مدوّنة الدولة
مخيف هذا الفراغ الذي يتردّد فيه صدى مشروع إصلاح مدوّنة الأسرة كما عرضته الدولة بداية هذا الأسبوع.
نحن أمام مبادرة تعيد إلى الذهان أول ومبادرة إصلاحية عرفها عهد الملك محمد السادس، أي مراجعة مدونة الأسرة التي استغرقت قرابة خمس سنوات، ولا يضاهيها من حيث الحجم والأثر سوى الإصلاح الذي همّ الوثيقة الدستورية بعض بضع سنوات منن ذلك.
والخطوتان الإصلاحيتان هنا ليستا من باب ضرب المثال، بل لأنهما في حقيقة الأمر مرتبطتان ومتلازمتان.
إصلاح قانون الأسرة لا يمكن أن ينظر إليه بمعزل عن إصلاح الدولة. وادعاء السعي إلى التحديث والإنصاف والعدالة والمساواة في قانون الأسرة، لا يمكن أن يحقق الإقناع والانخراط إذا لم تكن الدولة نفسها منخرطة في عملية إصلاحية تحقق هذه الأهداف.
لا يمكن الحديث عن مراجعة قانون الأسرة بالشكل الذي يقلّل من التفاوتات ويحمي الحقوق ويضمن التوزيع المنصف للثروات، إذا لم تكن “مدوّنة الدولة”، أي الدستور، يجد طريقه نحو تحقيق هذه الغايات نصا وممارسة.
وواقع الحال يقول إننا فشلنا بوضوح في نقل روح خطاب 9 مارس 2011 ودستور فاتح يوليوز 2011 إلى أرض الواقع، بدليل التجريف الشامل الذي شهده المشهد السياسي والمدني والإعلامي، وغوص أقدام الدولة أكثر فأكثر في استبداد الأقلية القوية واحتكارها للسلطة والثروة…
بل إننا لم ننجح بعد أكثر من 13 عاما من اعتماد الدستور الجديد، في تمكين المواطن المغربي من حقه في الطعن في دستورية القوانين والتمتع بضمانات الوثيقة الأسمى الجديدة.
فكيف يمكننا إقناع المغربي أن ما نحن بصدده اليوم، هو إنتاج لوثيقة قانونية حيوية، ستجد طريقها نحو التنفيذ وتحقيق الغايات والمثل العليا التي تبرّر بها هذه الخطوة؟
كيف يمكننا ان نقنعه بإمكانية الحصول علي نص قانوني أفضل وتطبيقه بطريقة أفيد، إذا كانت المدونة الأصلية، أي الدستور، لم تجد طريقها نحو التنفيذ؟
عملية الإصلاح في المجتمعات الحديثة هي عملية معقدة تتطلب تفاعلا مستمرا بين الدولة والمجتمع. وفي هذا السياق، ينبثق السؤال الأهم: هل يبدأ الإصلاح من الدولة باعتبارها القائد الذي يحدد السياسات العامة ويضمن تطبيق القوانين؟ أم من المجتمع، الذي يمكن أن يكون الأساس الذي يحمل بذور التغيير الحقيقي، وتحديدا من نواته الأساسية وهي الأسرة؟
يمكن القول من المنظور المعاصر، إن الإصلاح يجب أن يكون عملية تفاعلية تشمل كافة المستويات، ولكن يتعين أن ينطلق من نقطة انطلاق واحدة تضمن استدامته ونجاحه. ولذلك، يتعين النظر في دور كل من الدولة والمجتمع، وكذلك في العلاقة المتبادلة بينهما.
تُعتبر الدولة، في أية عملية إصلاحية، الجهة التي يمكن أن تضمن التنظيم السياسي وإحداث التغيير على مستوى القوانين والسياسات. من هنا، يمكن القول إن الإصلاح يجب أن يبدأ من الدولة، خصوصا إذا كان الهدف هو إعادة صياغة الأسس القانونية والتشريعية التي تحكم المجتمع.
الدولة هي المسؤولة عن ضمان المساواة بين الأفراد، وضمان حقوقهم الأساسية، سواء في التعليم أو الصحة أو العمل أو الحياة الاجتماعية. وهي الجهة الوحيدة التي يمكنها أن تمنع التمييز وتضمن حق كل فرد في المشاركة في الحياة العامة.
الدولة ليست مجرد جهاز إداري ينظم شؤون البلاد، بل هي الكيان الذي يحمل رؤية المجتمع ويجسد تطلعاته. وعندما نتحدث عن تحديث الدولة لتحقيق العدالة والمساواة، فإننا نتحدث عن ضرورة أن تتفاعل الدولة مع المجتمع ليس فقط على مستوى الخطابات والوعود، بل على مستوى التطبيق الفعلي لتلك المبادئ في سلوكها وقوانينها، وفي سلوك مؤسساتها على الأرض. وهذا يتطلب منها أن تكون بمثابة “القاطرة” التي تقود المجتمع.
ولا يمكن للدولة أن تكون مؤسسة قادرة على تحقيق العدالة والمساواة ما لم تكن هي نفسها مؤسسة تحترم هذه المبادئ.
يجب أن تبدأ عملية الإصلاح من داخل الدولة، من خلال تحديث قوانينها وهياكلها السياسية والإدارية، بحيث تكون هذه القوانين عادلة وشفافة، وتحترم حقوق الإنسان في جميع جوانب الحياة.
وإذا كانت الدولة تسعى فعلا إلى تجسيد العدالة والمساواة، فلا بد أن تبدأ بإصلاح النظام القضائي، الذي يعد أساسا في أي دولة ترغب في تقديم مبدأ العدالة للناس. ألم تكن بداية مسار الإصلاح الحالي لمدونة الأسرة بلجينة تضم المسؤولين القضائيين فقط؟
إلا أن الإصلاح لا يمكن أن يقتصر على الدولة. المجتمع، ونواته الأساسية وهي الأسرة، لهما دور مهم في بناء الأسس الاجتماعية التي تساهم في استمرار الإصلاح وتحقيق النجاح.
فالأسرة ليست مجرد مؤسسة اجتماعية تعمل على تربية الأفراد، بل هي أول مجال يتعلم فيه الأفراد القيم والمبادئ الأساسية للحياة، مثل العدالة والمساواة، الاحترام المتبادل، والحرية.
وإذا كانت الدولة قد وضعت القوانين التي تعزز هذه القيم، فإن المجتمع –وخاصة الأسرة– يجب أن يعمل على تثبيتها وتنميتها في الأفراد. فالإصلاح يبدأ في النهاية من تغيير عقلية الأفراد، وهذه العقلية يتم تشكيلها بالأساس داخل الأسرة.
إذا كانت الأسرة تحافظ على قيم عتيقة تعزز التفرقة والتمييز بين الأفراد بناء على الجنس أو الطبقة الاجتماعية أو غيرها، فإن تلك القيم ستنقل إلى الأجيال القادمة، مما يعوق أي تحول حقيقي في المجتمع.
إذن، فالإصلاح يجب أن يكون عملية شاملة لا تقتصر على طرف واحد فقط. يبدأ الإصلاح من الدولة، باعتبارها المسؤولة عن سن القوانين وتغيير الهياكل السياسية، لكنه لا يكتمل إلا بتفاعل المجتمع معها.
والسؤال عن العلاقة بين إصلاح قوانين الأسرة والإرث، وإصلاح الدولة لا يعد سؤالا عابرا، بل هو اختبار حقيقي لإرادة التغيير التي تسعى إليها المجتمعات.
فإصلاح قوانين الأسرة والإرث يمثل معركة في صلب معركة أوسع، تتعلق ببناء دولة عادلة تحترم حقوق الأفراد وتعزز القيم الإنسانية الحديثة.
إن قضية إصلاح قوانين الأسرة والإرث ليست مجرد نقاش قانوني بحت، بل هي مسألة سياسية واجتماعية عميقة، ترتبط في جوهرها بالهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمع، كما أنها تلامس العلاقة بين الفرد والدولة.
ومن خلال هذا التصور، نجد أن شخصيات فكرية مغربية مثل علال الفاسي قد دافعت عن فكرة الهوية الإسلامية في صراعها مع الغرب، لكن في الوقت ذاته كان يدرك أهمية التحديث وضرورة تجاوز بعض التقاليد التي تعيق تطور المجتمع.
وفي نفس الاتجاه، كان عبد الله العروي يرى في التحديث السياسي والاقتصادي وسيلة لبعث الدولة الحديثة، وهو ما يتطلب بالضرورة مراجعة قوانين الأسرة والإرث بما يتلاءم مع تطلعات مجتمع معاصر يتسم بالعدالة والمساواة.
وفي إحدى محاضراته الحديثة ذهب العروي إلى المطالبة بنقل صلاحية نقل الثروة كليا إلى الأفراد، عبر جعل الوصية إلزامية، ومنح المواطن الذي يحوز الثروة السلطة الكاملة في تحديد مصيرها، حرصا من العروي على دعم تشكّل رأسمال قوي ومستقر كما هو الحال في الدول المتقدمة.
السؤال المرّ الذي يواجهنا اليوم هو: أين هم المفكرون والعلماء والجامعيون والدارسون للمجتمع والاقتصاد والسياسة، من هذا النقاش؟ هل يعقل أن تتم خطوة إصلاحية من هذا النوع والحجم، في سياق استفراد الرأسمال المشبوه بالمغاربة، دولة ومجتمعا؟ ألا يجوز لنا بالتالي أن نتوجّس ونخاف من هكذا إصلاح مهما أحاطه القائمون عليه بالشعارات البراقة؟