story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الفخ الديمغرافي

ص ص

كشف أخيرا المندوب السامي الجديد في التخطيط، وزير الداخلية والتعليم السابق، شكيب بنموسى، عن عناوين النتائج المفصلة للإحصاء العام للسكان والسكنى.
نتائج لا تؤكد ما كان متوقعا فقط، بل تدق نواقيس الخطر بخصوص مستويات تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمغرب، وتكشف تقدّم العامل الديمغرافي بسرعة أكبر من المتوقّع لتعميق الاختلالات القائمة حاليا.
كثيرون صعقوا عند سماعهم نسبة البطالة “الحقيقية” التي كشف عنها بنموسى في ندوته الصحافية ليوم أمس الثلاثاء 17 دجنبر 2024، والتي تجاوزت عتبة العشرين في المئة؛ لكنني شخصيا وإن كنت أعي خطورة هذا الرقم الذي يسقط الكثير من الأساطير الحكومية، تماما كما أسقط الإحصاء أسطورة تغطية 86 في المئة من المغاربة صحيا بينما لا تتجوز هذه النسبة عتبة السبعين في المئة؛ لكنني صعقت أكثر لرقمين آخرين، أولهما هو معدل الخصوبة الذي بات يجعلنا رسميا ضمن خانة الشعوب السائرة في طريق الانقراض، ونسبة الأمية التي ما زالت، وبعد سبعين عاما من الاستقلال والسياسات والميزانيات والملايير، تمسّ ربع الساكنة الإجمالية للمغرب، والله وحده يعلم مستوى تعليم القسم الأكبر من الأرباع الثلاثة الأخرى.
تراجع معدل الخصوبة في المغرب إلى ما دون عتبة تجديد الأجيال، أي أقل من 2.1 طفل لكل امرأة، يحمل دلالات عميقة ويعكس تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة.
فهذا المؤشر الديموغرافي ليس مجرد رقم إحصائي، بل يعبر عن تغييرات جوهرية في البنية المجتمعية والثقافية للمغرب، وينذر بتحديات مستقبلية إذا لم يتم التعامل معه بسياسات استراتيجية واعية.
فهو يعكس تحولا ثقافيا كبيرا في بنية الأسرة المغربية، حيث أصبح التركيز على جودة الحياة والتعليم ورعاية الأطفال يتقدم على فكرة العائلة الكبيرة التي كانت سائدة في العقود الماضية. إلى جانب ارتفاع نسب التعليم، خاصة بين النساء، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل. اللذان أسهما في تأخير سن الزواج وتقليل عدد الأطفال.
كما ساهم تضخم تكاليف المعيشة في المدن الكبرى، وتحويل السياسات الرسمية لخدمات أساسية مثل التعليم والصحة إلى سلعة تباع في السوق لمن يستطيع الدفع، في تعزيز الميل نحو تحديد النسل، حيث تواجه الأسر المغربية صعوبة متزايدة في التوفيق بين تربية الأطفال ومتطلبات الحياة اليومية.
ويعكس هذا النمط التوجهات العالمية في المجتمعات ذات النمو الاقتصادي المتسارع، لكنه يضع المغرب أمام تحديات جديدة تتعلق بكيفية الحفاظ على ديناميكية اقتصاده وضمان توازنه الديموغرافي.
فانخفاض الخصوبة إلى هذا المستوى سبق أن حدث في دول أخرى مثل اليابان، وإيطاليا، وكوريا الجنوبية، مع فارق وحيد يميّزنا عن هذه النماذج، هو كوننا لم نحقق الطفرة الاقتصادية والتنموية التي تسمح بتمويل العجز الذي يخلّفه انخفاض نسبة الخصوبة من حيث القوة العاملة ونفقات رعاية المسنين.
ففي هذه الدول، كان هناك ارتباط وثيق بين الانخفاض في معدل الخصوبة وفترة ازدهار اقتصادي عرفت بـ”العائد الديمغرافي” أو “النافذة الديمغرافية”. هذا العائد يحدث عندما تقل نسب الإعالة بسبب انخفاض عدد الأطفال، ويزداد عدد السكان في سن العمل، مما يعزز الإنتاجية ويساهم في نمو اقتصادي سريع.
وفي الوقت الذي يمثّل انخفاض معدل الخصوبة فرصة للدول الناهضة اقتصاديا، فإنه يشكل عبئا إضافية في حالة المغرب، لسبب بسيط هو ضعف استثماره في الرأسمال البشري، وحالة الفشل التي توجد عليها المنظومة التعليمية.
وإذا استمر معدل الخصوبة في الانخفاض، فإن التركيبة السكانية للمغرب ستشهد تحولات عميقة، وستتجه البلاد تدريجيا نحو شيخوخة سكانية، مما سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الإعالة، حيث سيقل عدد السكان في سن العمل مقارنة بعدد كبار السن.
وسيؤثر هذا التحول بشكل مباشر على الإنتاجية الاقتصادية، ويفرض ضغطا كبيرا على نظامي الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، اللذان يعانيان أصلا من العجز ويواجهان شبح الإفلاس.
أما اجتماعيا، فقد يؤدي تراجع حجم العائلات إلى ضعف النسيج الاجتماعي التقليدي الذي يعتمد على العائلة كمصدر رئيسي للدعم والرعاية. وهو ما يعني زيادة أهمية الدولة والمؤسسات في تقديم خدمات الرعاية لكبار السن، مما يستلزم استثمارات كبيرة في البنية التحتية الاجتماعية.
كما يمثل التناقص الديمغرافي تحديا جيوسياسيا بالغ الخطورة للدول، لأنه يؤثر بشكل عميق على قدرتها على الحفاظ على نفوذها الإقليمي والدولي، وضمان أمنها القومي واستقرارها الداخلي.
فالعنصر الديمغرافي يصبح في هذه الحالة من عوامل تراجع القوة الاقتصادية والإنتاجية للدولة، من خلال انخفاض حجم القوة العاملة بفعل تناقص عدد السكان، مما يحد من قدرة الدولة على دعم اقتصادها ونموه، وارتفاع عبء الشيخوخة على الدولة لتغطية تكاليف الرعاية الصحية والتقاعد، ما يقلل الموارد المتاحة للاستثمار في القطاعات الحيوية والتنمية الاقتصادية، إلى جانب تراجع القدرة التنافسية مع الدول التي تتوفر على سكان شباب واقتصاد ديناميكي، ما يضعف دورها في الاقتصاد العالمي.
بل إن ضعف العامل الديمغرافي يؤدي إلى انخفاض القدرات العسكرية والدفاعية، بسبب تقلّص عدد الأفراد المؤهلين للانخراط في الجيش، مما يضعف قدرة الدولة على حماية حدودها والقيام بعمليات دفاعية وهجومية، مما يضطرها لتعويض ذلك باستخدام التكنولوجيا المتقدمة، والتي تتطلب استثمارات هائلة قد لا تكون متاحة دائما.
وإذا كان الجالية المغربية المنتشرة حاليا في أرجاء العالم من مصادر قوة المغرب، سواء اقتصاديا أو سياسيا أو من حيث توفير قوة ناعمة تدافع عن المصالح العليا للوطن؛ فإن الدول التي تعاني من تناقص ديمغرافي تجد صعوبة في الحفاظ على نفوذها الثقافي والسياسي عبر العالم، حيث تقل قدرتها على التأثير في الشؤون الدولية.
بل إننا قد نضطر إلى التوجه نحو تسهيل هجرة الأجانب نحو المغرب، لتعويض النقص في القوى العاملة الشابة، وهو ما يتطلب استراتيجيات متكاملة لضمان اندماج المهاجرين في المجتمع.
وتتطلب مواجهة هذا الوضع تحفيز الأسر على الإنجاب من خلال حوافز مالية، وتوفير خدمات رعاية وتعليم الأطفال بأسعار معقولة، وتشجيع بيئات عمل مرنة تتيح للنساء الجمع بين الأسرة والعمل، والتوسع في قطاعات الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر التي تقلل الاعتماد على القوى العاملة البشرية…
باختصار، غياب النمو الاقتصادي في المغرب، رغم التحول الديمغرافي، قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ”الفخ الديمغرافي”، حيث يُهدر العائد التنموي المحتمل ل”النافذة الديمغرافية” بسبب السياسات الخاطئة والتخطيط غير الدقيق.
وإذا استمرت الفجوة بين الإمكانيات السكانية والاقتصادية، فإن المغرب قد يواجه خطر شيخوخة السكان في المستقبل دون أن يكون قد استفاد من النافذة الديمغرافية الحالية… أي “لا ديدي لا حبّ الملوك”.