story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

10 ملاحظات على محاكمة حنان بكور

ص ص

أسدلت محكمة الاستئناف بالرباط صباح أمس الخميس 05 دجنبر 2024، الستار على فصول محاكمة ستحتفظ بها سجلات التاريخ المغربي على أنها واحدة من أغرب محاكمات الرأي والتعبير. وقرّرت المحكمة تأييد الحكم الابتدائي الصادر عن ابتدائية سلا، والذي أدان الزميلة الصحافية حنان بكور، وحكم عليها بشهر حبسا موقوف التنفيذ، مع غرامة مالية قدرها خمسة آلاف درهم، وتعويض قدره درهم رمزي لفائدة… حزب التجمع الوطني للأحرار.
وبما أن كاتب هذه السطور تابع فصول هذه المحاكمة كاملة، وباعتبار أن القضية تشكل سابقة فريدة في التاريخ المعاصر للمغرب، حيث لم يسبق قط لحزب سياسي أن رفع دعوى قضائية ضد مواطن بسبب تعبير هذا الأخير عن رأي أو قيامه بتعليق، هذه ملاحظات لابد من تسجيلها:
1 يتعلّق الأمر بسلسلة تدوينات كتبتها الصحافية حنان بكور في سياق تفاعلات ما بعد انتخابات 8 شتنبر 2021. وبما أن تلك الاستحقاقات شهدت الجمع بين الانتخابات التشريعية والانتخابات الجماعية والجهوية في يوم واحد، فقد عاشت جل أنحاء المملكة فصول انتخابات غير مباشرة لتشكيل الأغلبيات وانتخاب الرؤساء والمكاتب في الجماعات الترابية، وهو ما يتخلله صراع محموم، وعنيف في بعض الأحيان.
التدوينات المقصودة في هذه المحاكمة تتعلّق بمخاض تشكيل أغلبية داخل مجلس جهة كلميم واد نون، والتي كان الراحل عبد الوهاب بلفقيه مرشحا شبه حصري للفوز بها، قبل أن يسحب منه حزب الأصالة والمعاصرة التزكية لخوضها، بعدما كان قد انتقل إليه قادما من حزب الاتحاد الاشتراكي. خطوة تلاها حادث الوفاة المأساوية لبلفقيه، حين عِثر عليه مدرجا في دمائه. وقبل أن تنهي النيابة العامة أبحاثها وتعلن أن الأمر يتعلّق بانتحار، كانت عملية انتخاب رئيس الجهة تتم كما لو أن شيئا لم يحدث، وهو ما علقت عليه حنان بكور باستنكار.
2 لم توجّه الصحافية في تدويناتها أي انتقاد أو اتهام لحزب التجمع الوطني للأحرار أو مرشحته، الوزيرة السابقة امباركة بوعيدة، بل تساءلت في تدويناتها عن مواقف كل من حزبي الاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة، وتساءلت أين النيابة العامة وأين وزارة الداخلية…؟ واستنكرت أن تزفّ امباركة بوعيدة إلى منصب الرئاسة في الوقت الذي لم تكن فيه دماء عبد الوهاب بلفقيه قد جفت بعد ولا سبب وفاته قد عُرف بشكل رسمي.
3 بادر حزب التجمع الوطني للأحرار إلي تقديم شكاية ضد حنان بكور، مدبّجا تأويلات واتهامات وعبارات غير واردة أصلا في تدويناتها، ومن الملفت أن النيابة العامة تعاملت بسرعة ملحوظة مع شكاية الحزب، حيث أُحيل الملف في اليوم ذاته على الضابطة القضائية. ويُثير هذا الإجراء تساؤلات حول مدى حيادية القضاء في التعامل مع قضايا تتعلق بأطراف سياسية نافذة، في مقابل رفض النيابة العامة الاستماع إلى أطراف محورية مثل امباركة بوعيدة يعكس خللًا في معالجة الملف، خاصة وأنها كانت محور الشكاية الأصلية.
الغريب في هذه القصة أن النيابة العامة ومعها الضابطة القضائية توجها فورا إلى بيت الصحافية حنان بكور، وتم استدعاؤها للتحقيق، لكون التدوينات منشورة في حسابها الشخصي الذي يحمل صورتها وصفتها المهنية… أي أن كونها صحافية هو ما سمح بالربط بين التدوينات المنشورة وشخص حنان بكور، ومن ثم التوجه إلى عنوان بيتها واستدعائها… لكن التكييف القانوني للقضية سيتجاهل الصفة المهنية تماما.
4 تقرّرت المتابعة وفقا لمقتضيات الفصل 447 مكرر 2 من القانون الجنائي، وهو الذي ينص على معاقبة كل من قام بأية وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، دو ن موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، قصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم.
تطبيق هذا الفصل القانوني على شكاية حزب سياسي سيبقى أغرب ما في هذه القضية، لكون الحزب السياسي ليس شخصا يمكن التشهير به أو المس بحياته الخاصة، لأنه لا يملك حياة خاصة أصلا. ولتجاوز هذه المعضلة، عمد الحزب إلى توظيف شخص امباركة بوعيدة، كما لو كانت هذه الأخيرة طفلا أو قاصرا لا أهلية له. بل إن بوعيدة لم تحضر بأي شكل من الأشكال في الملف، ولم تعبّر نهائيا عن رغبتها في التقاضي، كما لم يقدّم الحزب ضمن وثائق الملف، ما يؤسس لحقه في الحديث باسمها.
5 اختارت النيابة العامة متابعة حنان بكور وفق القانون الجنائي بدلا من قانون الصحافة والنشر، وهو ما أثار جدلًا قانونيا واسعا استفاضت فيه مرافعها هيئة دفاعها في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية. فريق الدفاع ركّز على أن القوانين المغربية تمنح حماية خاصة للصحافيين المهنيين، وأن متابعة الصحافية بالقانون الجنائي تُعدّ تجاوزا لتوجهات جنائية مستقرة لأكثر من عشر سنوات، حيث اعتمدت القضايا المشابهة على قانون الصحافة. بل إن هناك دورية رسمية للرئيس السابق للنيابة العامة، الرئيس المنتدب الحالي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النبوي، توجه النيابات العامة في مختلف المحاكم إلى عدم تحريك المتابعة بناء على شكايات ضد صحافيين، وترك المجال مفتوحا أمام الشكايات المباشرة.
هذا النقاش حول المادة القانونية المستخدمة يعكس توجّهًا نحو تضييق مساحة حرية التعبير، إذ فُسّرت بعض العبارات التي وردت في تدوينات بكور بأنها تحمل إساءة، رغم أن الدفاع أكد خلوها من ذكر مباشر لحزب التجمع أو أي إساءة شخصية واضحة.
6 رفضت النيابة العامة مطلب الاستماع إلى أطراف محورية مثل امباركة بوعيدة، واستعملت عبارة “هي من هي” في ردها على مطالب هيئة الدفاع في المرحلة الابتدائية، وهو ما يطرح سؤالا كبيرا حول المساواة بين المغاربة أمام القضاء وقدرة هذا الأخير على فرض سلطته على الملفات والوصول إلي الحقيقة.
بل إن كلا من النيابة العامة والطرف المدني لم يقدّما في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية، أي معطى دقيق حول كلمة أو عبارة أو فقرة تتضمن إساءة أو سبّا أو قذفا لامباركة بوعيدة أو لحزب التجمع الوطني للأحرار. دفاع الصحافية حنان بكور طالب مرارا وتكرارا أمام القضاء بتوضيح ما هي العبارات التي تعتبر مسيئة حتى تتم مناقشتها، دون أن يتلقى أي رد.
7 جاء الحكم الابتدائي مقتضبا ومقتصرا على خمس صفحات، القسم الأكبر منها عبارة عن نقل حرفي لمضمون شكاية حزب التجمع الوطني للأحرار. فيما غابت كل الساعات الطويلة التي رافع فيها دفاع الصحافية حنان بكور وقدّم فيها دفوعاته الشكلية وتطوّع، في غياب أي تعبير واضح من جانب النيابة العامة أو الطرف المدني عن عبارة أو كلمة تتضمن إساءة أو نشرا لادعاءات كاذبة… بالتعليق على مضامين التدوينات بالتفصيل الممل.
بل إن الحكم جاء منطويا على أخطاء فادحة، من قبيل حديثه عن تدوينات نشرت سنة 2012، بينما تتحدث الشكاية عن تدوينات نشرت في سنة 2021، وإحالته على الفصل 447 من القانون الجنائي، والذي يتعلّق بإفشاء السر المهني للمصانع، خلافا للفصل 447 مكرر 2 الذي تقررت المتابعة على أساسه…
8 أعادت القضية فتح النقاش حول حدود حرية الصحافة في المغرب، خصوصا في نقد الشخصيات العامة والأحزاب. وقد أشار الدفاع في مرافعاته إلى أن الشخصيات السياسية، بموجب طبيعة عملها، تخضع للنقد العام الذي يُعد جزءا من العملية الديمقراطية، وأن هذه القضية قد تفتح الباب أمام محاكمات مشابهة تضيق الخناق على الصحافيين.
ويثير الوضع الخاص للحزب الذي يقف وراء هذه الدعوى وصفة رئيسه الذي هو رئيس الحكومة، الكثير من المخاوف المرتبطة بتأثير النفوذ السياسي والاقتصادي على حرية الرأي والتعبير، ومدى إعمال الحماية الدستورية والقانونية والقضائية لهذه الحريات، في ظل الثغرات الكبيرة التي ينطوي عليها هذا الملف شكلا ومضمونا.
9 تأتي القضية في سياق حساس يتسم بتزايد التوترات بين الصحافة والسلطات السياسية في المغرب. منظمة العفو الدولية ومنظمة مراسلون بلا حدود وصفتا المحاكمة بأنها تعكس قمعًا لحرية التعبير، مما يضع المغرب تحت المجهر الدولي فيما يتعلق بالتزامه بحقوق الإنسان وحرية الصحافة
وقد استحضر الدفاع أمثلة تاريخية، مثل تعامل الصحافة مع شخصيات قوية خلال فترة إدريس البصري، دون الوصول إلى محاكمات مشابهة، مما يوحي بتغيّر في التوجه العام نحو التضييق على الصحافة. والحكم الصادر ضد حنان بكور يُعتبر سابقة قد تُؤثر في مستقبل الصحافة المغربية، حيث يمكن أن يُستخدم كأداة للضغط على الصحافيين لتجنب تناول قضايا حساسة تتعلق بأحزاب أو شخصيات نافذة.
10 القضية ليست فقط نزاعا قانونيا، بل هي تجسيد لصراع أعمق حول موقع حرية التعبير في المغرب. واختبار للنظام القضائي ومدى استقلاله في مواجهة النفوذ السياسي، كما أنها تضع علامات استفهام حول مستقبل الصحافة المغربية في ظل هذه الظروف.
الرسالة الأكبر التي ترسلها هذه القضية هي أن حرية التعبير ما زالت مجالا للتفاوض في المشهد السياسي المغربي، ما يفرض تحديا على الدولة لضمان التوازن بين حماية سمعة الأطراف السياسية وتعزيز الحقوق الأساسية للمواطنين والصحافيين.