story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الإعدام الرحيم!

ص ص

أعادت ذكرى اليوم العالمي لحقوق الانسان، الاتي تحل في العاشر دجنبر من كل سنة، نقاش عقوبة الإعدام إلى الواجهة، من خلال إعلان الحكومة قرارها التصويت بالموافقة، لأول مرة، على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرتقب صدوره منتصف هذا الشهر، بعدما كان المغرب يصوّت بالامتناع في النسخ التسع الماضية من هذا القرار.

عاد النقاش ليذكّرنا بالهواية المفضلة عند الساسة المغاربة، وهي رقصة السكين على الحبال، والارتعاش بين الشيء ونقيضه، وعدم القدرة على الاختيار بين عتمة السجون وأحكام الموت الباردة.

هذا النقاش حول موضوع الإعدام من الحجج الدامغة على استحالة تحقيق أي تقدّم فعلي بالاعتماد على محترفي السياسة، الذين نرجى بركتهم. فسواء الفريق الذي يتبنى زعم المطالبة بإلغاء هذه العقوبة، أو من يدافعون على بقائها، يقترفون أنصاف المواقف ويمعنون في تزكية الغموض والضبابية.

القرار الجديد الذي أعلنته الحكومة بالتصويت لصالح القرار الأممي لا يعني حدوث أي تطوّر فعلي، إلا ذر الرماد في العيون، بما أن القرار يوصي بالكف عن تطبيق الإعدام وهو ما يفعله المغرب منذ ثلاثين عاما. كما أن الموقف المحافظ، والذي عبّر عنه في السياق الحالي حزب العدالة والتنمية، لا يقل “فدلكة” بما أنه يدافع عن بقاء العقوبة في القوانين المغربية بمبررات دينية، دون أن تكون له الجرأة الكافية ليطالب بتطبيقها بما أن القاعدة القانونية توضع لتطبّق لا ليُتيمّم بها.

كفاكم لغوا ينساب كالسم في شرايين القوانين، كفاكم ترديدا لآيات العدالة وأحاديث الرحمة، بينما أعينكم مشدودة إلى صناديق الاقتراع لا إلى أرواح البشر وحقوقهم. لا تخشوا الضوء ولا الحقيقة، فالموت لا يحتمل المراوغة، والدم لا يُمحى بالكلمات الملفّقة.

الدول كما استحدثها الإنسان المعاصر لا تقوم على إرث الانتقام ومقايضة الدم بالدم، ولا تُبنى أركانها على مشاعر الغضب التي تعمي البصيرة. بل هي في جوهرها محاولات متواصلة للاقتراب من العدالة، مع العلم اليقين أن الكمال مستحيل. وحين نُبقي عقوبة الإعدام قائمة، فإننا نُعلن سعينا الجماعي لإرضاء غريزة الانتقام، لا لتحقيق العدالة.

العدالة لن تكون يوما في إنهاء حياة إنسان، مهما كانت جريمته، بل في أن تُظهر الدولة أنها قادرة على الترفع عن الرغبة في القصاص الدموي، وأنها تسعى لترميم ما يمكن ترميمه، وحماية ما يمكن حمايته.

الدولة التي تعاقب بالإعدام تنسى أن دورها ليس محاكاة الغضب الشعبي والنيابة عن المظلومين في إشباع رغبته في الانتقام، لننتقل من الانتقام الشخصي إلى الانتقام الرسمي، بل تهذيبه وقيادته نحو مجتمع أكثر إنسانية.

القرارات والمواثيق الدولية تدعو إلى الكف عن تطبيق عقوبة الإعدام سعيا إلى مرحلة انتقالية تفضي إلى الإلغاء التام لهذه العقوبة، ولا يمكن تقديم وضعية تعليق التنفيذ كما لو كانت فتحا مبينا أو إنجازا لا يضاهى.

الإصرار على الاحتفاظ بعقوبة الإعدام في القوانين والنطق بها في المحاكم، مع الامتناع عن تطبيقها قد يكون حلا مؤقتا ومرحلة انتقالية تساعد النفوس على قبول الإنهاء التام للعمل بهذه العقوبة. أما تحويل هذا المؤقت إلى دائم فيوقعنا في حالة لا تقل سوءا ووحشية، لأن “وقوع البلاء أهون من انتظاره” كما اتقول الحكمة المأثورة.

أن نترك شخصا، بصرف النظر عن تهمته وجرمه وعدالة محاكمته، في منزلة وسطى بين الموت والحياة هو ضرب من ضروب التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة، وليس مدعاة لأي فخر.

الانتظار المطول تحت حكم بالإعدام هو حالة نفسية وإنسانية مؤلمة يتعرض لها الأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام حتى وهم يعلمون أن تنفيذه مستبعد. فالشخص المحكوم عليه بالإعدام يعيش في حالة من التوتر الدائم والخوف، ويضاعف غياب موعد محدد للإعدام من معاناته، ما يجعله غير قادر على التنبؤ بمصيره أو التكيف مع واقعه، ويدخله في دوامة من الأرق، والكوابيس، والاكتئاب الشديد، ويمكن أن تصل الحالة إلى حد الانهيار العقلي، وفقدان القدرة على التفكير أو التواصل بفعالية.

والحل هنا ليس هو تنفيذ العقوبة، تحقيقا لفعلية القاعدة القانونية ودرءا لهذه المعاناة، بل في إلغاء وجودها أصلا في القوانين والتشريعات، لأن الحقيقة التي تنطق بها المحاكم هي حقيقة قضائية وليست حقيقة منزّلة من السماء لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

يعرف الجميع أن احتمال الخطأ القضائي وارد، وفي سجلات الإنسانية ما لا يعدّ ولا يحصى من الحالات التي أدين فيها أبرياء النظام القضائي، كيفما كان وفي جميع السياقات، ليس معصوما من الخطأ. ومع وجود أخطاء في التحقيقات، وشهادات الشهود غير الدقيقة، والتأثيرات المجتمعية والإعلامية، يمكن أن يُعدم شخص بريء.

فكيف نقبل لأنفسنا، والقانون يعبّر عن إرادتنا الجماعية، أن نكون قاتلين محتملين ولو لبريء واحد؟ ألن يحقّ عليها حكم الإعدام الجماعي وفقا لمفهوم القصاص الذي يستند إليه المدافعون عن استمرار العقوبة؟ لماذا لا تتم المطالبة بإعدام جماعي للأمم التي ثبتت فيها حالات أحكام قضائية خاطئة أفضت إلى قتل أبرياء باسم الإرادة الجماعية؟

ثم كيف لنا أن ننكر أننا ومهما حاولنا الرقي بالمنظومة القضائية فإننا نظل غير متساويين أمام المحاكم، الفقراء والمهمّشون والأقليات هم أكثر عرضة من غيرهم للسقوط تحت حكم بالإعدام. ليست لنا نفس القدرات المادية والمكانة الاجتماعية والعلاقات كي نحصل على محاكمة منصفة ونتمتع بدفاع قوي.

ثم إن القصاص لا يعني بالضرورة إنهاء حياة المذنبين المفترضين، بل هو إنهاء قدرتهم على إيذاء المجتمع وإخراجهم من دائرته الآمنة. فلسفة القصاص لا تجعل إزهاق الأرواح حتميا، بل تتطلب تحقيق العدل بمعناه الأعمق، الذي يكفل حماية المجتمع وجبر الضرر، دون أن ينحدر إلى مستوى الجريمة ذاتها.

إعدام المجرمين، بمعناه الرمزي، يمكن أن يتحقق من خلال عزلهم وعقابهم بطرق تضمن عدم تكرار أفعالهم دون اللجوء إلى القتل. الفكرة هنا ليست في إراقة الدماء، بل في إبعاد الشرور المحتملة ووضع حد لامتداد الجريمة، مع الحفاظ على القيمة العليا التي تمثلها الحياة.

لا أفهم لماذا يصرّ المناصرون لعقوبة الإعدام على إنكار الحقائق العلمية والإحصائية الثابتة بالتجربة، والتي تقول إن تطبيق الإعدام ليس له أي انعكاس على مؤشرات الجريمة، أي أنها لا تنخفض بله أن تختفي. وعلى الراغبين في التأكد مراجعة المعطيات التي تقارن بين الولايات الأمريكية التي تطبّق الإعدام بتلك التي لا تطبّقه.

حجّة المدافعين عن عقوبة الإعدام من منطلق ديني ضعيفة وواهية في الشكل قبل الموضوع، لأنهم لا يجرؤون على استحضار الآيات القرآنية والأحاديث، كما يفهمونها، في آلاف، بل ملايين النوازل والقضايا والوقائع التي نشرّع لها عبر البرلمان دون أن يعني ذلك التنكر لمرجعياتنا الثقافية والدينية؛ لكنهم يسارعون إلى إخراج النصوص الدينية في بضع حالات من بينها عقوبة الإعدام.

حتى من داخل المرجعية الدينية، العقوبات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي، والشريعة الإسلامية تهدف إلى تحقيق العدالة، وحفظ النفس، ونشر الرحمة. وعلى الرغم من وجود عقوبة الإعدام في النصوص الشرعية لبعض الجرائم (مثل القتل العمد والحرابة)، إلا أن التشريع الإسلامي حرص على تقليل استخدامها وتطبيقها في أضيق الحدود.

الإسلام نص على القصاص صحيح، لكنه يعطي أهمية كبيرة لمبدأ الاحتياط في الدماء، ويدعو إلى منح المذنبين فرصة للتوبة والإصلاح، وحتى في الجرائم التي يمكن أن تؤدي إلى الإعدام، هناك مساحة كبيرة للعفو من قبل أولياء الدم.. زليه هذا منطلق متين للاجتهاد والدفع نحو تحقيق المبادئ الدينية بعيدا عن مقايضة الدم بالدم؟

القصاص الحقيقي هو قتل الشر وعزله عن المجتمع، لا إنهاء الحياة.