت 2008 على وقع جدل كبير حول أشكال وأساليب تحقيق مبدأ تقرير المصير، والعلاقة بين الشرعية الدولية والواقع السياسي، فإن تعيين الوسيط الأممي كروستوف روس لم يغيب استمرار الجدل حول شكل ومضمون تقرير المصير. فقد جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة (S/2014/258) الصادر بموجب القرار 2099 (2013) المؤرخ في 25 أبريل 2013 في الفقرة 19 في معرض تناوله جولة روس للمنطقة في الفترة الممتدة بين 12 و25 أكتوبر 2013.
    “وأوضح للطرفين كليهما والدول المجاورة أن المناقشات المقبلة جديرة بأن تتناول الجانبين الحيويين كليهما لتوجيهات المجلس المتكررة أولا –حل سياسي جوهري يقبله الطرفان”، والوسائل التي يمارس بواسطتها “شعب الصحراء الغربية تقرير المصير”.
    كما أن الفقرة 21 من نفس التقرير السالف، تؤكد بما لا يدع مجالا الشك، تعدد أشكال ومضامين تقرير المصير، حيث جاء في معرض رد الوسيط الأممي، روس، على جبهة البوليساريو أثناء زيارته لمخيمات لحمادة ما يلي:
    “وفي الوقت نفسه شددوا (البوليساريو) على أن أي حل عن طريق التفاوض يجب أن يحترم الحق غير القابل للتصرف “لشعب الصحراء الغربية” في تقرير المصير عن طريق استفتاء يقوم على ثلاثة خيارات. وأجاب مبعوثي الشخصي بأنه لئن حدد مجلس الأمن تقرير المصير بوصفه إحدى المسألتين الرئيسيتين اللتين يتعين التطرق لهما، فإنه لم يحدد الشكل الذي يمكن أن يتخذه تقرير المصير”.
    وفي الفقرة 25 من نفس التقرير، وفي سياق المشاورات التي أجراها “روس” مع أعضاء فريق الأصدقاء في الفترة الممتدة بين نونبر 2003 ومارس 2014:
    “ألتمس من محاوريه تأييدا متجددا لنهجه الجديد ولتأكيده ضرورة أن يعالج الطرفان على السواء جوهر حل سياسي مقبول لدى الطرفين، والوسائل اللازمة لممارسة حق تقرير المصير”.
    إن إشكالية التوفيق بين مطلب حل سياسي عادل ودائم وشكل أو أسلوب تقرير المصير، هي التي أطّرت استنتاجات الوسيط الأممي السابق بيتر فان فالسوم في خلاصاته الداعية إلى التوفيق بين الشرعية الدولية والواقع السياسي، وأعتقد أن هذا المطلب يتطلب مجهودا فكريا وفقهيا كبيرا.
  6. عود على بدء: ضمانات نجاح مبادرة تخويل الصحراء حكما ذاتيا
    أ‌. في موضوع التجزئة
    بعد جفاء، دام لسنوات، عادت فرنسا خلال السنة الماضية للتأكيد في أكثر من مناسبة بما فيها خلال زيارة ماكرون إلى المغرب، على أن فرنسا تعتبر “أن حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية”. وإذا كانت الدولة المغربية وعدد من القوى الحية، قد تلقت الموقف الفرنسي بنوع من الارتياح، فإن موقف فرنسا مع ذلك لازال محكوما بنوع من الالتباس والغموض، وعليه ألا يحق لنا كمتتبعين، أن نتساءل لماذا حصرت فرنسا موقفها من الصحراء في الحاضر والمستقبل؟
    ألم تكن فرنسا الراعي الرسمي لمخطط التجزئة الذي طال المغرب ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر؟ ألم تلعب فرنسا دورا محوريا في توزيع المغرب بين مناطق نفوذ متعددة؟ هل كان التقسيم الذي خضع له المغرب بين النفوذ الاسباني والفرنسي، نتاج طبيعي لمراكز القوى الغربية وضرورات المجال الحيوي الاسباني بالشمال والجنوب، أم كان ضمن رؤية استراتيجية، سعت إلى وضع أكثر من سيناريو لتجزئة المغرب، باعتباره من جهة بلاد المغارب التي هددت تاريخيا التواجد الغربي بالجزيرة الإيبيرية، فضلا عن كون المغرب بامتداده التاريخي وانفتاحه عن عمقه الإفريقي، كان يشكل حجر عثرة أمام طموحات الدول الاستعمارية؟
    كيف نفهم حرص فرنسا على دعم وإسناد إسبانيا لتمكينها من احتلال إقليم الصحراء بعدما كان الاسبان متقوقعين في الساحل الاطلسي؟
    لماذا حرصت فرنسا على إدارة تندوف والصحراء الشرقية، انطلاقا من أكادير، ولماذا كانت تطمح لإنشاء كيان صحراوي يجمع بين الصحراء الشرقية وأجزاء من الصحراء الغربية مع منفد على أكادير؟
    لماذا ترددت حتى بعد الاستقلال على تقديم الخرائط والإحداثيات الخاصة بترسيم إتفاقية للا مغنية إلى المغرب، في حين لم تتردد في تسليمها إلى السلطات الجزائرية؟
    ألم تستعمل فرنسا إشكالات الحدود على مدار سنوات لإدارة الاستنزاف والاستنزاف المضاد لمقدرات الشعبين المغربي والجزائري؟
    هل هناك تحول فعلي في الموقف الفرنسي؟ وما هو ثمن هذا التحول؟ وما علاقة هذا التحول بطبيعة انتقال الحكم في المغرب مستقبلا؟ ولماذا تصر باريس بمناسبة دعوتها لتجديد العلاقات الاستراتيجية للبلدين بالذكرى المئوية لمعاهدة “لاسيل سان كلو”؟ كيف يمكن تجديد الاتفاقات الاستراتيجية بين البلدين على قاعدة الندية وبما يضمن استقلالية وسيادة القرار المغربي؟
    وإذا كانت فرنسا خلال سنوات الجفاء مع الرباط، تنظر إلى المغرب باعتباره جهة داعمة لحركات الرفض الافريقي للتواجد الفرنسي، فكيف ستنظر اليوم بلدان إفريقيا لموقف المغرب الجديد؟ علما أن جهات وأصوات عدة تسعى للتشكيك في التواجد المغربي بعمقه الإفريقي وتعتبره مجرد راعي جديد لمصالح فرنسا.

ب‌. في ضمانات نجاح مبادرة الحكم الذاتي
• لاشك أن الممارسة الدولية، قد أكدت في أكثر من مناسبة أهمية تقرير المصير، بمعناه الداخلي، بالنظر لما يوفره من إمكانات للسكان في تدبير شؤونهم ومصالحهم، والسعي بحرية إلى تحقيق نمائهم الاقتصادي والاجتماعي… إلا أن “الحكم الذاتي” باعتباره نهجا خلاقا للتوفيق بين مبدأ تقرير المصير والحق في سلامة الوحدة الترابية للدول، يحتاج إلى ضمانات الديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون، ففي غياب هذه المنظومة المتكاملة، فإن الحكم الذاتي كخيار سياسي للحفاظ على الوحدة، يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى انفصال. فالديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون هي الضمانة الأساسية لوحدة الأوطان، على هذه القاعدة نتساءل :
ما هي ضمانات نجاح “مبادرة تخويل الصحراء حكما ذاتيا”؟ إلى أي حد تمكن المغرب، من خلال نهجه “للجهوية المتقدمة” وتجديد النموذج التنموي للأقاليم الصحراوية من إعادة هيكلة الإقليم وتأهيله على المستوى المؤسساتي والبشري للانتقال نحو تنزيل مبادرة تخويل الصحراء حكما ذاتيا؟
وإذا كان النموذج التنموي الموقع أمام جلالة الملك، قد مكن الإقليم من خلق تحول هيكلي، على مستوى البنيات الأساسية، يؤهله للتحول إلى منصة للربط الأطلسي والوصل مع إفريقيا والساحل والصحراء، إلى أي حد توفق على مستوى تأهيل الرأسمال البشري، خاصة البنيات التمثيلية والهياكل المنتخبة الممثلة للساكنة؟ ألم تشهد السنوات الأخيرة نوعا من الاحتكار والتأميم المسبق للبنيات والهياكل المنتخبة؟ ألا يشتكي بعض الصحراويين من تراجع سلطة الدولة مقابل تضخم نفوذ بعض المجموعات المستفيدة من تأميم التمثيلية المواطنة؟
ألا تتطلب ضمانات نجاح مبادرة الحكم الذاتي جيلا جديدا من الإصلاح السياسي والمؤسساتي الذي يسمح بتعزيز حكم القانون ويؤسس لجهوية بمضمون سياسي، يمكن السكان من إدارة شؤونهم عبر مؤسسات تنفيذية وتشريعية؟
وبالنظر إلى كون تقارير مجلس الأمن وملاحظات المفوضية السامية لحقوق الإنسان، كانت ولازالت إلى جانب إشادتها بعمل المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية، تطالب بتعزيز حقوق الإنسان وحماية الرأي المخالف، بالنظر إلى ما سلف، كيف يمكن حماية تحدي الرأي المخالف، بما يضمن الحق في الاختلاف ويعزز جاذبية ومشروعية الحكم الذاتي سواء لدى المنتظم الدولي، أو لدى الفئة التي لازالت مرتبطة بخيار الانفصال؟
بالنظر إلى الدينامية التي يعرفها مقترح الحكم الذاتي لدى المنتظم الدولي، ماهي طبيعة المقاربة التي ينبغي نهجها اليوم سواء داخل مجلس الأمن أو لدى مراكز الضغط من أجل بلورة استراتيجية جديدة تجعل من خيار الحكم الذاتي خيارا أوحد لحل النزاع؟
ألم يحن الوقت لإخراج الملف من اللجنة الرابعة؟
ألا تتطلب الدينامية الجديدة بدل جهود موازية لمراجعة اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، لتشمل الأقاليم الجنوبية؟
وبالنظر إلى الالتباس المرتبط بمجال “إقليم الصحراء”، كيف يمكن تصور نطاق تنزيل مبادرة الحكم الذاتي؟ فهل سنكتفي بتجميع “الإقليم” موضوع النزاع في إطار جهة واحدة؟ أم نعمل على توسيع نفوذ “إقليم الصحراء” بمعناه العام بما في ذلك جهة كلميم واد نون؟
وفي حالة إذا ما استندنا إلى طبيعة الإقليم، من حيث تعريف القانون الدولي، في ترسيم جهة الحكم الذاتي، كيف سنتعاطى حينئذ مع التحديات الترابية والاجتماعية والثقافية التي يمكن أن تنشأ بجهة كلميم واد نون؟ ألا تتطلب ضمانات حماية جهة الحكم الذاتي في علاقتها بإقليم النزاع جهودا جبارة وغير مسبوقة لإعادة تأهيل جهة كلميم وتحويلها إلى مركز استقطاب مؤثر في جهة الحكم الذاتي بما يضمن التنمية الانسانية ويحول دون امتداد نزعات الانفصال؟ وهل يمكن لجهة واد نون دون إسناد من جهة سوس أن تقوم بدور مركزي للاستقطاب والتحكم في جهة الحكم الذاتي؟

ج. في السلم والأمن الدوليين
يخضع تدبير النزاع الإقليمي في الصحراء إلى مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة المرتبطة بضمانات حماية السلم والأمن الدوليين، ومن أجل ذلك تحرص كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، من حيث الاعتبارات والديباجة على التأكيد على أهمية التوصل إلى حل سياسي كمدخل للبناء المغاربي وما يرتبط به من فرص لبناء مسارات السلم بالساحل والصحراء، وفي هذا السياق، فإن المملكة المغربية، وهي تقدم مشروع مبادرة لتخويل الصحراء حكما ذاتيا، كانت ولازالت تراهن على تحرير الفضاء المغاربي من كل الإشكالات التي حالت وتحول دون تحرير مقدرات الفضاء المغاربي وتسخيرها بشكل جماعي في اتجاه تعزيز التنمية والرفاه الإنساني، مع ما قد يترتب عن وحدة الفضاء المغاربي من إمكانات متجددة لإخراج منطقة الساحل من دوامة النزاعات المسلحة وضغوط الجريمة المنظمة والحركات الجهادية المسلحة، وما مشروع التجمع الأطلسي ومشروع الانفتاح على الساحل والصحراء، إلا مبادرات معززة لإمكانات البحث عن حل سياسي واقعي يحرر مقدرات الشعوب المغاربية ويعزز السلم في ضفتي البحر الأبيض المتوسط.