story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الصحراء المغربية بين المسار القانوني والمسار السياسي

ص ص

تجاذبت قضية الصحراء، منذ ظهورها، ثنائية القانون والسياسة. في القضايا الدولية ذات الأبعاد الدولية والإقليمية المركبة التي تكون موضوعا للصراع الجيوسياسي، مثل قضية الصحراء، لا تكفي المقاربة القانونية وحدها لمعالجتها، بل تعد المقاربة السياسية، التي تعتمد على الواقعية الساسية (Realpolitik) وتتجاوز القواعد القانونية، أكثر ملاءمة. ومع ذلك، غالبا ما تحتاج المقاربة السياسية إلى غطاء قانوني لإضفاء الشرعية على نتائجها.

منعرجات المسار القانوني لقضية الصحراء المغربية

واجه المغرب على المسار القانوني والقضائي لقضية الصحراء دعاوى متنوعة، سواء تلك التي بادر بها بنفسه، مثل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي جاء بناء على طلب مشترك من المغرب وموريتانيا عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو تلك المرفوعة ضده أمام المحاكم الإقليمية والوطنية من قبل جبهة البوليساريو وبعض الجمعيات المناصرة لها.

كما كانت هناك أيضا بعض الأراء القانونية، كالذي أبداه المستشار القانوني لمنظمة الأمم المتحدة، السويدي هانس كوريل، في 2002 بطلب من مجلس الأمن بشأن استكشاف الثروات الطبيعية في الصحراء واستغلالها.

يعد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية: في 16 أكتوبر 1975، أهم المعارك القانونية التي خاضها المغرب دوليا. خلص هذا الرأي الاستشاري إلى أن الصحراء لم تكن أرضا خلاء قبل مرحلة الاستعمار الإسباني، وأنها كانت تربطها علاقات قانونية وروابط ولاء مع كل من المغرب وموريتانيا.

ورغم تقديم المغرب وثائق عديدة لإثبات ممارسته السيادة على الإقليم قبل الاستعمار، مثل تعيين قياد بالمنطقة وتوقيع اتفاقيات دولية، إلا أن المحكمة اعتبرت هذه الأدلة غير كافية للإقرار بوجود سيادة إقليمية كاملة. وقد اتسم هذا الرأي بعدم الانصاف بتطبيق مفهوم ”السيادة الإقليمية“ الذي تطور في السياق الأوروبي بأثر رجعي على منطقة كانت فيه السلطة تمارس في إطار ”السيادة الشخصية“ إلى حد كبير.

أما على مستوى القضاء الإقليمي، فقد استهدف المغرب مرارا أمام النظام القضائي للاتحاد الأوروبي، حيث أصدرت محكمة العدل الأوروبية سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصحراء والاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب بين عامي 2016 و2024.

ففي 21 ديسمبر 2016، قضت المحكمة بعدم شمول النطاق الإقليمي لاتفاقية الشراكة والبروتوكولات الملحقة بها مع المغرب لإقليم الصحراء. وفي عام 2018، أصدرت المحكمة مجموعة من الأحكام: في فبراير، استبعدت المحكمة تطبيق اتفاقية مصايد الأسماك على الإقليم، وفي يوليو، أبطلت المحكمة العامة الاتفاقية في قضية رفعتها جبهة البوليساريو.

ثم في نوفمبر، قضت بعدم تطبيق اتفاقية الطيران على الصحراء. وفي سبتمبر 2021، حكمت الغرفة الأولى ببطلان اتفاق الفلاحة الموقع في 2019. وفي 4 أكتوبر 2024، ستصدر المحكمة الحكم النهائي بشأن الاستئناف الذي قدمه المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية في ديسمبر 2021.

وفي اليوم نفسه، أصدرت المحكمة ثلاثة أحكام: اثنان يخصان الطعون المقدمة على قرار المحكمة العامة لعام 2021 بإلغاء اتفاقيات التجارة والصيد بين الاتحاد الأوروبي والمغرب في الصحراء، والثالث بناء على إحالة من المحكمة الإدارية العليا الفرنسية بشأن طعن اتحاد المزارعين الفرنسيين في تصنيف منتجات الصحراء كمنتجات مغربية.

خلاصة هذه الأحكام القضائية تتمثل في تأكيد عدم سريان اتفاقيات الشراكة والتعاون بين المغرب والاتحاد الأوروبي على إقليم الصحراء، سواء تعلق الأمر بالفلاحة أو الصيد البحري أو الطيران.

وتعكس هذه الأحكام توجها قضائيا أوروبيا يستثني الإقليم من أي ترتيبات تجارية أو اقتصادية بين الطرفين، مما يفرض تحديات كبيرة على المغرب والاتحاد الأوروبي معا. ولا يقتصر التحدي على ضرورة تكييف شراكاتهما الاقتصادية مع هذا التوجه القانوني والقضائي، بل يمتد إلى البحث عن مسارات جديدة لتجاوزه دون الإخلال بمقتضياته.

فوسفاط الصحراء أمام المحاكم الوطنية

شهدت سنة 2017 بداية حملة قضائية للبوليساريو ضد الفوسفاط المستخرج من إقليم الصحراء في عدد من المحاكم الوطنية. ففي 5 يونيو 2017 رفضت المحكمة البحرية في بنما طلب جبهة البوليساريو لحجز سفينة “ألترا إنوفيشن” المحملة بفوسفات من مناجم فوسبوكراع، معتبرة الطلب غير قانوني وخارج اختصاصها لأنه يتعلق بالسياسة الدولية.

وبالمثل، رفضت محكمة أوروغوايانية في غشت 2017 طلبا من البوليساريو لمصادرة شحنة فوسفات مغربية، رغم موقف أوروغواي المؤيد للأطروحة الانفصالية.

وفي فبراير 2018، أصدرت محكمة في جنوب إفريقيا حكما يقضي بحجز شحنة من الفوسفات المغربي كانت على متن سفينة متجهة إلى نيوزيلندا، بعد دخولها ميناء ”بورت إليزابيث“ في مايو 2017، وتم الإعلان عن عرضها في المزاد العلني. لكن أعيدت هذه الشحنة من الفوسفات إلى المغرب، بعد أن امتنعت جميع الشركات العالمية عن شرائها.

وفي تطور حديث، أصدرت المحكمة الإدارية في لندن في مايو 2023 حكما يؤكد رفضها الاستئناف المقدم من منظمة داعمة للبوليساريو على قرار هذه المحكمة الصادر في ديسمير 2022، الذي كان لصالح المغرب، والذي قضى بشرعية سريان الاتفاقيات التجارية بين بريطانيا والمغرب على إقليم الصحراء، بما في ذلك اتفاقية الشراكة الموقعة في أكتوبر 2019.

باستثناء حالة محكمة جنوب إفريقيا، كانت المحاكم الوطنية أكثر حذرا إما لعدم وجود ولاية قضائية على القضايا الدولية، أو بسبب اعتبارات المصالح الوطنية لدولها. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأنها كانت لصالح المغرب من حيث جوهر الموضوع.

تعد الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الأوروبية والمحكمة العامة للاتحاد الأوروبي من أصعب التحديات، لأنها ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد. كما أن النظام القضائي للاتحاد الأوروبي يتمتع بمصداقية دولية، مما قد يجعل هذه الأحكام سوابق قضائية تحتذي بها المحاكم الإقليمية والوطنية الأخرى، كما حدث مع محكمة جنوب إفريقيا التي استندت جبهة البوليساريو في دعواها على حكم محكمة العدل الأوروبية لعام 2016.

المسار السياسي لقضية الصحراء: بين ترسيخ الأمر الواقع وبناء التوافق الإقليمي

يعني المسار السياسي في هذا المقال ما يقوم به المغرب من جهود دبلوماسية وسياسية، والتي في مقدمتها توسيع الاعتراف الدولي بالسيادة المغربية على الصحراء، وتقديم مبادرة الحكم الذاتي، واقتراح إنشاء “آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور” مع الجزائر، فضلا عن الحملة المستمرة لسحب الاعتراف بما يسمى الجمهورية الصحراوية.

بمعني أن أن الآليات المؤسساتية الدولية والإقليمية المرتبطة بقضية الصحراء، مثل منظمة الأمم المتحدة مستبعدة من هذا السياق، حيث أن قرارات هذه المؤسسات لا تحدث تأثيرا فعليا في الواقع الدولي أو الأحداث الإقليمية، بل تعكس الوضع القائم على الأرض. وينطبق ذلك بشكل خاص على مجلس الأمن، الذي يكتفي بإدارة الأمر الواقع، بينما يظل تأثير قراراته محدودا.

لا يعني ذلك التقليل من أهمية الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والإقليمية، بل على العكس، ستظل هذه المنظمات ساحة رئيسية للصراع الدبلوماسي والمرافعة لصالح قضية الصحراء. يجب على المغرب أن يستمر في الدفاع عن موقفه داخل هذه الهيئات، وإقناع المجتمع الدولي بعدالة قضيته. ومع ذلك، فإن الأمم المتحدة لن تكون الإطار الذي ستحل في هذه القضية؛ بل الحل الفعلي يكمن في الإطار الإقليمي/الجهوي.

على الرغم من ذلك، يجب على المغرب أن يكون حاضرا ومؤثرا في أروقة الأمم المتحدة لتعزيز الشرعية الدولية لتحركاته وإنجازاته الميدانية والعسكرية. رغم أن قرارات الأمم المتحدة وتوصياتها قد تفتقر إلى الفاعلية المباشرة، فإنها تظل ضرورية لتعزيز الدعم الدولي والشرعية.
يمكن تلخيص المسار السياسي في السيناريوهين الآتيين:

الحل عبر التوافق الإقليمي:

يعتمد هذا الخيار، أولا، على افتراض أن قضية الصحراء قضية إقليمية (جهوية) بالدرجة الأولى، وثانيا، على فرضية أن مستقبل قضية الصحراء يرتبط ارتباطا وثيقا بمعالجة الجذور السياسية للصراع. بمعنى أن ذلك يتطلب مواجهة العوامل الأساسية التي دفعت الجزائر إلى التورط في النزاع، مثل التنافس الإقليمي، والشك المتبادل، وضعف الثقة بين المغرب والجزائر، وهي عوامل موروثة من مرحلة الاستعمار التي حولت المنطقة المغاربية إلى ساحة للصراع الجيوسياسي.

وعليه، فإن التوصل إلى حل نهائي يظل مشروطا إما بتحقيق توافق سياسي حقيقي مع الجزائر أو بحدوث ضعف كبير يقلل من قدرتها على التأثير. هذا الخيار، خاصة الوصول إلى توافق مع الجزائر، يتطلب رؤية استراتيجية طويلة الأمد ونفسا دبلوماسيا لتعزيز الثقة الإقليمية وتجاوز مسببات التوتر والشك.

الحل السياسي عبر فرض أمر واقع جديد:

تجسد الاستراتيجية الحالية للدبلوماسية المغربية هذا الخيار، والذي يتمثل في توسيع الاعتراف الدولي بالسيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية، أو على الأقل دعم مقترح الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية باعتبارها حلا واقعيا وعقلانيا. يعد هذا المسار الأقل كلفة لتحقيق تقدم ملموس في القضية. نجاح المغرب في هذا الاتجاه قد يمهد الطريق لاستصدار قرارات دولية وإقليمية تعزز إنجازاته الدبلوماسية والميدانية. ومع ذلك، تظل الجزائر العقبة الرئيسية أمام هذا الخيار، مما يجعل تحقيقه مرهونا بقدرة المغرب على إخراج الجزائر من المعادلة أو التوصل إلى توافق سياسي معها.

لا يجود تناقض بين هذين الخيارين السياسيين، بل يمكن أن يتكاملا، كما أن التفضيل بينهما لا ينبغي أن يستمد فقط على التماسك النظري، لأن التقييم النهائي للدبلوماسية يقوم أساسيا على الإنجازات في نهاية المطاف، وليس على صحة المسار.

وباستقراء الإنجازات المتحققة في المسارين القانوني/القضائي والسياسي، يمكن القول إن هناك تباينا ملحوظا في الإنجازات بين المقاربتين؛ إذ يبدو أن المسار السياسي متقدم بشكل كبير على المسار القانوني. يمكن تفسير ذلك بكون قضية الصحراء ليست مجرد قضية قانونية، بل هي في جوهرها قضية سياسية تتطلب حلولا تستند إلى الواقعية السياسية (Realpolitik).

  • هذا المقال هو ملخص مداخلة بعنوان ”الصحراء المغربية بين المقاربة القانونية والمقاربة السياسية؟“، قدمها الكاتب في ندوة “قضية الصحراء المغربية في ظل التحولات الراهنة“ التي نظمتها كلية الحقوق-السويسي، جامعة محمد الخامس، الرباط، يوم الخميس 19 دجنبر 2024.

الصحراء المغربية بين المسار القانوني والمسار السياسي*
سعيد الصديقي
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس