عن “معاركَ” يخسر فيها الجميع
أما وقد وصلنا إلى النشر، ضمن أساليب “القصف الغاشم”، في مواقع “البورنو”، فما عاد من كلام مناسب ومتّزن.
نكتب باستمرار، ولا نزال نأمل بقيّة تعقّل، عن وجوب وقف السفك الجاري لشعورنا بالاطمئنان لشيء اسمه وطنٌ جامع يتقبّل كل خلافاتنا، وحتى تناقضاتنا، ويحوّلها إلى عامل قوةٍ وتغذيةٍ لحوار مجتمعي واجبٍ، لكن، على ما يبدو، نكون كمن يكتب على الماء.
وهل يدرك المالكون لفائض جرأة ( في غير محلّها) وتفلّت من كل مسؤولية أخلاقية ما يفعلون في بلد عظيم، على الأقل في نفوسنا، حين يجعلون ما يفترض أنه محميٌّ بالقانون فرجةً في المواقع الإباحية، أو يوهمون أنه جزءٌ من وثائق مرئية نظر فيها القضاء؟
آسف أن نكتب، بدورنا، بلغةٍ فضائحية تعبّر عن فجائعية استوْطَنت النفس بعد كل هذا الهدر في الزمن لأن نكون أفضل.
لست في وارد أن أزايد على أحد، ولا أتّهم أحداً، في غياب الدليل عمّن صدرت هذه الحماقة، وما دام واضحا أنه خلال التحقيق والمحاكمة يوجد متدخلون بلا حصر تعاملوا مع أدلة جرى الحكم بإتلافها، ونظرياً يمكن تسريبها قبل أو بعد الحكم بإتلافها، ومادام لا أحد جزم أن تلك المشاهد فعلا جزءٌ من القضية وإن نُسِبت إلى أطراف محاكمة منظورة.
كما لا أدافع عن أحد وقد صار لكل واحدٍ لسانٌ ومجالٌ و”حُريّة” ليدافع عن نفسه، بقدر انشغالي بالتنبيه إلى خطورة هدم ممكنات تدبير اختلافاتنا بشكل سويّ.
لكن من حقّ أي أحد أن يسأل، على افتراض صحّة تلك المشاهد مادم لم ينفِها أحد: كيف وصل فيديو كان ضمن عناصر محاكمة، انتهت بحكمٍ آمرٍ بإتلافها، إلى المواقع الإباحية، وصار الناس يتناقلون رابطه لمزيد من الإيذاء لأنفسنا كأنّ الذي فينا لا يكفينا؟
ومن حق أي أحد أن يعرف، على افتراض أن تلك المشاهد غير ذات علاقة بالأطراف: ألن يُفتح تحقيق لنعرف كيف هبطت نفسٌ أو نفوسٌ “أمّارة بالسوء” وانتظرت “اللحظة الحاسمة” لممارسة التشويه؟
دوما أجدني مهموماً بتحرّي الوقوف في مساحة العقل، مع استنتاجِ أكيدٍ أن التنطع يُبعد التسويات ويؤزّم العلاقات، ويؤجج الخصومات.. وفي شأن الأوطان يبني حيطاناً عالية من الصدود والردود الموغلة في الإيذاء للنفس والغير. لكن ما كل مرة تسلم الجرّة، عندما تنكسر جِرارُ الحدّ الأدنى من الحكمة فوق رؤوسنا، ونوقف أنفسنا أمام الحُمْق مكشوفين عراةً من العقل.
أنْ تبرأَ من الشعبوية، وأنْ ترى فائدة أكيدة من البقاء تحت سقف الوطن، ومن ثمّ تحصين حق الاختلاف في تصوّر حقيقة بلدنا، ومآلاته وممكناته، ثم يدهسك قطار الفضائحية الذي لا يستحيي من القانون والمؤسسات، فالأمر يجعلك تشكّ، وترتاب من كثير ترتيبات ومقولات لا مصلحة لأحد في انهيارها وتلاشيها.
ثم هذا الذي فكّر وقدّر وقرّر أن هناك مصلحةً في نشر مشاهد ونِسبتها إلى قضية جرى البتّ فيها قضائياً، كان كمن يُطلق الرصاص على قدميه.
ثم أية رسالة يريدنا أن يُفهمنا؟
أن أحكام القضاء بإتلاف ما يجب إتلافه بلا قيمة (إن كانت المشاهد جزءاً من دليل نُظر فيه وحُكم بإتلافه)؟
أن الأعراض (حتى أعراض الضحايا بمنطوق الحكم القضائي) مهدورةٌ؟
أن العقوبات التي يُرتّبها القضاء غير كافية؟
أن هناك من يشعر في هذا الوطن بأنه وحدَه المخلّصُ، والوطنيُ أكثر من الجميع، حين يختار “شرع اليد” وركْل القانون وأحكام القضاء؟
هل المطلوب أن يتلبّسنا جِنُّ الخوف ما دام لم يعد هناك رادعٌ عن إتيان أي شيء؟
(وانظُرْ كيف أنّي أرواغ وأتلاعب بالكلام حتّى لا أسمّي أحداً، في موضوع يتحاشى الجميع التلطّخ بسواده).
للأسف، في كل مرة ينبعث من الدرك الأسفل في التهور من يخرق سقفاً في الإسفاف والانحطاط، وإشاعة سموم في الأجواء، وكتابة سطر جديد في التشنيع، بدوْس مساحات الحكمة، وكأنّ التهتّك قَدَرٌ، وكأنّه لا مجال للوقوف في مواطن أكثر رُشداً.
نكتب بإلحاح أننا في وطنٍ يجب أن يختار طواعيةً تدبير اختلافاته بحدّ أدنى من العنف، المادي والرمزي، قبل أن ندفع جميعا كُلفة “تخريب الفرامل” في مسيرنا البطيء نحو الديمقراطية.
نكتب ولن نملّ أننا في وطن لا خيار أمامه غير أن يخوض مفاوضته على مستقبله بكثير من الكيّاسة.. وأننا في وطن كلما اختط طريقا أكثر هدوءا في تدبير اختلافاته كان أليق بنا، لكنه وكلما تعثّر في امتحان ترسيخ دولة المواطنين كانت الكُلفة أكبر..
كان العفو الملكي عن الصحافيين خطوةً أشعرتنا بفُرص انبعاث مغرب أكثر انفتاحا، حين ضخّ القرارُ منسوباً عالياً من الحكمة وجرى سَلُّ شوكةٍ من قدم متردّدة في المسير نحو مغربٍ ممكن.. قبل أن يدخل “بهدوزات” على الخط لإفساد المشهد.
لا حاجة أبدا، لأي أحد، أن يُحرِّك كل مرة خطوط التعدي على الحقوق والكرامات. كل الانتهاكات تبدأ بخروقٍ، ثم تتراكم حتى “يتّسع الفتق على الراتق”.
هذا لا يستقيم في وطن لا نزال نعتقد أنه جديرٌ بالديمقراطية. لذا، لا مجال ليجنح الخيال بأي كان أنه يستطيع أن يُجلسَ في عقل كل مواطنٍ رقيباً يحصي عليه أنفاسه، ويراجعه في أفكاره، ويضرب على يديه “إيلا خرج على السطر”.
رجاءً، قولوا لنا بصريح العبارة وبالأفعال: أول المَسيرِ خطوة، والخطوة الأولى أن أحكام القضاء العادل في ميزان مؤسسات الدولة “قرآن”، ليقتنع الناس أن الجميع تحت سلطان القانون، بلا استثناء، وأنه لا حقّ لأحد أن يؤسس لمغرب السيبة بأن يتصرف البعض كأنه لا وجود لحساب وهو يمارس جريرة التشهير.
أخبرونا أن الدولة ستحمي سُمْعتها بالتحقيق لمعرفة من قصفنا جميعا بـ”سلاح الدمار الشامل” وهو يروّج مشاهد يجري الزعم أنها كانت جزءاً من دليل محكوم بإتلافه ليحوّله فرجة في موقع إباحي؟
قصارى القول
لا جدوى من أن ننقل تدبير خلافاتنا إلى مستويات بالغة الخطورة. من يُطعم وحش التشهير لا يمكن أن يكون متأكدا أنه لن يخرج عن السيطرة، وهذا ممّا حذّر منه كثيرون في بواكير نشوء انحراف ملحوظ في صحافتنا، قبل أن يلتحق مخبولون من أطراف عديدة ليشكلوا مدّاً عاتيا من الشعبوية والتخوين والنيل من الأعراض لم يوفّر أحدا.
نؤمن بالمغرب الجامع، القوي، والعاقل، القادر على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصواب. ومزيدٌ من التعقّل لن يقتل أحدا.