story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الصحراء بين أنين الإنسان ونهيق…

ص ص

استضفنا في الحلقة الأخيرة من برنامج “ضفاف الفنجان”، عبد الله سامر، وهو أحد الجنود المغاربة الذين أسروا في حرب الصحراء، وقضى زهاء ربع قرن في قبضة الخصوم، تحت الاستعباد والتعذيب والإهانة.

تعرّفت على عبد الله قبل قرابة 14 عاما، حين كان يتولى تنسيق الاعتصام المفتوح الذي خاضه رفقة العشرات من زملائه في محيط مقر البرلمان.

جالست عبد الله ورافقه في السلاح والأسر عشرات المرات، وكتبت عنهم ملفات وتقارير وقصصا إنسانية… وظلّت ذكراهم رغم ذلك عالقة في ذهني كقضية لم ننصفها ولم نمنحها ما تستحق من اهتمام، خاصة أن ذلك الاعتصام تزامن مع فترة الربيع العربي ووضع دستور جديد وانتخابات مبكرة… وغيرها مما يستوجب الاهتمام والمتابعة الصحافيين.

بحثت أخيرا عن رقم عبد الله الذي احتفظت به، وكنت أتابع من خلاله مستجدات المطالب الاجتماعية والصحية التي كان الأسرى السابقون يلحون على تنفيذها. ركّبته على أمل تجديد الاتصال ومناقشة إمكانية إجراء حوار يرمي إلى توثيق الذاكرة وفتح أعين الحاضر والمستقبل على جراح الماضي، فكانت المفاجأة استعداد فوري للسفر من مدينة وجدة، حيث يقيم عبد الله، إلى الرباط. ولم تطلع شمس اليوم الثالث إلا وقد وصل إلى محطة القطار الرباط المدينة، الشاهدة على فصول من اعتصام الأسرى السابقين.

تعود قصة وقوع ضابط الصف سامر عبد الله في أسر جبهة البوليساريو، إلى العام 1980، حين كان مقاتلو الجبهة يحاصرون بلدة “الزاك”. ويتذكّر عبد الله كيف أن الملك الحسن الثاني كان وقتها يحتفل بعيد العرش في مدينة الداخلة، المسترجعة حديثا من يد موريتانيا.

“عشنا 11 يوما ديال القرطاس يوميا، لأن عصابة من البوليساريو كانت تسيطر على منطقة في واركزيز في جبال “النكب” وتقطع الطريق بين آسا والزاك، كي يشتد الخناق على سكان الزاك ويلتحقوا بالمخيمات”، يقول عبد الله في حوار سابق سجّلته معه في فترة الربيع العربي.

المؤلم في قصة الأسرى المغاربة، كما يكون الحال في جلّ الحروب، أن الجنود غالبا ما يكونون شبابا يافعين.

في حالتنا، كان جل الأسرى قد ولجوا الجيش المغربي في الستينيات والسبعينيات، وساقتهم أقدارهم إلى خوض حرب الصحراء منذ 1976، ضد مجاهيل كُثر.

كان هؤلاء من بين “المحظوظين” الذين خررجوا من تلك الحرب بأرواحهم سالمة وأجسادهم شبه مكتملة، لكن جلّهم بات يتمنى لو كان مكان أحد الذين استشهدوا بين عقدي السبعينات والثمانينيات، وحُملت نعوشهم إلى بلدات الأهل لتدفن بقربهم.

جمعت منذ اكتشفت هذه القضية أول مرة، وأنا صحافي مبتدئ يعبر شارع محمد الخامس يوميا في اتجاه مقر البرلمان، قصصا تفوق ما تحبكه الأقلام المبدعة لأفلام هوليود.

هذا أسير سابق وجد ابنته الوحيدة، التي كانت في بطن أمها لحظة أسره، قد وُلدت معاقة بفعل تأثير الصدمة التي تعرّضت لها زوجته. “فقد أسرت في أكتوبر وازدادت ابنتي في دجنبر. وطيلة المدة التي كنت فيها معتقلا كانت الأسرة بدورها معتقلة في سجن الانتظار”.

وهذا آخر يستحضر ذكريات معاناته من العمل الشاق، وحفر الآبار، “وقبل أن تبدأ في عملك اليومي، كنت تستيقظ في الرابعة صباحا، وتستلقي إلى جانب أسرى آخرين، ليأتوا هم ويطأوا بطوننا بأرجلهم ذهابا وجيئة، وعليك أن تبقي بطنك مرتخيا حتى يشعر به مرنا مثل “ريشبوند”، وإذا تصلّبت عضلات بطنك قليلا تتعرّض للعقاب الشديد. ولم يخفّف العذاب قليلا إلا بعد اتفاق وقف إطلاق النار ودخول الصليب الأحمر إلى المخيمات”.

وذاك ثالث ولج صفوف الجيش في سن 17 عاما، بعدما استعمل بطاقة التمدرس عوض رسم الولادة ليخفي صغر سنه ويتمكن من الحصول على وظيفة، فسافر إلى الأقاليم الجنوبية صيف 1978، ووقع في الأسر ولم يمض على تجنيده سوى ثمانية أشهر.

أسير آخر، كان متخصصا في أحد الأسلحة الثقيلة كـtireur، وثّقت كلماته قبل 14 عاما، حيث “كنا نحارب البوليساريو بين الحين والآخر، لكننا عندما كنا بين أيديهم، كنا نتحارب معهم ليل نهار. كنا نستعمل معهم جميع أساليب الحرب الفكرية، وعندما كانوا يخسرون إحدى المعارك، كانوا يأتون لينتقموا منا، ويأخذوا من اجسامنا الدماء لفائدة جرحاهم… أنا أخذوا مني الدم 13 مرة”.

بعثت رابط حلقة حوارنا مع سامر عبد الله، إلى مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد الأمني السابق في جبهة البوليساريو، والذي انشق عنها وناله نصيب من فنون تتنكيلها بالمخالفين، وطلبت منه أن يتفرّج ثم يقدّم لي تعليقاته.

هذا هو قدرنا في الصحافة، نبحث عن رسم الصورة الكاملة بتسليط الأضواء من جميع الزوايا الممكنة.

المفروض أن كلا من ضيفي سامر عبد الله، ومصطفى سلمى ولد مولود، كانا في ضفتين متقابلتين خلال فترة أسر الجنوب المغاربة. لكن أول تعليق وصلني من هذا الأخير قال: “ضيفكم تحرى الموضوعية ما أمكنه ذلك”.

وأضاف ولد مولود، الذي أذن لي بنشر ما دار بيننا من محادثة، أن أغلب من ذكر لنا سامر عبد الله ممن كانوا يشرفون عليهم تحت الأسر، هم من صحراوي تيندوف الذين انخرطوا في الجبهة، أي أنهم جزائريون.

“الظروف الحياتية كانت صعبة في السنوات الأولى حتى على السكان، فما بالك بالأسرى”، يقول مصطفى سلمى، مضيفا أن عدد الذين ماتوا في سجون البوليساريو من الصحراويين أكثر ممن مات خلال سنوات الرصاص في المغرب في معتقلات مكونة و أكدز ودرب مولاي الشريف…

لكن أقوى ما جادت به حكمة وبصيرة أهل الصحراء في حديث ولد مولود، هو أن الحرب كما الدكتاتوريات، تُظهر أسوأ ما في الإنسان، “وتجمع كل مصائب الدنيا دفعة واحدة.. الموت، الاختفاء، اللجوء، الجوع، الأسر، التشرد، و حتى ما لا يتخيله العقل و ما لم تجربه البشرية”.

وكأنه يصدّق ما نقله ضيفنا سامر عبد الله عن الزعيم السابق لجبهة البوليساريو، محمد عبد العزيز، حين قال للأسرى المغاربة: “أنتم أسرى ونحن أيضا أسرى”، قال مصطفى سلمى أن الصحراويين تضرروا عشرات المرات، “القاتل منا والقتيل منا، الآسر منا وكذلك الأسير، ومنا المشرد والمفقود… وإذا صرخ أحدنا من الألم يوصم بالخيانة، وفي أحسن الحالات يقال له اسكت كي لا يستغل العدو أنينك”.

ولا أجد أفضل ما أختم به هذا الحوار غير المباشر بين أسير من هنا وأسير من هناك، سوى هذه العبارة التي خاطبني بها مصطفى سلمى ولد مولود: “الناس تكتب عن الأرض والاستثمارات والجيوبوليتيك… والإنسان كأنه ذلك المخلوق المسمى “حمار”، عليه فقط أن يحمل الأثقال وينهق، فنهيق الحمار واحد سواء كان طربا او تعاسة”.