دونالد ترامب رئيسا لأمريكا من جديد.. الصفقات والنار
أعاد الشعب الأمريكي انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، على حساب منافسته كمالا هاريس. فوز ترامب كان ساحقا، إلا أنه عاد مجروحا.
ففي انتخابات 2020، حين خسر الانتخابات أمام جو بايدن، شكّك ترامب في النتيجة، وتسبب أنصاره في فوضى بأمريكا حين أقدموا على اقتحام مقر الكونغرس، ما أجبر الجيش الأمريكي على التدخل لحماية المؤسسات، بينما أحيل ترامب لاحقا على القضاء، الذي وجّه إليه صك اتهام ثقيل من 34 تهمة، وأصبح أول رئيس أمريكي يدان بجرائم جنائية تتعلق بمخطط لمحاولة التأثير على انتخابات 2016.
باستحضار هذا السياق، يبدو سليما القول إن ترامب عائد لتصفية حساباته مع القوى التي لاحقته، حيث يتهم بشكل مباشر “الدولة العميقة” في أمريكا، وهي المعركة التي ستفرض عليه التركيز على السياسة الداخلية خلال فترته الرئاسية الثانية، على أن تحدد أولوياته في الداخل أولوياته في الخارج أي مضمون السياسة الخارجية لإدارته.
لكن يبدو من الصعب توقع ما الذي يمكن أن يفعله ترامب الجديد، فهو لا يستند إلى أي مرجعية أمريكية سابقة في السياسة الخارجية الأمريكية، إذ أنه ليس “انعزاليا” حتى لو رفع شعار “أمريكا أولا”، وليس “عالميا” كذلك.
وإذا كانت خلفيته التجارية تسمح له بتحويل السياسة إلى مجال للصفقات، وبالتالي لاتفاقات غير متوقعة، كما فعل في فترته الرئاسية الأولى (2016-2020)، إلا أن سياسته الاقتصادية ارتكزت على الحمائية وعلى فرض المزيد من التعريفات الجمركية، وقد توعد خلال حملته الانتخابية الأخيرة برفع التعرفة الجمركية على الصين إلى ما بين 60 و100 في المائة، إلى جانب فرض تعريفات جمركية في حدود 10 في المائة على الواردات من جميع الدول الأخرى حول العالم.
وبالرغم من الاعتقاد الشائع بأنه شخص غير منضبط لأي قواعد أو مؤسسة، وينصت أكثر لغرائزه، كما أشار إلى ذلك مستشاره السابق للأمن القومي، جون بولتون، عندما دعا كل من يحاول فهم سلوك ترامب “لا تحاولوا”؛ إلا أن مستشارا آخر للأمن القومي، هو روبرت أوبراين، والذي حلّ محل بولتون في شتنبر 2019، قدم رؤية أكثر توازنا لترامب، في مقالة نشرتها مجلة “فوريين أفيرز” في يونيو 2024، بسط فيها منظور ترامب للسياسة الخارجية في فترته الرئاسية السابقة، بالقول إن سياسة ترامب الخارجية تقوم على معادلة “استعادة السلام بالقوة” والتي تجد مرجعها في العبارة الرومانية الشهيرة “إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب”.
وإذا كان من غير المعروف هل سيستمر أوبراين ضمن الفريق الجديد لترامب في البيت الأبيض، إلا أنه يظل مرجعا هاما لمعرفة نوايا ترامب وتوجهاته، خصوصا وأنه يتوقع أن تجسد الفترة الرئاسية الجديدة لترامب “استعادة السلام من خلال القوة”.
في هذه الورقة سنحاول تفكيك سياسات ترامب السابقة لفهم توجهاته المقبلة سواء إزاء المنافسين الرئيسيين لأمريكا مثل الصين وروسيا، أو سياساته في الشرق الأوسط باعتبارها منطقة مشتعلة وتؤثر علينا في المغرب ومحيطه، كما تحاول أن تفكيك آفاق العلاقات المغربية الأمريكية في ظل الإدارة الجديدة على ضوء الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، وآثار كل ذلك على الملفات الأساسية مثل قضية الصحراء.
سياسة الضغوط القصوى
منذ 2010، تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الصين تهديدا لمكانتها العالمية. وقد ورد هذا التأكيد في الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، التي تعكس تصور أمريكا للعالم وللتهديدات التي تستهدف القيادة الأمريكية للعالم.
لم تختلف أي إدارة أمريكية لاحقة حول هذه الحقيقة، لكن الاختلاف ظل في التكتيك، أي حول أنجح السبل لتطويق الصين وتعطيل صعودها العالمي.
والملاحظة الرئيسية في هذا السياق أن ترامب كان متشددا مع الصين، خصوصا لما فرض تعريفات جمركية مرتفعة على نصف البضائع الصينية التي تصدر إلى السوق الأمريكية، بل فرض عقوبات شديدة على الشركات الصينية المتخصصة في التكنولوجية المتقدمة مثل “هواوي”.
ورغم مجيء الديمقراطي جو بايدن إلى الرئاسة في 2020، لم يتراجع عن تلك الإجراءات، لكنه حاول التخفيف منها، مفضلا بناء تحالفات عسكرية وأمنية واقتصادية لتطويق الصين، مع دول حليفة لأمريكا مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند وفيتنام وأستراليا. طالما انتقد ترامب إدارة بايدن، لأنه تعامله مع الصين يعني أنها ليست تهديدا.
وفق تحليل أوبراين فإن الهدف الرئيسي للصين هو “الحلول محل الولايات المتحدة كزعيم عالمي في التطوير التكنولوجي والابتكار في المجالات الحيوية مثل السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية”. وللوصول إلى ذلك تدعم شركاتها بكل الطرق، بما في ذلك الإعانات المالية، والممارسات التجارية غير النظيفة، لتخفيض الأسعار ودفع الشركات الغربية المنافسة إلى الإفلاس.
اتبع ترامب سياسة المواجهة مع الصين في ولايته الأولى، ويتوقع أن يلجأ إلى مزيد من التصعيد ضدها في الولاية الرئاسية الثانية، بهدف أن “تظل أمريكا المكان الأفضل للاستثمار والابتكار والإبداع في العالم”.
ويتطلب ذلك إعادة النظر في الإجراءات البيروقراطية لدى الدول الغربية، لتعزيز قدرات الشركات الغربية على المنافسة، وتحفيزها بمختلف الوسائل لتظل على رأس القائمة. وإذا كانت إدارة بايدن قد حافظت على العلاقات الاقتصادية مع الصين، فإن ترامب، خلال حملته الانتخابية، دعا إلى الفصل وفك الارتباط معها، ليس من خلال رفع تعريفات جمركية مرتفعة على نصف الصادرات الصينية إلى أمريكا، كما فعل في الفترة الرئاسية الأولى، بل رفع نسبة التعريفة الجمركية بنسبة 60 إلى 100 في المائة على البضائع الصينية دون استثناء، ومنع تصدير أي تكنولوجيا أمريكية قد تكون مفيدة إلى الصين.
لكن لا يعني ذلك الذهاب إلى الحرب بين البلدين، لكن استخدام الاقتصاد مرة أخرى لتفجير الصين من الداخل، على غرار الأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية سابقا مع الاتحاد السوفياتي.
يدرك بايدن أن أسلوب العقوبات الاقتصادية سيكون محدودا في النهاية، فهو قد يؤثر سلبا على الاقتصاد الصيني، لكنه لن يحطمه. في هذا السياق، يقترح تعميق التحالفات في محيط الصين، مع الدول الحليفة لأمريكا، مثل اليابان وأستراليا والهند وكوريا الجنوبية، وأيضا مع الشركاء التقليديين لها مثل أندونيسيا والفلبين وفيتنام.
الملاحظ هنا أن ترامب قد يكمل عملية تأسيس وهندية للمبادرات التي اشتغلت عليها إدارة جو بايدن من قبل، أي مواصلة إحياء تحالف “العيون الخمس Five Eyes” الذي تأسس خلال الحرب الباردة، وجرى الحديث عنه مجددا في 2013 في سياق التعبئة لمواجهة صعود الصين، علاوة على حلف “كوادQuad ” للتعاون الأمني والعسكري بين أمريكا والهند واليابان وأستراليا، أنشيء سنة 2007 لتعزيز الحوار الأمني بين الدول الأربع، وبعد تعثر لحوالي عشر سنوات أعاد ترامب إحياءه من جديد في سنة 2020، وقد ترأس بايدن قمته الأولى في مارس 2021.
وفي مارس 2023 أعلن عن حلف “أوكوس Aukus” بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، لإنشاء أسطول جديد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية. ويرتقب أن يواصل ترامب تفعيل هذا التوجه العابر للإدارات الرئاسية الأمريكية، ديمقراطية كانت أو جمهورية.
ومن شأن سياسة التصعيد المرتقبة بين ترامب والصين أن تتجلى أكثر في ملف طايوان، التي تعتبرها الصين جزء من ترابها الوطني، تتمتع بالحكم الذاتي فقط، بينما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لتجعل منها قاعدة متقدمة في خاصرة الصين. لكن ترامب، كرجل صفقات، لن يوفر الحماية لطايوان دون مقابل، بل يريد منها أن تدفع أكثر.
وفي مقالة أوبراين تخصص طايوان 19 مليار دولار للدفاع القومي، وهو لا يتعدى في تقديره 3 في المائة من ناتجها الاقتصادي السنوي، ويراه رقما ضئيلا وأقل من اللازم. يريد ترامب من الدول الحليفة رفع ميزانياتها الدفاعية، مقابل صفقات عسكرية وتسليحية أكثر تقدما، ويقترح على الكونغرس المساعدة في بناء القوات المسلحة للحلفاء في تلك المنطقة مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام، بما في ذلك منحها نفس الأسلحة التي تسلم لإسرائيل.
فوضى الشرق الأوسط
توصف إيران في مقالة أوبراين بكونها المنبع الرئيسي للفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ويقترح سياسة أمريكية تقوم على المواجهة والتصدي، بل تدمير برنامجها النووي، وهي رؤية يتقاسمها المحافظون الأمريكيون من شتى الأطراف.
لكن بالعودة إلى الفترة الرئاسية السابقة للرئيس ترامب، نجد أنه فضل ما أسماه “العقوبات القصوى” بدل الحرب.
وإذا أخذنا تصريحاته خلال الحملة الانتخابية الأخيرة بأنه لن يقحم أمريكا في أي حرب جديدة، من المرجح أن ينخرط ترامب مرة أخرى في سياسته السابقة، أي تشديد العقوبات، ويمكن أن نتوقع العكس، ربما صفقة كبرى مع إيران على غرار تلك حاول نسجها مع رئيس كوريا الشمالية في صيف 2019.
الخيار الأول امام ترامب سبقت تجربته، أي إنهاك إيران بأقصى العقوبات الاقتصادية الممكنة، مع إلزام كل الدول الحليفة لأمريكا والشركات والأبناك بالامتثال والتنفيذ، خصوصا الدول السبع الاقتصادية الكبرى، ودول الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة. بل هناك يقترح توسيع تلك العقوبات لتشمل جميع الشركات الدولية، مهما تكن جنسيتها، إن هي أقدمت على التعامل مع إيران بغرض خرق العقوبات الأمريكية.
هذا الخيار سبقت تجربته، وبالرغم من أنه حقق بعض الأهداف في ردع إيران، إلا أنه لم يحقق كل أهداف، فلا إيران تراجعت عن أهدافها، ولا عن العواصم العربية التي احتلتها، مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
كما أن إيران قد تكون طوّرت من وسائل وأدواتها لتجاوز والالتفاف على سيناريو العقوبات القصوى خلال السنوات الخمس الماضية، مستفيدة من تساهل إدارة بايدن، ومن ارتفاع أسعار البترول في السوق الدولية، ومن الشراكات التي أبرمتها مع حلفائها مثل الصين وروسيا ومع شركائها مثل تركيا والعراق وأذربيدجان. ويمكننا أن نتوقع من الآن محدودية هذا الخيار، وإمكانية أن يلجأ ترامب إلى مفاوضات جوهرية مع إيران، كما فعل مع كوريا الشمالية وروسيا من قبل.
ما يزكي إمكانية حدوث هذا السيناريو، أن سلوك ترامب السياسي لا يمكن توقعه، كما أن وعوده بوقف الحروب يشجع عليه، فقد وعد خلال حملته الانتخابية للرئاسة بوقف الحروب، ويعني بذلك أنه لن يسمح لأمريكا بالدخول في حرب جديدة، كما ما يعني استبعاد أي مواجهة عسكرية مع إيران في السنوات المقبلة.
وفي حال أوفى بهذا الوعد، ولم يتصرف مثلما تصرف جورج بوش الإبن سنة 2001 تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، حيث جرى غزو أفغانستان والعراق، فإن هذا الالتزام قد يدفعه إلى الخيار البديل أي التفاوض.
وتساعد عدة معطيات على المسار، فهو حين اتبع سياسة العقوبات القصوى في ولايته الرئاسية الأولى، كان قد استفاد من سياق سياسي متوتر عالي الحدة في المنطقة، تجلى في الحصار الذي ضرب حول قطر من لدن السعودية ومصر والإمارات والبحرين، كما تجلى في الحرب على اليمن، وتفكك أربعة نتيجة الحرب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن، وهو السياق الذي انتهى الآن بعودة المصالحة بين قطر وخصومها، وبالتهدئة القائمة حاليا في اليمن بين جماعة الحوثيين والسعودية، وتجميد المواجهات المسلحة في سوريا واليمن وليبيا.
بينما النار مشتعلة بين إيران وأذرعها المسلحة من جهة وبين إسرائيل وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، وحول قضية إنسانية وعربية وإسلامية حساسة هي فلسطين، ما يعني أن الوضع مختلف جذريا عن 2017.
ففي الحالة الأولى، ساعدت المواجهة بين الدول العربية وإيران في سوريا واليمن على فرض عقوبات قصوى على هذه الأخيرة، وهو الوضع الذي استفادت منه إسرائيل التي دفعت أمريكا إلى نسج تحالف عربي إسرائيل في مواجهة إيران تحت مسمى “اتفاقات أبراهام”.
أما في الحالة الثانية فإن المواجهة بين إيران وإسرائيل حول فلسطين المحتلة، تحول دون انخراط الدول العربية في أي تحالف صريح ضد إيران التي تصالحت مع السعودية بوساطة صينية، ويجعل السعودية ترفض أي تطبيع مع إسرائيل قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967.
يزعم أوبراين أن أي ضغوط جديدة من إدارة ترامب على إيران، ستلقى مساندة من دول الخليج مثل السعودية والإمارات، خصوصا إذا رأوا تصميما جديا من لدن ترامب، من أجل إحلال السلام في المنطقة.
وهو احتمال مستبعد، كما سبقت الإشارة، لأن ذلك يعني إحياء الحرب بين الحوثيين ودول الخليج، لتنضاف إلى الحرب بين إسرائيل من جهة وإيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية من جهة ثانية. وهكذا، بدل أن يوقف ترامب الحرب، سيكون سببا في توسيع دائرتها.
لذلك، يبدو السيناريو الواقعي، على خلاف ما يزعم أوبراين، أن يعمل ترامب على كف يد إسرائيل عن شعبي فلسطين ولبنان، والحفاظ على التهدئة بين اليمن ودول الخليج، مع الضغط على إيران لجرها إلى طاولة التفاوض، وليس الحرب. هذا إذا كان ترامب مصمما على منع أي حرب جديدة في المنطقة، وعازم على وقف الحروب القائمة.
لا ينصح أوبراين بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، فهو ليس من اختصاص واشنطن، على حد زعمه. بدل ذلك يدعو إلى مزيد من الدعم لإسرائيل للقضاء على المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة حماس. وهو هنا يتعارض مع تصريحات ترامب نفسه بأنه سيوقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وبإنهاء الأزمة في الشرق الأوسط من خلال العودة إلى مسار التفاوض، وهو موقف نقله عنه مساعدون آخرون له من أصول فلسطينية مثل بشارة بحبح رئيس اللجنة العربية لدعم حملة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
دعم الحلفاء … والمغرب
من المرجح أن يصطدم ترامب بخلافات حلفاء أمريكا. فالسعودية حين تشترط علانية الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، تكون قد وضعت شرطا ترفضه إسرائيل، التي تقودها حكومة متطرفة لا تقبل بالعودة إلى مسار أوسلو، كما ترفض وجود دولة فلسطينية مستقلة.
من المرجح في هذا السياق، أن يعود ترامب إلى إحياء “صفقة القرن” في نسخة جديدة، والتي تضمنت الاعتراف العربي بإسرائيل مقابل الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، وقد تستغل أطراف متعددة الوضع الحالي في غزة من أجل المضي في هذا الاتجاه، لكن هذا الخيار تعترضه قرارات سابقة لترامب نفسه، حين اعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس وعلى الجولان، وهي مواقف يصعب على الدول العربية القبول بها، بما في ذلك حلفاء أمريكا مثل الأردن والمغرب ومصر والسعودية.
تقوم سياسة ترامب منذ ولايته الأولى في هذا السياق على نسج تحالفات بين حلفاء أمريكا أنفسهم، من هنا نفسهم مساعيه لدعم التحالف بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وهو توجه يستجيب لتصورات ومصالح بعض الأنظمة لكنه لا يحل المشكلة في الشرق الأوسط من أساسها. ورغم كونه يدرك محدودية مثل هذا الخيار، يلجأ إلى تجاوز عقباته مقابل أثمان معينة لكل دولة، مثل توفير الحماية لدول الخليج، أو صفقات تسليح نوعية لأخرى، أو حتى استثمارات اقتصادية وتجارية كبرى. وفي حالة المغرب، الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء مثلا.
كل ذلك في سبيل رص الصفوف، وضمان ولاء الحلفاء لأمريكا في مواجهة الصعود العالمي للصين. وبالفعل استطاعت إدارة ترامب ثني عدة دول عن الانخراط في اتفاقيات حساسة مع الصين، أمنية وتكنولوجية، لكن الدول لا تفعل ذلك حبا في أمريكا، ولذلك لن تفتأ تطلب المزيد، أي الانخراط المتبادل على أساس المصالح المتبادلة.
ومن بين المصالح التي يقدمها ترامب لحلفائه، عدم التدخل في شؤونهم الداخلية. ففي ولايته الرئاسية الأولى وصف الرئيس المصري بـ”ديكتاتوري المفضل”، صراحة وعلى الملأ العالمي، متجاهلا التقارير العالمية حول انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام ضد قوى المعارضة في مصر.
وفي حالة دول الخليج، الأكثر ثراء بفضل ارتفاع أسعار النقط، يشترط ترامب توفير الحماية مقابل دفع الأموال والاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية. لاحظ أوبراين أن ترامب يصور في كثير من الأحيان على أنه معادي للتحالفات التقليدية، “لكنه في واقع عزز أغلبها”، فهو لم يقم بإلغاء أي عملية لحلف شمال الأطلسي(الناتو)، بل ضغط على دول الحلف من أجل الإنفاق أكثر، لتساهم في حماية حدودها.
ويرى أن ترامب لا يضغط من أجل سياسات مشابهة لسياسات أمريكا، بل يترك للحكام اختيار الأفضل لشعوبهم، على إدارة جو بايدن التي كانت تشكك في النوايا الديمقراطية للقادة المحافظين المنتخبين مثل فيكتور أوربان في المجر. ويعتبر أوبراين أن انتقاد أمثال أوربان “أكثر إثارة للقلق”.
ويشجع أوبراين ترامب على دعم المعارضين المنشقين عن النظام في إيران والصين وروسيا، لكنه لا يقول أي شيء عن المعارضة في العالم العربي، بحجة أن الأنظمة الملكية العربية صارت من بين الأكثر انفتاحا خلال العقدين الأخيرين، وينبغي منحها مزيدا من الفرص للخروج من عزلتها.
وفق هذا التصور، يبدو أن عودة ترامب في صالح المغرب أيضا، إذ أشار إليه أوبراين ضمن “الأنظمة الملكية العربية” التي صارت أكثر انفتاحا وليبرالية، والتي لا يمكن مقارنتها “بالحكومات القمعية” في الصين وروسيا.
ويعني ذلك، دعوة إلى إدارة ترامب الجديدة لمواصلة دعم حلفائها هؤلاء، أي الأنظمة الملكية العربية، مع احترام الشكل السياسي الذي اختاروه. وفي ذلك إشارة ثانية إلى أن الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تكون ضمن أجندة إدارة ترامب، دون أن يعني ذلك غياب شروط أخرى، ومنها الانخراط في المبادرات التي قد يطرحها مجددا، أو يتم إحياؤها مرة أخرى.
من المرجح، في هذا السياق، أن يعلن ترامب عن إطلاق دينامية جديدة في اتفاقات أبراهام، التي تربط دول عربية منها المغرب مع إسرائيل، وقد يضغط من أجل توسيعها لتشمل دول عربية أخرى مثل السعودية وقطر والكويت والعراق. وفي حالة المغرب، يبدو جليا وجود تباين في الرؤى بين انتظارات الحكومة المتطرفة في إسرائيل من الاتفاق الثلاثي وما حصلت عليه فعلا.
ومن وجهة نظر خارجية، تبدو استفزازات رئيس وزراء كيان إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي لوح بخريطة تفصل المغرب عن صحرائه، أربع مرات على التوالي، تعبيرا عن الامتعاض وربما رغبة جديدة في التفاوض حول مضمون الاتفاق مع المغرب، ربما من أجل الارتقاء بالعلاقات إلى التمثيل الدبلوماسي الكامل، وهو خيار يرفضه المغرب، على الأرجح، إلى حين الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقبل على حدود 1967.
ويكمن مصدر الخلاف في رؤيتين: مغربية تعتبر أن تعميق التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية يقتضي، ولو كرها، المرور عبر إسرائيل، حيث إن التطبيع معها كان من مستلزمات الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا، وبين رؤية إسرائيلية تطلب علاقات استراتيجية مع المغرب في إطار ثنائي أساسا، وإن كانت تحظى بالدعم الأمريكي.
مثل هذه الخلافات في الرؤى هي التي سيواجهها ترامب في ولايته الثانية، خصوصا بين حلفاء أمريكا الذين تتعاظم مصالحهم مع قوى ومناطق أخرى غير الغرب، وهي خلافات طبيعية تفرضها المصالح وتجد تفسيرها في تحولات النظام الدولي كذلك، كما تفرضها التطورات الضاغطة في المنطقة على الأنظمة وعلى الشعوب مثل العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني واللبناني، والتي تلجم الأنظمة العربية عن المضي بنفس الحماس السابق في التعامل مع إدارة ترامب، حتى لو كان رجل صفقات بامتياز.
خلاصة القول أن ترامب إذ يسعى إلى تعزيز السلام مقابل التهديد بالقوة، إلا أنه يواجه نظاما عالما جديدا يتطور بسرعة، تظل على رأسه أمريكا حتى الآن، لكن تصعد إلى قمته قوى دولية وإقليمية أخرى لها مصالح كذلك، ويسمح صعودها المستمر للدول الصاعدة والنامية بالمناورة أكثر.
في هذا السياق، تبدو جميع الاحتمالات ممكنة ومتوقعة من رئيس مغرور بعض الشيء، خبر التجارة والسياسة معا، بحيث يمكنه إبرام الصفقات في أماكن غير متوقعة، كما يمكنه إشعال النار في حال أدرك أن خسارته مؤكدة.
لقراءة الملف كاملا، يرجى الاشتراك في مجلة “لسان المغرب”، بالضغط على الرابط