story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

30 عاما على مسار برشلونة.. خارطة طريق جديدة للتعاون الأورومتوسطي

ص ص

في أجواء تحمل الكثير من رمزية العودة إلى نقطة الانطلاق الأولى، احتضنت برشلونة هذا الأسبوع أشغال المنتدى الإقليمي العاشر للاتحاد من أجل المتوسط، الذي يتزامن مع الذكرى الثلاثين لإطلاق ما يعرف بمسار برشلونة سنة 1995، وما حمله من وعد ببناء فضاء مشترك للحوار والسلام والازدهار بين ضفتي المتوسط.

وعلى مدى أسبوع كامل، من 22 إلى 28 نونبر 2025، تحوّل قصر “بيدرالبيس” ومقرّ الأمانة العامة للاتحاد ومؤسسات أخرى في المدينة إلى منصة مكثفة للاجتماعات الوزارية واللقاءات رفيعة المستوى، جمعت وزراء خارجية الدول الأعضاء الـ 43، وممثلين عن الحكومات والسلطات المحلية والمجتمع المدني والمنظمات الإقليمية والدولية، في محاولة لتجديد الالتزام الجماعي بالتعاون المتوسطي في ظرف إقليمي ودولي بالغ التعقيد.

الذروة السياسية للحدث خصّص لها يوم الجمعة 28 نونبر، مع انعقاد الاجتماع الوزاري لوزراء الخارجية برئاسة مشتركة بين الأردن والاتحاد الأوروبي، وباستضافة إسبانيا، حيث يُنتظَر أن يعتمد الوزراء رؤية استراتيجية جديدة للاتحاد من أجل المتوسط، وأن يباركوا في الوقت ذاته “الميثاق من أجل المتوسط” الذي أعدّه الاتحاد الأوروبي بمعية شركائه الجنوبيين.

ربط الشعوب والدول والاقتصادات

الوثيقة المركزية في أشغال هذا المنتدى هي “رؤية الاتحاد من أجل المتوسط 2025″، التي طوّرتها الأمانة العامة بناء على تكليف من المنتدى الإقليمي التاسع عام 2024. وتعيد هذه الرؤية تأكيد أهداف الاتحاد التأسيسية، مع مواءمتها مع السياق الجيوسياسي والبيئي المتغير في المنطقة.

وترتكز الرؤية على مفهوم”“الترابط” بثلاثة أبعاد كبرى هي:

  1. ربط الشعوب عبر التعليم والتنقل والبحث العلمي وبناء المهارات وخلق فرص الشغل اللائقة، مع تركيز خاص على الشباب والنساء، والهجرة القانونية على أساس نهج حقوقي، وإشراك المجتمع المدني في بلورة السياسات ورصدها.
  2. ربط الدول من خلال حوار سياسي مستمر، وتعزيز القدرة الإقليمية على الصمود أمام الأزمات، ودمج العمل المناخي، وأمن المياه والطاقة والغذاء، والحماية المدنية في مقاربة واحدة، بما يجعل من الاستدامة والمرونة ركيزتين أساسيتين للاستقرار.
  3. ربط الاقتصادات عبر تقوية التجارة والاستثمار والتكامل الإقليمي، وتطوير شبكات الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر، وتحديث البنى التحتية للنقل والموانئ، ودعم التحول الرقمي والاقتصادين الأخضر والأزرق، بما يرسخ المتوسط كمركز حيوي للطاقة المتجددة وسلاسل القيمة المشتركة.

وتتضمن الرؤية كذلك إصلاحا مؤسسيا وماليا عميقا داخل الأمانة العامة للاتحاد، يهدف إلى رفع الكفاءة التشغيلية، وربط الميزانية ببرامج عمل متعددة السنوات، وتعزيز الشفافية والملكية المشتركة بين الدول الأعضاء.

الأمين العام للاتحاد، ناصر كامل، اعتبر أن هذه اللحظة تمثل “نقطة تحوّل” في مسار الاتحاد، قائلا إن برشلونة ستكون هذا الأسبوع “عاصمة الحوار المتوسطي”، وإن الرؤية الجديدة تجعل من الاتحاد “منصة رئيسية للعمل الجماعي تربط بين الشعوب والبلدان والاقتصادات، وتحوّل روح عملية برشلونة إلى سياسات ومشاريع ملموسة”.

“ميثاق من أجل المتوسط”.. إطار بثلاثة أعمدة

بالتوازي مع اعتماد الرؤية الجديدة، يطلق الاتحاد الأوروبي وشركاؤه الجنوبيون “الميثاق من أجل المتوسط” كإطار عمل عملي متعدّد الأبعاد، يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسية:

  • تحسين ظروف العيش وتوسيع الفرص أمام السكان، مع تركيز خاص على التشغيل والتعليم والحماية الاجتماعية.
  • بناء اقتصادات أكثر استدامة وتكاملا بين ضفتي المتوسط، من خلال الاستثمار في الطاقة الخضراء، وربط البنى التحتية، ودعم الابتكار والرقمنة.
  • تعزيز الأمن وإدارة الهجرة على أساس نهج شراكة ومسؤولية مشتركة، بعيدا عن المقاربات الأمنية الضيقة.

ويأتي تعيين أول مفوض أوروبي مخصص للمتوسط، إلى جانب هذه الحزمة من الإجراءات، ليؤشر إلى ترقية المتوسط إلى أولوية سياسية وهيكلية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

حضور خليجي وسوري.. تحوّلات معادلة الشراكات

يتميّز المنتدى الإقليمي العاشر بحضور عربي لافت، من خلال مشاركة الأردن بصفته شريكا في الرئاسة المشتركة، ووجود وفود عربية من دول المشرق والمغرب والخليج، إلى جانب مشاركة رئيس البرلمان العربي في قمة رؤساء البرلمانات للاتحاد من أجل المتوسط، المنعقدة بالتوازي في القاهرة.

استوقفت المراقبين، على نحو خاص، مشاركة الحكومة السورية لأول مرة منذ سنوات في نقاشات المنتدى.

واعتبر ستيفانو سانّينو، المدير العام لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج في خدمة العمل الخارجي الأوروبي، أن الأمر يمثل “تحوّلا مهما” لأنه يعني، حسب تعبيره، “أننا لا نتحدث عن سوريا فقط، بل نتحدث مع سوريا”.

واستغل سانّينو جلسة “المرونة والتعافي الإقليميين” للتأكيد على أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول المنطقة بلغت مرحلة متقدمة من النضج، وأن الشراكات الجديدة، وفي مقدمتها “الميثاق من أجل المتوسط”، ستسمح بتوسيع التعاون في ملفات الأمن الغذائي والمائي، والطاقة، وتطوير الاقتصادات المحلية، مع التركيز على الشباب والنساء والاقتصاد الاجتماعي.

من جهته، شدّد جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، في كلمته أمام أحد لقاءات المنتدى صباح الخميس 27 نونبر، على ضرورة العمل الدولي المشترك لمواجهة الأزمات المناخية والاقتصادية والإنسانية والأمنية العابرة للحدود، مستعرضا رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي التي أطلقت عام 2024، وشبكة علاقاته الدولية المتنامية، وخاصة الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.

وفي الملف الفلسطيني، ذكّر البديوي بأن فلسطين تظل في صميم أولويات مجلس التعاون، مشيدا بالمبادرات الدبلوماسية الدولية الداعية إلى تسوية سلمية عادلة، وبالجهود الرامية إلى وقف الحرب في غزة وتنفيذ حل الدولتين.

من الغابات إلى المدن والمجتمع المدني

لم يقتصر الحراك في برشلونة على الاجتماع الوزاري، بل سبقه ورافقه برنامج ثري من الفعاليات الجانبية، أعاد إبراز الأبعاد المحلية والمجتمعية والثقافية للشراكة الأورومتوسطية، من بينها:

  • القمة الأورومتوسطية للمناطق، التي جرت في قصر بيدرالبيس، وجمعت قادة الأقاليم والسلطات المحلية لاعتماد إعلان مشترك حول دور الجهات في هندسة التعاون المتوسطي، وإبراز مركزية الحكومات المحلية في تجسير السياسات مع احتياجات المواطنين.
  • الورشة الأورومتوسطية الثانية حول حرائق الغابات في مكتب تمثيل الاتحاد الأوروبي ببرشلونة، والتي ناقشت تنامي مخاطر الحرائق بفعل تغير المناخ، وأهمية تبادل الخبرات والابتكار العلمي وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر والوقاية والاستجابة، بمشاركة مسؤولي الحماية المدنية وخبراء من وكالات أوربية ودولية.
  • مؤتمر المجتمع المدني الأورومتوسطي 2025 بقصر ماكايا، الذي جمع أكثر من مئة ممثل لمنظمات إقليمية ومؤسسات بحثية، لبحث سبل تحويل الرؤى المشتركة إلى عمل ميداني في قضايا العدالة الاجتماعية والمناخ والتكامل الاقتصادي، وإعلاء صوت المجتمع المدني في بلورة السياسات.
  • مؤتمر شبكة مدن المتوسط برشلونة+30، الذي ركز على تعزيز قيادة المدن في التحول البيئي والاجتماعي، بمشاركة رؤساء بلديات من الضفتين وشخصيات أوروبية وعربية، في سياق إبراز أن التحولات العالمية تبدأ من المستوى المحلي.
  • المؤتمر الإقليمي للمرونة والتعافي، الذي ناقش بناء شراكات استراتيجية لمواجهة الأزمات المناخية والإنسانية والنزاعات، وسبل ربط المتوسط بجواره الخليجي والأفريقي في إطار رؤية مشتركة للقدرة على الصمود.
  • وأخيرا، الفعالية الثقافية الكبرى، المبرمجة في قصر الموسيقى الكاتالونية لإحياء الذكرى الثلاثين لعملية برشلونة و”يوم المتوسط”، وتتضمن عروضا موسيقية تجمع بين الفلامنكو والتقاليد الموسيقية العربية والغجرية، في رسالة فنية تؤكد أن الثقافة لا تزال أحد أقوى الجسور بين الشعوب.

ثلاثة عقود بين الآمال والانتكاسات

منذ التوقيع على إعلان برشلونة في 28 نوفمبر 1995، تشكّل ما يسميه الباحثون “الحلم الأورومتوسطي”، لبناء فضاء مشترك للسلام والأمن والتنمية بين الاتحاد الأوروبي وجنوب المتوسط، يقوم على ثلاث ركائز: الشراكة السياسية والأمنية، والشراكة الاقتصادية والمالية، والشراكة في القضايا الاجتماعية والثقافية والإنسانية.

خلال هذه العقود، تعرّض المشروع لاختبارات قاسية؛ من تعثّر عملية السلام في الشرق الأوسط، إلى الحروب والأزمات في الضفة الجنوبية، مرورا بالأزمة المالية العالمية، وأخيرا تداعيات جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا وما صاحبها من أزمات طاقة وغذاء.

في 2008، أُعلن عن إنشاء الاتحاد من أجل المتوسط ليكون الإطار المؤسسي الذي يجمع 43 دولة من أوروبا وجنوب المتوسط. ومنذ 2015، تحوّل المنتدى الإقليمي السنوي لوزراء الخارجية إلى لحظة تقييم وتوجيه استراتيجية، حيث رافقت دوراته المتتالية تطورات مهمة، من بينها:

  • التأكيد على تسريع المشاريع الإقليمية ودعم ريادة الأعمال وخلق فرص العمل،
  • إقرار خرائط طريق وإعلانات وزارية حول الاقتصاد الأزرق والطاقة والبيئة والعمل المناخي،
  • إطلاق “اليوم الدولي للبحر الأبيض المتوسط” في 28 نونمبر،
  • تركيز متزايد على قضايا الشباب، والهجرة، وتداعيات الحروب والأزمات الإنسانية، خاصة في غزة، وعلى مسار إصلاح داخلي يهدف إلى جعل الاتحاد أكثر فاعلية وموارد.

هذه الخلفية تجعل من المنتدى العاشر أكثر من مجرد محطة بروتوكولية؛ إنه امتحان لقدرة هذا الإطار متعدد الأطراف على تجديد نفسه في منطقة تتغير بسرعة، وتواجه في الوقت ذاته تحديات بنيوية عميقة.

شراكة معزَّزة أم إدارة أزمات مستمرة؟

مع اختتام اجتماعات برشلونة، سيصدر الوزراء عن رؤية وخطاب مزدوجين: من جهة، خطاب تضامني واعد يشدد على ضرورة العمل المشترك لمواجهة تغير المناخ، وتفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وأزمات الطاقة والمياه والهجرة والأمن؛ ومن جهة أخرى، واقع ميداني يختبر قدرة هذه الالتزامات على التحول إلى مشاريع ملموسة تمسّ حياة المواطنين في الضفتين.

الرؤية الاستراتيجية الجديدة للاتحاد من أجل المتوسط، و”الميثاق من أجل المتوسط”، وحزمة الشراكات مع الفاعلين الإقليميين، من مجلس التعاون الخليجي إلى المنظمات العربية والأوروبية، تقدم أدوات واعدة لتجاوز منطق إدارة الأزمات إلى منطق الاستثمار في الحلول المشتركة.

لكن نجاح هذا المسار سيظلّ رهينا بعدة شروط، من بينها:

  • استدامة الإرادة السياسية لدى العواصم المعنية؛
  • تعبئة الموارد المالية على مستوى يوازي حجم التحديات؛
  • إشراك حقيقي للمجتمع المدني والسلطات المحلية والشباب؛
  • وربط كل ذلك برؤية واضحة لسلام عادل في الشرق الأوسط، باعتباره شرطا لا غنى عنه لأي استقرار طويل الأمد في الحوض المتوسطي.

برشلونة، التي احتضنت قبل ثلاثين عاما توقيع إعلان حمل آمالا كبيرة، تعود اليوم لتطرح السؤال نفسه على قادة ضفتي المتوسط: هل يكون العقد القادم عقد “ترابط جديد” بين الشعوب والدول والاقتصادات، أم عقدا آخر لإدارة أزمات مؤجلة؟

الجواب، كما توحي مداولات هذا الأسبوع، لن يصنعه الدبلوماسيون وحدهم، بل ستشارك في صياغته المدن، والجامعات، والجمعيات، والشباب، والنساء، وكل من يؤمن بأن المتوسط ليس حدودا طبيعية بين عالمين، بل فضاء مشتركا لمستقبل مشترك ممكن.