2975.. أسغاس أمباركي
نحتفي اليوم كمغاربة، بدخول السنة الأمازيغية الجديدة، 2975، وهي المرة الثانية التي يحل فيها هذا اليوم، 14 يناير، وهو عطلة قانونية مدفوعة الأجر.
خطوة تنطوي على أكثر من رمزية، خاصة أنها توحّد المغاربة في ارتباط ببعد ثقافي وحضاري كثيرا ما /زريد له أن يكون عامل شقاق وتفرقة. فالأمازيغية تمثل في عهد الملك محمد السادس تحولا عميقا في التعامل مع الهوية الوطنية المغربية، حيث أصبحت جزءا أساسيا من مشروع الدولة لتعزيز التعددية الثقافية وترسيخ العدالة الاجتماعية.
مع توليه الحكم، أطلق وريث عرش الحسن الثاني، دينامية جديدة لإعادة الاعتبار للأمازيغية، متجاوزا مرحلة التهميش التي عاشتها لسنوات طويلة في عهد الملك الراحل. وجاءت أبرز الخطوات عبر إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية عام 2001، والذي شكل منصة مؤسساتية لحماية الأمازيغية وتطويرها في التعليم والإعلام والحياة العامة.
اختيارات ملكية وجدت تربة خصبة تعهّدتها على مدى عقود طويلة، حركة ثقافية أمازيغية نشيطة، يحسب لها الفضل في إعادة الاعتبار لبعد أساسي في كينونة المغاربة. وأتذكّر شخصيا لقاء طبع ذاكرتي وبصم تمثلي للمسألة الأمازيغية، جمعني ب”الصدفة” بواحد من مفكري ومؤسسي هذه الحركة، وهو الراحل إبراهيم أخياط.
كنت في سنتي الأولى كطالب في معهد الصحافة، قبل أكثر من عشرين عاما، وقد اقترحت على أستاذي في مادة الصحافة المكتوبة، محمد أسمر تغمّده الله بواسع رحمته، إنجاز تحقيق حول خلافات تسرّبت أصداؤها وقتها بين أعضاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
وأنا أستطلع الموضوع وأبحث عن المصادر التي تمكّنني من الإلمام بخلفياته قبل الخوض في تطوّراته الآنية وقتها، وجدتني أمام لوحة معلقة في مدخل إحدى البنايات المقابلة لمحطة القطار المدينة، وفيها اسم ورقم الشقة التي تحتضن مقر جمعية البحث والتبادل الثقافي، الرائدة في الحركة الثقافية الأمازيغية.
توجهت نحو الشقة، وطرقت الباب، فدعاني صوت من داخل الشقة إلى الدخول، فإذا به الراحل أخياط يجلس وحيدا خلف مكتبه. سألني ماذا أريد، فأخبرته أنني أريد فهم المسألة الأمازيغية، بعدما قدمت له نفسي كطالب في معهد الصحافة…
كأب حنون وأستاذ مخلص لرسالته، خصّني الراحل يومها بجلسة باذخة، بدأها باستطلاع انتمائي الجغرافي من حيث الأصول العائلية.
بعدما علم أنني لا أتحدّر من أسرة ناطقة بالأمازيغية، سلك معي أسلوبا بيداغوجيا ذكيا، انطلق فيه من الدارجة ليُفهمني كيف ينبغي لي أن أعتبر نفسي أمازيغيا دون لسان أمازيغي، مستعرضا معي مجموعة من التراكيب والعبارات التي نستعملها لدارجتنا العربية، بينما هي في الأصل ترجمة حرفية لتعبيرات أمازيغية، من قبيل “ادخل سوق راسك”…
خرجت يومها من مكتب الراحل أخياط، وبين يدي حزمة من الكتب التي أهداني إياها مجانا، والتي ستشكل أرضية إدراكي للقضية الأمازيغية. وهكذا أعتقد أن الحال كان مع الانسان المغربي عموما، حيث تطوّر تمثّلنا الجماعي لموضوع الأمازيغية كثيرا بين عقدي التسعينيات والعشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، عبر أسلوب بيداغوجي علّمنا جميعا، ناطقين بالأمازيغية وغير ناطقين، أن المشترك الذي يجمعنا بفضل الأمازيغية أكبر مما يمكن أن نعتقد أنه يفرّقنا.
في العام 2011، شهد المغرب محطة فارقة بإقرار الدستور الجديد، الذي جعل من الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، في سابقة تاريخية تعكس إرادة الدولة في الاعتراف بالتنوع الثقافي. كما ارتبطت الأمازيغية بمبادرات التنمية الشاملة التي أطلقها الملك، حيث أضحت رمزا لتقليص الفوارق الاجتماعية والجغرافية، خاصة في المناطق الناطقة بالأمازيغية التي عانت من التهميش.
بهذا المعنى، تعتبر الأمازيغية في عهد الملك محمد السادس أكثر من مجرد مكون ثقافي؛ فهي تعبير عن رؤية استراتيجية تجعل من التنوع قوة دافعة للوحدة الوطنية والتنمية المستدامة، وترسخ مكانة المغرب كدولة متعددة الهوية ومتجذرة في عمقها التاريخي.
ولم يكن الأمر تعبيرا عن طفرة مفاجئة، بل إن الكثير من المفكرين المغاربة الكبار تناولوا الأمازيغية كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية المغربية، مبرزين دورها في صياغة الشخصية الجماعية للمغاربة.
هذا محمد عابد الجابري، يشدد على أن الأمازيغية ليست مجرد لغة أو ثقافة، بل هي عنصر أساسي في تشكيل التاريخ المغربي، داعيا إلى تجاوز الثنائية المفتعلة بين الأمازيغية والعربية لصالح مشروع وطني وحدوي؛
وذاك عبد الله العروي، يرى في الأمازيغية رافدا حضاريا يعكس التعدد الثقافي المغربي، ويدعو إلى دمجها في سياق حداثي يوازن بين التراث والانفتاح؛
وعبد الله حمودي يحكي أن الأمازيغية تجسد عمق العلاقة بين الإنسان المغربي وبيئته، مشدّدا على ضرورة الحفاظ على هذا الموروث باعتباره منطلقا لفهم الذات المغربية في تنوعها…
الأمازيغية إذن ليست مجرد موروث تاريخي يروي قصة شعب عريق، بل هي أيضا من عوامل الوحدة والانصهار. ففي تعددية المغرب الثقافية، تذوب الفوارق لتشكل نسيجا متجانسا، حيث تلتقي الأمازيغية بالعربية والإسلام والحداثة، في انسجام يعكس قوة التنوع.
لكن هذه الأجواء الاحتفالية لا يمكنها أن تنسينا النصف الفارغ من الكأس، سواء منه التخاذل الواضح في تعميم اللغة الأمازيغية والتمكين لها في الاعلام والتعليم والإدارة… أو بعض الملفات الاجتماعية والمجالية التي تفتح جروحا جديدة في جسمنا الوطني.
فالاحتفالات في تقويم الشعوب، لا تكون مجرد طقوس زمنية، بل هي رسائل عميقة تنبعث من الماضي لتعانق الحاضر وتبني المستقبل. ومع وقفتنا الجماعية مع رأس السنة الأمازيغية، تظهر المفارقة جلية: كيف نحتفي بعام جديد ونحن نضيف إلى أعباء الماضي جراح الحاضر؟
ففي الريف، هذا الجرح المفتوح في جسد الوطن، حيث لا يزال صوت المعتقلين صامتا مكتوما. هؤلاء الذين طالبوا بمستشفى ينقذ الأرواح ومدرسة تُنير العقول، يقبعون خلف القضبان وكأنهم أعداء لوطن أحبوه. إن الحرية التي يطالب بها هؤلاء الشباب ليست ترفا، بل هي حجر الأساس لأي أمل في المصالحة الحقيقية.
وفي الحوز، حيث الأرض ما زالت ترتجف تحت أقدام من فقدوا كل شيء، يكاد الشتاء يصبح كارثة أخرى فوق الكارثة. عائلات بأكملها تواجه البرد والرياح داخل خيام بالكاد تقيهم من قسوة الطبيعة.
هنا يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: ماذا يعني “إيض يناير” لهؤلاء الذين فقدوا دفء بيوتهم وأمان حياتهم؟ هل يكفي أن نشعل نارا رمزية للاحتفال بينما هناك من يرتجف تحت الغيم الداكن؟
إن الاحتفال الحقيقي يبدأ عندما تتحول الوعود إلى أفعال، وعندما تصبح إعادة الإعمار أولوية تتجاوز الحسابات البيروقراطية.
وفي أقصى الشرق المغربي وفي مناطق طاطا النائية، يكاد صوت العزلة أن يعلو على كل ما عداه. هنا، حيث الطرق الوعرة والمسافات البعيدة، تصبح الحياة اليومية معركة مستمرة ضد التهميش.
سكان هذه المناطق، الذين يعيشون على هامش الخريطة الوطنية، لا يطلبون المستحيل، بل أن يُنظر إليهم كبشر لهم حق في الكرامة والتنمية.
إن الاحتفاء برأس السنة الأمازيغية ليس مجرد لحظة رمزية للتغني بالتاريخ، بل فرصة لإعادة تعريف علاقتنا بالحاضر. إنه تذكير بأن الهوية ليست كلمات منقوشة على الحجر، بل هي حياة تُعاش بكرامة.
وإذا كان “يناير” يعني بداية جديدة، فلنجعل هذه البداية نقطة تحول حقيقية. لنحتفل بحرية المعتقلين، وبدفء يعيد الحياة لضحايا الزلازل، وبمشاريع تنمية تمسح غبار التهميش عن المناطق المنسية.