انقراض الثقة
إذا كان هناك معطى هام وحيوي كشفه الإحصاء العام للسكان والسكنى، فهو بالنسبة لي التراجع الخطير في منسوب الثقة من جانب المغاربة تجاه مؤسساتهم الرسمية وقراراتها.
الدليل، لمن يحتاج إلى مزيد أدلة، هو رد الفعل هذا الذي تابعناه في اليومين الماضيين، بعد الإعلان (بطريقة مريبة) عن عدد السكان القانونيين للمغرب، بناء على نتائج الإحصاء الذي أجري طيلة شهر شتنبر الماضي، والذي ينمّ عن تشكيك كبير وغياب للثقة.
انطباع عام لا شك أن طريقة الإعلان عن هذا الرقم الجديد، الذي يفيد أن مجموع سكان المغرب يقارب 37 مليونا، عززته أكثر. فقد تم الإلقاء بهذه المعلومة بين يدي المغاربة بطريقة تعبّر عن غياب التقدير تجاهها من جانب الدولة نفسها.
قمت بالبحث عن طريقة الكشف عن أرقام الإحصاء العام للسكان والسكنى السابق، الذي جرى في شتنبر 2014، فوجدت أن المندوب السامي السابق، أحمد الحليمي، لم يقدّم النتائج الكاملة بين يدي الملك سوى في شهر مارس الموالي (2015)، هذا صحيح، لكنه عقد ندوة صحافية يوم 13 أكتوبر 2914، وقدّم فيها عرضا مفصلا تضمه وثيقة من 16 صفحة، وأجاب عن أسئلة الصحافيين وأدلى بتصريحات وافية…
فلماذا تم اليوم رمي نتائج إحصاء 2024 في وجوهنا كما ترمى الأزبال في القمامة؟
أمن أجل هذا صدّعتم رؤوس المغاربة طيلة شهور من الإشهارات والتواصل والدعاية؟
أبهذه الطريقة تقدّمون نتيجة عمل كلّف ما لا يقلّ عن 150 مليار سنتيم، تصرّفتم فيها خارج قواعد صرف المال العام وضوابط الصفقات العمومية؟
وهل بهذه الطريقة ستعيدون ثقة المغاربة في مؤسساتهم وما تنتجه من قرارات واختيارات؟
الحقيقة أن الإحصاء من الخيمة خرج مايل، وكتبنا في هذه الصحيفة وفي هذا الركن قبل أسابيع من انطلاق عملية الإحصاء، أن هناك ضعف في إشراك المواطنين ومساعدتهم على الانخراط في عملية حيوية تجرى مرة واحدة كل عشر سنوات.
وقلنا مسبقا إن المواطن المغربي في 2024 ليس هو المواطن نفسه الذي أحصيتموه في 2014 و2004 وما قبلهما، وإننا في حاجة إلى شفافية ووضوح أكبر حول خلفيات ورهانات العملية، وحول كلفتها المالية وطريقة التصرف في الملايير التي تدفقت خارج الضوابط القانونية والعادية لإنجارها.
لا شيء علمي أو منطقي يفرض التشكيك في نتائج الإحصاء، لكن رد الفعل شبه الجماعي الذي صدر عن المغاربة تجاه رقم أقل من 37 مليونا كمجموع للسكان القانونيين للمملكة، يفيد اتّساع الهوة بين الدولة والمجتمع، وعجز هذا الأخير عن هضم ما يصدر عن المؤسسات الرسمية من معطيات واختيارات.
وزادت طريقة الإعلان عن هذا الرقم، التي تنم عن رغبة واضحة في ازدراء العملية كلها، من إضعاف منسوب الثقة في الأرقام المعلنة، والتي تستدعي حدّا أدنى من التقدير تجاه المعنيين بها. وأقل ما كان يمكن القيام به هو ندوة صحافية يحضرها مسؤولون ومتخصصون في علوم الإحصاء والديمغرافيا، لأن المعطى الأساسي مختلف كثير ا هذه المرة.
فإذا كان معدل النمو الديمغرافي السنوي قد انخفض من 1,38 في إحصاء 2004 إلى 1,25 في المائة سنة 2014، فإنه هذه المرة تراجع إلى 0.85 في المئة، أي أننا نزلنا تحت عتبة الواحد في المئة، والتي تعني تباطؤا كبيرا في النمو السكاني، واقترابنا الشديد من مرحلة “الركود” إن لم يكن التناقص السكاني، وبالتالي دخولنا في مرحلة “الانقراض”.
بعد المجلس الحكومي الذي صادق أمس على المرسوم المحدد للسكان القانونيين أمس الخميس، كشفت المندوبية السامية للتخطيط التي عيّن وزير التربية الوطنية السابق الذي كان يجلس “على قلب” رئيس الحكومة” على رأسها، بدلا من أحمد الحليمي الذي لم يكن أخنوش يكن له ودا كبيرا، أن عدد الأسر المغربية ارتفع بنحو مليوني أسرة، لكن حجم الأسرة تراجع من 4.6 فرد إلي 3.9 فرد.
هذا معطى يتطلّب الوقوف عنده بعناية وتخصيص المعنيين به بحدّ أدنى من التقدير والاحترام، والنزول من الأبراج العاجية التي يقبع فيها المسؤولون من أجل الشرح والتفسير والتحليل.
في علم الإحصاء الديموغرافي، يشير تزايد عدد الأسر مع انخفاض حجمها وتراجع معدل النمو السكاني إلى عدة ظواهر اجتماعية واقتصادية، منها:
• تغيّر هيكل الأسرة: عادة ما يعني تزايد عدد الأسر الصغيرة أن الأسرة التقليدية الكبيرة بدأت في التلاشي، ليحل محلها أنماط أسرية أصغر حجما، مثل الأسر ذات الفرد الواحد، أو أسر الأزواج بدون أطفال. وغالبا ما يرتبط ذلك بارتفاع معدلات الطلاق، وزيادة نسبة الأفراد الذين يعيشون بمفردهم أو يؤخرون الزواج، وتراجع عدد الأبناء في الأسر.
• توجهات اجتماعية وثقافية جديدة: يشير انخفاض حجم الأسر إلى تغييرات في القيم الثقافية والاجتماعية، مثل تفضيل عدد أقل من الأطفال أو الابتعاد عن مفهوم الأسرة الكبيرة. ويمكن أن يرتبط ذلك بالزيادة في نسبة النساء العاملات في ظروف لا تسمح لهن برعاية أسرة، وزيادة مستوى التعليم، والرغبة في تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.
• تفشي الشيخوخة: يعتبر انخفاض معدل النمو السكاني مؤشرا على زيادة نسبة كبار السن في المجتمع، حيث ينخفض معدل الولادات بينما ترتفع نسبة الشيخوخة. ويؤدي ذلك إلى تزايد عدد الأسر التي تتكون من أفراد مسنين يعيشون بمفردهم أو في أسر صغيرة.
• تراجع معدلات الخصوبة: يعكس انخفاض معدل النمو السكاني تراجعا في معدلات الخصوبة والإنجاب. يمكن أن يكون ذلك نتيجة عوامل اقتصادية، مثل تكاليف تربية الأطفال، أو بسبب تفضيلات الأفراد، مثل تأخير الإنجاب أو اختيار إنجاب عدد أقل من الأطفال.
• انعكاسات الاقتصادية: تؤثر هذه التغييرات على مختلف السياسات الاقتصادية، حيث يزيد الضغط على نظام الضمان الاجتماعي والتأمينات الصحية بسبب ارتفاع نسبة كبار السن. كما تؤثر على سوق العقارات، حيث يصبح هناك طلب أكبر على المنازل الصغيرة والشقق الفردية، وقد تشهد الأسواق التجارية تفضيلات استهلاكية مختلفة، مرتبطة بانخفاض حجم الأسر.
• الأثر العمراني: تؤثر هذه الظواهر كذلك على تخطيط المدن والبنية التحتية، حيث تحتاج المجتمعات إلى مرافق تخدم الأفراد والأسر الصغيرة، مثل الشقق السكنية المدمجة وسهلة الولوج والمساحات الترفيهية للأسر الصغيرة، بدلاً من المشاريع التي تخدم الأسر الكبيرة.
• …
أرأيتم كيف أن ما ألقيتموه فوق رؤوسنا من معطيات، بكل ازدراء، يستحق منكم تقديرا أكبر، إن لم يكن لأهمية المعطيات وانعكاساتها الخطية، فللملايير التي اقتطعتموها من جيوب دافعي الضرائب وصرفتموها على هذه العملية؟