الخوف على الأسرة
التعاقد الذي يبدأ عند مستوى الأسرة، ونحاول هذه الأيام إخضاع بنوده للمراجعة، ليس مجرد اتفاق فردي يتعلق بتدبير العلاقات العائلية، بل هو اللبنة الأولى في بناء تعاقدات جماعية كبرى تُنظم علاقة الأفراد بالمجتمع والدولة.
هذه التعاقدات الكبرى تبدو ملتبسة وغير مكتملة في المغرب، حيث لم تُناقش بعد بعمق كاف، ولم تُراجع بما يضمن تحقيق عدالة اجتماعية أكبر وشمولية.
هذا الغموض سينعكس بالضرورة على أية محاولة للتدخل في شؤون الأسرة باسم المصلحة العامة، ويضعها أمام تحديات جسيمة، على رأسها تحدّي الثقة في المبادرات الفوقية، والاطمئنان إلى منطلقاتها وخلفياتها.
بعد البلاغ الأول الصادر عن الديوان الملكي مساء أول أمس الاثنين 23 دجنبر 2024، قدّمت الحكومة في لقاء تواصلي عقدته أمس في مقر أكاديمية المملكة، تفاصيل المقترحات التي انتهت إليها المشاورات الفوقية المغلقة بشأن تعديل مدوّنة الأسرة.
وبينما تتطلّب هذه المقترحات تأملات كافية وإنصاتا هادئا لآراء المختصين، فإن ردّ الفعل الجماعي الذي أعقب الإعلان عن هذه المقترحات، خاصة منها المتعلقة بحضانة الأبناء بعد الطلاق وتقاسم الثروة وتعويض ال يستدعي التفاعل السريع، والالتقاط الفوري للإشارات.
نعم هناك شحنة أمل وتفاؤل واسع صدرت عن بعض الأوساط النخبوية والحقوقية، لكن هناك أيضا قدر كبير من الخوف والتوجّس والقلق الذي صدر عن أوساط نخبوية وأخرى شعبية، دون أن يحصل المواطن على جواب مقنع حول بعض المقترحات، مثل رفض اعتماد الخبرة الجينية لتحديد النسب، وهل يرتبط ذلك بانغلاق فكري أم بتصوّر معيّن للنظام العام ولمنح الاعتراف الجماعي بهوية الفرد؟
هذا المزاج العام في حدّ ذاته قد يكون محدّدا، بل حاسما، في مصير ورش إصلاحي مثل هذا، لأنك لن تستطيع تنزيل أية وصفة إصلاحية مهما كانت موفقة، في غياب الانخراط والاقتناع الواسعين. وإلا فإن مجال “الأحوال الشخصية” هو من أجل المجالات عرضة لإنتاج البدائل والحيل والتقنيات، من أجل تحويل النص القانوني إلى إطار أجوف.
والانتقادات التي رافقت الإعلان عن المقترحات الجديدة، وموجة السخرية والتنكيت التي انتابت الجميع (تقريبا) ليلة أمس، لم تكن مجرد اعتراضات عابرة على بعض الجزئيات؛ بل هي شهادة حية على الفجوة العميقة بين رؤية السلطة التي تحدد الأولويات من منظور فوقي، وبين احتياجات المواطن التي تُختزل في تفاصيل حياته اليومية ومخاوفه الوجودية.
هذه الفجوة لا تعكس فقط اختلافا في الأولويات، بل تُظهر أيضا أزمة ثقة متجذرة تجعل أي مبادرة للإصلاح، مهما كانت طبيعتها أو نواياها، تواجه بجدار من الشكوك والارتياب، وتعبّر عن فقدان السردية المشتركة التي تربط الدولة بالمجتمع، والتي تجعل من الإصلاح مشروعا جماعيا يُحرك الأمل بدل أن يُثير القلق.
وما يفاقم هذا الوضع، أن مشروع إصلاح مدونة الأسرة، الذي يُفترض أن يكون خطوة نحو المزيد من العدالة والإنصاف، جاء في ظل مناخ اجتماعي يعاني من الإحباط والانقسام، مما جعل ردود الفعل تجاهه تعكس خليطا من التشكيك والنقد وحتى الغضب.
قد يقول البعض إن هذه الانتقادات دليل على حيوية المجتمع ونضجه، حيث لم يعد يتعامل مع القوانين كمسلمات مفروضة، بل أصبح يناقشها ويفككها ويطالب بتطويرها بما يتماشى مع تطلعاته… ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن ضعف التواصل الرسمي حول أهداف الإصلاح وآلياته قد ساهم في تعميق الهوة بين الأطراف المعنية.
المؤسسات التي تولت مهمة الإعداد لهذا المشروع لم تفلح في بناء سردية مقنعة حول ضرورة هذه التعديلات، ودخلت في صراعات صغيرة حول تمرير المقترحات والتصوّرات… بل إن وزير العدل الحالي يميل بوضوح نحو طرح الملف في إطار التقاطب الأيديولوجي، مما ترك المجال مفتوحا للتأويلات والتخوفات، خاصة ما يتعلق بالقضايا الحساسة مثل زواج القاصرات والتعدد والنفقة.
ورغم الإيجابيات التي يمكن استنباطها من النقاش المجتمعي الدائر، إلا أن تآكل الثقة يجعل من الصعب بناء توافق واسع حول أي مشروع إصلاحي كبير. ومصدر الخطورة هنا، أن الإصلاحات التي يُفترض أن تأتي لمعالجة اختلالات قائمة قد تُصبح، في ظل غياب الثقة، مصدرا جديدا للتوتر والانقسام.
هذا الانغلاق يجعل الإصلاح يبدو وكأنه قرار مفروض من أعلى، لا نابعا من إرادة جماعية تعبّر عن تطلعات المجتمع ككل. وبدلا من أن يكون التغيير قانونيا واجتماعيا شاملا، فإنه يُخاطر بالظهور كمشروع تقني أو بيروقراطي يفتقر إلى الروح المجتمعية التي تمنحه الشرعية.
والنقاش الذي اشتعل حول تأثير التعديلات الجديدة على الزواج ومعدل الخصوبة… لا يمكن اختزاله في كونه مجرد تحفظات عابرة؛ بل هو انعكاس عميق لهواجس تتعلق بفقدان التوازن الاجتماعي. بل تعكس هذه المخاوف شعورا متجذرا لدى قطاعات واسعة من المجتمع بأن التعديلات المقترحة قد تُحدث تغييرا جذريا في البنية الاجتماعية دون أن تُرافقها ضمانات واضحة للحفاظ على استقرارها.
يفترض نظريا أن القوانين تأتي لخدمة مصلحة الجماعة، لأنها الأداة التي تُنظم بها المجتمعات علاقاتها وتحدد من خلالها أولوياتها. لكن في حالة مدونة الأسرة، يبدو أن الخط الفاصل بين مصلحة الفرد والجماعة أصبح شفافا.
فالأحكام التي تهدف إلى تحقيق الإنصاف للأفراد، مثل النفقة أو الحضانة، يجب أن تُوازن مع ما تراه الجماعة ضروريا لاستقرار الأسرة كمؤسسة اجتماعية. هنا يظهر تحد كبير: كيف يمكن للقانون أن يحقق هذه الموازنة في ظل بيئة تغلب عليها التوترات بين الأجيال والتغيرات الثقافية وضعف البناء المؤسساتي؟
والدولة، التي يُفترض أن تضطلع بدور الحامي للنسيج الاجتماعي، تبدو وكأنها عالقة في دوامة من التناقضات. فمن جهة، تسعى إلى إرضاء الفئات المحافظة التي تخشى أي تغيير يُهدد الموروث الثقافي والديني، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطا متزايدة من النخب الحقوقية والسياسية التي تطالب بالتحرر والانفتاح.
هذا التخبط يُبرز غياب رؤية استراتيجية متماسكة تُجيب على السؤال الأساسي الذي يطرحه كل مواطن: إلى أين نحن ذاهبون؟
في النهاية، الإصلاح الحقيقي ليس مجرد تعديل في النصوص القانونية، بل هو مشروع متكامل يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة وبين الدولة والمجتمع. وما دام المجتمع ينظر إلى الإصلاحات بعين الشك، فإن أي إنجاز قانوني سيظل ناقصا، بل وقد يتحول إلى مصدر جديد للصراعات.