25 سنة من حكم الملك
عبد الرحيم بودلال: باحث في علم الاجتماع
نظمت جريدة صوت المغرب في برنامج لها بعنوان “من الرباط” حلقة حوارية ممتعة حول “25 سنة من حكم الملك محمد السادس”، استضاف فيها الصحفي يونس مسكين كلا من الحقوقية لطيفة البوحسيني والمناضل خالد البكاري والصحفي حمزة الانفاسي والسياسية أمينة ماء العينين.
كل من المتدخلين تناول الموضوع من زاويته الحقوقية أو السياسية، ومن خلفيته سواء الاسلامية أم اليسارية. وركز النقاش على فترات مهمة من تاريخ العهد الجديد، وهي الموت البيولوجي للملك الحسن الثاني وتولية الملك محمد السادس، والسياق السياسي لهذا الانتقال، ثم حكومة التناوب وكيف تمت الإطاحة بها بتولية حكومة التكنوقراط، ثم تجربة العدالة الانتقالية ومنها المصالحة، ثم الربيع العربي وعلاقة الملكية بالإسلاميين، ثم الاعتقالات السياسية لنشطاء الريف وللصحفيين.
ضمن كل هذا النقاش فإن كلا من المشاركين اختار منهجا علميا معينا ليقدم تقييماً للسياسات العمومية للمؤسسة الملكية خلال حكمها الخمسة والعشرين سنة.
إلا أنه من أجل حوار صريح وشفاف وقبل مناقشة الأحداث السياسية علينا أن نوضح هل المؤسسة الملكية مسؤولية أمام الشعب حول اخفاق الانتقال الديمقراطي وفشل التنمية؟ أم أن المسؤولية تقع على عاتق فئات أخرى سواء أحزاب الحكومة أو المعارضة أو المجتمع المدني.
من خلال تتبع الخطاب الملكي، نجد أن الملكية أحيانا تظهر بعباءة المؤسسة الفاعلة، وأحيانا تظهر محايدة؛ قال الملك يوما في خطاب العرش: ينبغي علينا أن ننتج الثروة قبل أن نطالب بتوزيعها بعدل. بمعنى أن الملكية تتحمل جزءا من المسؤولية في انتاج الثروة هي باقي الفاعلين، ثم بعدها تساءل في خطاب آخر “أين الثروة؟”، بمعنى نفي المسؤولية عن الملكية في خلق الثورة، لكنها أثبت بشكل ضمني أن للملكية مسؤولية في محاسبة المفسدين والمعرقلين للنماذج التنموية. إلا أنه مرت سنوات كثيرة دون أن تقدم الملكية أي إجابة ودون أن تحقق مع المسؤولين عن فشل التنمية.
ثم وعد الملك في خطاب دكار بأنه لن يتسامح في مسألة تشكيل الحكومة، وأنه سيحرص بنفسه على أن يتوفر المغرب على حكومة ذات كفاءة. لكن وقبل أن يجف الحبر الذي كتب به الخطاب، تشكلت حكومة هي من أضعف الحكومات التي عرفها المغرب. ثم أيضاً في خطاب آخر قال الملك أنه إذا لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها، فإن صلاحياته الدستورية تخول له التدخل من أجل مصلحة المواطنين. ثم هي بعد ذلك لم تفعل شيئا اتجاه هذا الموضوع.
لهذا هل المؤسسة الملكية في المغرب فاعلة سياسياً؟ وهل هي فوق كل المؤسسات وهي تمارس صلاحياتها بكل أمانة كما ينص الدستور على ذلك؟ أم أنها محايدة اتجاه جميع الفاعلين وأن دورها فقط هو تدبير الاختلاف وممارسة التحكيم؟ فهي في محطات مفصلية في تاريخ المغرب كانت مبشرة بانتقال ديمقراطي حقيقي خصوصا زمن الحكم التوافقي، وأنها لم تتدخل لإفشاله، بل إن فاعلين آخرين، من أحزاب سياسية وإعلام ومثقفين ومجتمع مدني، هم من يتحملون المسؤولية في فشله؟
لكن لمناقشة الموضوع أكثر ولتسليط الضوء بشكل موضوعي حول 25 سنة من العمل السياسي لمؤسسة نافذة في المغرب وللفاعل الاجتماعي الأول، وللوقوف على مسؤولية المؤسسة الملكية خلال هذه المدة الطويلة من الحكم بوجود فاعلين آخرين؛ فإنه لابد من توضيح مناهج البحث العلمي التي سيساعدنا على تقديم قراءة موضوعية لكل هذه الأوضاع.
يمكن تحديد المنهج الأول من خلال الأنثروبولوجيا السياسية، وهو المنهج الأكثر شيوعاً داخل النقاشات المغربية الحالية سواء الصحافة أو الرأي العام.
ذلك أنه في تاريخ المغرب القديم والمعاصر، وجدت ملكية قوية لها شرعية دينية استطاعت تنظيم الشأن السياسي لوحدها دون فاعلين آخرين، أو أنه لا وجود للفاعلين المتعددين في المجتمعات التقليدية، حيث يتم التفويض للملكية من أجل القيام بكل التدابير العمومية، فهي مؤسسة أبوية تراعي مصالح الرعية. هي المؤسسة الوحيدة الواعية والمؤهلة لممارسة السياسة؛ إما من منطلق ديني كونها تمتاز بالشرف والبركة والخير، وهي امتداد لحكم النبي وحكم الله في أرضه، وبالتالي تستحق البيعة بما هي تفويض كامل، ودور الفاعلين خصوصا أهل الحل والعقد، هو الاكتفاء بالنصيحة والدعاء فقط، فبالدعاء يمكن رفع البلاء وبه يمكن تصحيح المسار السياسي.
ومن منطلق تاريخي، فإنها استطاعت امتلاك القوة المطلقة، مما يخول لها ممارسة السياسة دون باقي الفاعلين؛ من منظور طوماس هوبز أن المغرب الآن يعيش في المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة بين مجتمع الطبيعة حيث الاقتتال والحروب الأهلية والانسان ذئب لأخيه الانسان، وبين المجتمع المدني المبني على التعاقد وربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك إلى حين تشكل أحزاب قوية تستطيع الاستمرار في تحقيق الانتقال الديمقراطي.
ثم هي من المنطلق الديني، أن المغرب يعيش زمن “السلطان المتغلب”، وهو السلطان الذي استولى على الدولة، لكنه استطاع ضمان وحدة الأمة وحفظ بيضتها، واستطاع ضمان الأمن والاستقرار، لهذا يقرّ له أهل الحل والعقد بالبيعة إلى حين أن تستطيع الأمة النهوض من جديد.
هذا المنهج لازال له تواجد في المغرب خصوصاً لدى الناس العاديين، يرون أن الملكية متميزة عن باقي الفاعلين وعن باقي المواطنين، لأنها تاريخ وتقاليد وحظوة صوفية وكرامات، ضمن هذا المنهج فالملكية غير مسؤولة أمام الشعب، بل مسؤوليتها أمام الله فقط.
قريباً من هذا المنهج، نجد المنهج الميكيافيلي الذي يتمركز حول الدولة واستمرارها كيف ما كان شكلها ومشروعيتها، وكيف ما كان شكل الاقتصاد واستحقاقات التنمية، لا يفرق هذا المنهج بين النظام السياسي والدولة ويجعل الدولة لصيقة بالحاكم.
لهذا يجب على الدولة أن تكون قوية وأن تستمر مهما كانت التحديات والصعوبات، وأن تسعى دائما لاكتساب مزيد من القوة. ولتكون الدولة قوية عليها أن تتعامل بالمكر والخداع مع الفاعلين الآخرين، وبالقهر والتسلط مع الشعب، فعلى الحاكم مهما كانت خلفية وشرعيته أن يكون مع المخالفين كالثعلب ومع الشعب كالأسد. هذا المنهج في المغرب يوجد شيء منه في العقيدة السياسية للنخب، يتعلق بأن الملكية مهما تم الاختلاف حولها من طرف الفاعلين فإنها تضمن الأمن والاستقرار وتساهم في استمرار الدولة وتحفظها من الانهيار، خصوصاً في وجود الأزمات الكثيرة والمتربصين الكُثر.
أما المنهج الثالث وهو المنهج السوسيولوجي، فإنه يرى أن الملكية محايدة. فهي تقوم فقط بتدبير الاختلاف وليس لها أي فعل اجتماعي، بل الفاعل الحقيقي هو المجتمع، فهو مركز الشرعية والمشروعية وهو مركز الثقافة. فالثقافة السياسية مركزها المجتمع وأنه “كيف ما تكونوا يولى عليكم”. لهذا لا داعي لمنازعة الملك سلطته ما دام الشعب ليس مؤهل بعد للقيام بالديمقراطية التي يعتبر المجتمع هو أصلها وليس الدولة والنخب، حيث الخضوع والخنوع مصدره الثقافة المتجذرة في المجتمع، يقول بذلك الجابري وحسن حنفي وآخرين.
يرى هذا المنهج أيضا أن الفاعلين الآخرين ليسوا مؤهلين بعد لتقاسم السلطة مع الملكية وأنهم ضعاف ولا يستطيعون تدبير الاختلاف، لهذا من واجب الملكية لعب دور التحكيم في ظل وجود نخب قاصرة، يقول بذلك واتربوري وآخرين.
أما منهج العلوم السياسية والفلسفة السياسية وفلسفة الحق، خصوصا نظريات الانتقال الديمقراطي، فهي ترى أن الملكية مسؤولة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأنها الفاعل الحقيقي في الموضوع، لكونها مؤسسة كبرى من مؤسسات الدولة.
لهذا هي أيضاً مسؤولة عن التربية والأخلاق، وأن التربية على المواطنة في نظريات الانتقال الديمقراطي تتم من الأعلى تطبق على من في الأسفل، وليس العكس. وأن المعارضة ظاهرة صحية في الممارسة السياسية المعاصرة، بل يجب تقويتها لتتحمل المسؤولية مستقبلاً، وأنه يمكن لها تدبير الاختلاف بين الفاعلين ويمكن لها تحقيق الانتقال الديمقراطي إذا استطاعت منازعة السلطة والقيام بتسويات مع الفاعلين الحقيقيين. وأن الانتقال الديمقراطي يمكن أن يكون مدخلاً لإصلاحات كبرى تنموية واجتماعية.
إن المنهج الأول والثاني والثالث يلغي دور المعارضة ويراها إما ضعيفة وقاصرة أو هي مشوِشة على الحاكم وتثير فقط الأزمات، أو أنها غير مؤهلة بحكم الواقع للقيام بالتوافقات الكبرى. وأن السلطة يجب أن تكون متمركزة في يد مؤسسة واحدة من أجل منع التنازع على الحكم ومنع انهيار الدولة، فقط المنهج الأخير هو من يمكن له اعطاء القيمة للمعارضة ويحمل المسؤولية لمؤسسات الدولة في فشل التربية على المواطنة وفي تحقيق سيرورات الدمقرطة.