تحرير المحبس
“حدث عادي في يوم غير عادي”، بهذه العبارة أعادني تعليق المسؤول الأمني السابق في جبهة البوليبساريو، المنشق عنها حاليا بعد معاناة طويلة مع قادة تندوف، مصطفى سلمة، إلى الفكرة الأولى التي راودتني وأنا أحاول جمع شتات المعطيات الخاصة بالاستهداف العسكري الذي تعرض له تجمع مدني في منطقة المحبس أول أمس السبت 9 نونبر 2024.
التقرير السنوي الأخير الذي قدّمه الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي، أكد ما ورد في تقارير السنوات الثلاث الأخيرة، من كون القوات المغربية المرابطة على طول الجدار الرملي، تتعرض لعمليات إطلاق نار بما معدله عمليتين في اليوم الواحد، فيما انخفضت هذه الوتيرة في السنة الماضية إلى أقل من عملية واحدة كل يومين.
أي أننا أمام سلوك روتيني يتواصل منذ إعلان الجبهة الانفصالية، ومن خلفها الجارة الجزائر بطبيعة الحال، الانسحاب من طرف واحد من اتفاق وقف إطلاق النار، احتجاجا على استرجاع المغرب لسيطرته الكاملة على معبر الكركرات خريف 2020. وحسب تقارير الأمم المتحدة التي تعتمد إلى جانب إفادات القوات المسلحة الملكية، على معاينة بعثة المينورسو المباشرة، فإن جل هذه العمليات تتركز في منطقة المحبس هذه.
يتعلّق الأمر هذه المرة بحضور كثيف وغير مسبوق لعدسات الكاميرات، المهنية منها والخاصة بالهواتف الذكية، فرضه تنظيم فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان المسيرة الخضراء، بحضور كاتب دولة ووالي الجهة وعامل الإقليم وطيف واسع من المسؤولين والمنتخبين، وهو ما منح العملية زخما ربما لم تحصل عليه البوليساريو منذ إطلاقها ما يعرف في منصات التواصل الاجتماعي بعمليات “الأقصاف” ضد القوات المغربية.
هو مهرجان سنوي تحتضنه جماعة المحبس التابعة لإقليم آسا الزاك، من 09 إلى 11 نونبر 2024، احتفالا بالذكرى 49 للمسيرة الخضراء. وكان المهرجان لحظة تنفيذ الهجوم يعرف مشاركة كاتب الدولة المكلف بالصناعة التقليدية، لحسن السعدي، في حفل التوقيع على اتفاقيات ترمي إلى تنمية هذا القطاع محليا، أي أن هجوم المقاتلين الانفصاليين استهدف بشكل مباشر عملا تنمويا يمس الساكنة المحلية.
الزخم الإعلامي الذي تبحث عنه جبهة البوليساريو منذ سنوات، والذي تحقق لها هذه المرة، كان مفعوله عكسيا، ليس لأن القوات المسلحة الملكية تعقّبت منفذي الهجوم وقصفتهم، حسب ما يستنتج من مقطع فيديو يبدو أنه لأحد المهاجمين الذين استعجل الاحتفال الضربة لتفاجئه “خبطة” جوية وهو على المباشر؛ بل لأن المشهد كان يتعلّق بخيمة تعج بالمدنيين، وبعضهم، إن لم يكن جلّهم، من أبناء الصحراء، ما يجعله يفقد الطابع العسكري الموجه ضد “الطرف الآخر” بحسب ما تعتقده الجبهة، إلى عمل لا يبتعد كثيرا عن الطابع الإرهابي ضد أبناء الصحراء أنفسهم.
السؤال الذي يفرض نفسه في ظل هذه المعطيات، هو لماذا المحبس تحديدا؟ ولماذا يوجه مقاتلو البوليساريو قرابة 70 في المئة من عملياتهم الهجومية نحو هذه المنطقة؟
الجواب بسيط عند كل من يحوز الحد الأدنى من المعرفة بجغرافية المنطقة، ذلك أن المحبس هي النقطة الأقرب إلى قواعد جبهة البوليساريو في تندوف الجزائرية، بمسافة تناهز 90 كيلومترا حسب المسؤول السابق في شرطة البوليساريو، مصطفى سلمة، والذي يذهب إلى أن الجدار الرملي الذي يحمي هذه المنطقة من التراب المغربي يظهر بالعين المجردة من داخل تندوف.
وحين نستحضر حجم المراقبة الدقيقة التي بات المغرب يتمتع بها بفضل الأقمار الاصطناعية والطائرات بدون طيار، فإن المقاتلين الانفصاليين يختارون النقطة الأقرب إلى قواعدهم، من أجل تتفيد العمليات قبل أن ترصدهم ردارات القوات المسلحة الملكية وعدساتها، ثم من أجل التمكن من الفرار والعودة إلى القواعد بعد التنفيذ.
وإلي جانب هذا البعد التكتيكي، لمنطقة المحبس أهمية استراتيجية أخرى، كونها النقطة التي يستطيع الجيش المغربي الانطلاق منها لإغلاق الطريق نحو المنطقة الواقعة شرق الجدار الرملي، وهي ليست منطقة عازلة كما يردّد الجميع، بل إن الطابع العازل يقتصر حسب اتفاقات وقف إطلاق النار على شريط لا يتجاوز عرضه 15 كيلومترا بعد الجدار.
انطلاقا من المحبس يمكن للمغرب ربط ترابه بأقصى نقطة شمال حدوده مع موريتانيا، كما كان الحال في معبر الكركرات الذي انتقل من نقطة داخل التراب المغربي إلى نقطة التماس الجنوبية مع الحدود الموريتانية، وبالتالي يصبح ما تسميه البوليساريو “الجيش الصحراوي” محروما من ولوج مجال جغرافي يناهز 20 في المئة من مساحة الصحراء، ويعتبرها حاليا في بلاغاته الدعائية منطقة محررة.
أي أنه لن تعود هناك أية إمكانية للوصول مجددا إلى تفاريتي إلا عبر اختراق التراب الموريتاني.
سيناريو “تحرير المحبس” هذا الذي يتردد منذ عملية الكركرات التي تمت بنجاح باهر، يعززه التحول الذي شهدته مناورات الأسد الإفريقي التي يستضيف فيها المغرب سنويا قوات أمريكية ضخمة، والتي باتت في الأعوام الأخيرة، تشمل منطقة المحبس، في جزئها الواقع شمال المنطقة المتنازع عليها.
هذا عن “لماذا المحبس؟”
ليصبح السؤال الثاني الذي يحتاج إلى تطوير جواب جماعي، هو إلى أي حد ينبغي الاستمرار في تجاهل هذه العمليات التي تقوم بها البوليساريو ضد جيش المغرب ومواطنيه؟
يعتبر إخفاء أخبار المعارك العسكرية التي تخوضها الدول عن الشعوب مسألة معقدة تحمل أبعادا متعددة، تتعلق بالأمن القومي، والصالح العام، وحق المواطن في المعرفة.
فمن جهة أولى، قد يكون هذا الإخفاء مفيدا لتحقيق الاستقرار وتجنب تأثير الأخبار السلبية على الروح المعنوية للمواطنين والجنود. فالمعلومات الحساسة عن الوضع العسكري، إذا تم الكشف عنها بشكل غير مدروس، قد تخلق حالة من الخوف والقلق، أو حتى تثير الشائعات التي قد تؤدي إلى فوضى.
كما أن إبقاء بعض المعلومات طي الكتمان قد يمنع الأطراف المعادية من استغلالها، ويحد من تأثير الحملات الدعائية المضادة التي قد تلجأ إليها تلك الأطراف.
ومن جهة ثانية، قد يكون هذا الإخفاء مضرا إذا شعر المواطنون بأنهم مستبعدون أو غير مهمين في قرارات تؤثر على مستقبلهم وأمنهم.
فغياب الشفافية قد يؤدي إلى انعدام الثقة بين الشعب والسلطة، خاصة إذا تزايدت التساؤلات حول أسباب خوض المعارك، ومدى أهميتها، وتأثيراتها على المواطنين.
الشفافية المدروسة التي تتيح بعض المعلومات، أو تحافظ على مستوى معين من الصراحة، قد تساهم في الحفاظ على الثقة، وتقليل الشعور بالعزلة عن القرارات الاستراتيجية التي تمس الوطن بأكمله.
وفي بعض الحالات، تكون الإشارة إلى العمليات العسكرية دون تفاصيل مخرجا مناسبا، إذ يحقق توازنا بين مصلحة الأمن القومي وحق الشعب في الاطلاع.