المدونة في ميزان الاستقلال
يومان كاملان مرا على إعلان النتائج النهائية للعملية الاستشارية النخبوية التي انطلقت بالرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة متم شتنبر 2023 حول إصلاح المدونة.
مدة كافية للاستيقاظ من دهشة الاكتشاف وصدمة بعض المقتضيات الجريئة والخروج من حالة الانفعال وإنتاج ردود الفعل العاطفية والساخرة…
علينا أن نعيد أقدامنا إلى أرض الواقع: الأمر يتعلّق بمرحلة تأطيرية واستشارية فقط، ولم نصل بعد إلى نص المشروع الذي سيحال على أنظار البرلمان كي يناقشه ويعدّله ثم يصوّت عليه.
لا يمكننا أن نتصرّف وفقا للحالة النفسية نفسها التي كنا عليها قبل عشرين عاما من الآن، أي انتظار التحكيم الملكي، لسبب بسيط هو أن المقتضيات الدستورية تغيّرت كلّيا في هذا المجال، عبر وثيقة دستور 2011.
في المرة السابقة كان الملك يستطيع التشريع مباشرة في مجال الأسرة، عبر ظهير ينشر في الجريدة الرسمية ثم يصبح نافذا. ولم تكن إحالة المدونة على البرلمان وقتها سوى خطوة رمزية حاول من خلالها الملك إعطاء لمسة ديمقراطية للإصلاح.
اليوم نحن في ظل دستور ينص صراحة على أن التشريع في مجال الأسرة هو اختصاص كامل وحصري للبرلمان. أي أن المؤسسة التشريعية، بغرفتيها، يمكنها نظريا أن تقذف بكل ما نتداوله حاليا في وجوهنا، وتذهب في اتجاهات أخرى وفقا لما تتمخض عنه النقاشات الداخلية في اللجنة الدائمة المختصة ثم في الجلسة العامة.
نعم، أعرف أن الواقع لا يطابق هذا الإطار النظري، وأن الإشارات والتوجيهات الملكية مصدر أساسي في عملية التشريع التي يقوم بها البرلمانيون… لكن البلاغ الأخير للديوان الملكي لم يقيّد الحكومة ومن بعدها البرلمان في إنتاج النص القانوني الجديد بأية صياغة دقيقة أو مفصّلة، وعلى المجتمع أن يستيقظ من نومه الثقيل ويطرد عنه الكسل، ويفعّل الأدوات السياسية والترافعية والمسطرية التي تتيحها القوانين المرتبطة بالعمل التشريعي.
فرغم المقترحات التي خلصت إليها العملية الاستشارية التي انطلقت منذ أكثر من عام، إلا أن الكلمة الأخيرة والحاسمة ما زالت كليا بين أيدي البرلمان، باستثناء حاجزين دستوريين اثنين يمكنهما إسقاط النص الذي ستصادق عليه الغرفتان البرلمانيتان: قرار من المحكمة الدستورية، أو قرار ملكي بعدم توقيع الظهير القاضي بنشر القانون الجديد في الجريدة الرسمية.
في الحالة الأولى، أي اللجوء إلى المحكمة الدستورية ينص الفصل 132 من الدستور على أنه ” يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، وخُمس أعضاء مجلس النواب، وأربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين أو الاتفاقيات الدولية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، أو قبل المصادقة عليها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور.”
وتبت المحكمة الدستورية في هذه الحالة داخل أجل شهر من تاريخ الإحالة. غير أن هذا الأجل يُخفض في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام، بطلب من الحكومة. وتؤدي الإحالة إلى المحكمة الدستورية في هذه الحالات، إلى وقف سريان أجل إصدار الأمر بالتنفيذ.
أما الحالة الثانية، أي رفض الملك إصدار ظهير تنفيذ قانون جديد صادق عليه البرلمان، فينص عليها الفصل 95 من الدستور، والذي يخوّل للملك أن يطلب من كلا مجلسي البرلمان أن يقرأ قراءة جديدة كل مشروع أو مقترح قانون. تُطلب القراءة الجديدة بخطاب، ولا يمكن أن ترفض هذه القراءة الجديدة.
هذا هو الإطار الدستوري الذي يحكم عملية المراجعة المنتظرة لقانون الأسرة، عدا ذلك الأمر متروك بالكامل للحكومة والبرلمان من أجل إنتاج النسخة الأولى من مشروع القانون.
وبما أننا في وضعية تحالف ثلاثي مهيمن، فالأمر سيكون مطروحا على الأحزاب الحكومية الثلاثة بالدرجة الأولى. ورغم أن تصريحات وزير العدل الصادرة مباشرة بعد إعلان المقترحات النهائية أثارت حفيظة البعض، لميلها الواضح نحو الاختيارات الايديولوحية المعروفة سلفا لدى الوزير، فإن ذلك يمنح على الأقل جرعة من الوضوح، نفتقدها في أداء مؤسساتنا وسياسيينا.
نحن أمام وزير مكلّف بهذا الملف يعلن عن اختيارات يمكن وضعها في خانة المعسكر “الحداثي”، ليصبح السؤال مطروحا على الحزبين المتبقيين: الحزب الأول، أي التجمع الوطني للأحرار، والحزب الثالث في ترتيب أحزاب الأغلبية الحكومية من حيث المقاعد البرلمانية، أي حزب الاستقلال.
نظريا، يعتبر حزب التجمع الوطني للأحرار محافظا في مجال التشريع للأسرة، حسب ما توثّقه الأدبيات النادرة للحزب وسلوكه السياسي طيلة العقود الماضية. لكننا في حقيقة الأمر أمام حزب مختلف بشكل كبير عن التجمّع الذي أسسه أحمد عصمان وقاده مصطفى المنصوري أو حتى صلاح الدين مزوار.
لقد كان حزب الحمامة دائما حزبا وظيفيا، كي لا أستعمل كلمة “الإداري” التي كان خصومه يطلقونها عليه في السابق. والراجح أن هذا الحزب لن يكون في التجربة الإصلاحية الراهنة سوى أداة طيّعة في يد الدولة، لتوجيه كتلته البرلمانية في الاتجاه الذي يخدم ما استقر عليه رأيها واختيارها.
والراجح أيضا أن اختيار الدولة حاليا لا يبتعد كثيرا عما يعبّر عنه وزير العدل، وإلا ما كان عبد اللطيف وهبي ليمكث في مكتبه في زنقة المامونية بمناسبة التعديل الحكومي الأخير، والذي جرى في عز مشاورات تعديل المدونة.
بهذا يصبح حزب الاستقلال جوكير المرحلة، والمطالب بلعب الدول الأول في توجيه النقاش المرتبط بإعداد مسودة مشروع القانون الخاص بمدونة الأسرة الجديدة نحو التوازن والتوفيق بين الآراء، وبالخصوص تغليب المصلحة العامة على الاعتبارات الإيديولوجية الصرفة سواء للمعسكر “الحداثي” أو المعسكر “المحافظ”.
لا يمكن لحزب بهذا الحجم والتاريخ والرمزية أن يكون رقما هامشيا في المعادلة في ورش إصلاحي مثل هذا. نعم صحيح أنه الحزب الثالث داخل التركيبة الحكومية، لكنه الحزب الأعرق والأكثر غنى من حيث الأدبيات والخبرة والهيئات الموازية المنظمة وذات القواعد الشعبية الحقيقية، مقارنة بالحزبين الوظيفيين الآخرين داخل الحكومة.
حاورت هذا الأسبوع وزير العدل السابق، محمد الإدريسي العلمي المشيشي، وكان من بين ما تطرّقنا إليه شخصية علال الفاسي التي عاصرها في الجامعة، طالبا في الحقوق ثم أستاذا. وقال الرجل المخضرم والحكيم والفقيه في القانون، إن الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال، كان يحمل أفكارا إصلاحية في مجال الأسرة، لو تمكّن من إدراجها في خلاصات لجنة صياغة مدونة الأحوال الشخصية الأولى في تاريخ المغرب، والتي كان هو مقررها، لما احتجنا إلى التعديلات المتواترة في هذا المجال.
لا يمكن لحزب الاستقلال اليوم أن يكتفي بدور المتفرّج. ولا يمكننا أن ننتظر من حزب مثل العدالة والتنمية، بنوابه ال13 أن يقود المعسكر المحافظ وهو منزوع الأنياب ومقلّم الأظافر. لحزب الميزان كامل الأهلية والشرعية، والجزء الأكبر من المسؤولية التاريخية والسياسية، لتمثيل هذا الطرف في مربّع القرار، مع امتياز إضافي يتمثل في اعتداله ووسطيته مقارنة بأطراف محافظة أخرى.
المدوّنة في ميزانكم أيها الاستقلاليون!