story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رياضة |

يوهان كرويف.. فيلسوف كرة القدم الإحتفالية

ص ص

في مدخل ملعب الكامب نو ببرشلونة الذي يخضع اليوم لإعادة البناء، لابد وأن تقع عينا أي زائر لمعقل البارصا التاريخي، على تمثال نحاسي كبير لأسطورة النادي وصانع هويته الكروية الأسطورة الهولندي يوهان كرويف. اختيار المسؤولين “الكطلان” له من بين عشرات النجوم الذين حملوا قميص “البلاوغرانا” ليضعوه في مدخل ملعبهم الذي تؤمه الجماهير من شتى بقاع العالم، هو اعتراف أن الرجل كان استثنائيا في كل ما صنعه لبرشلونة لاعبا ومدربا. هو التكريم الأبدي الذي يضعه كأب روحي لهوية النادي التي يتميز بها إلى اليوم.

قبل أيام مرت الذكرى التاسعة لوفاته. وكل سنة يتذكر الكطلان من خلالها، أن الوداع لم يكن مجرد رحيل لاعب أو مدرب، بل كان وداعًا لثائر أنيق، ولفيلسوف حوّل كرة القدم إلى فن ورفعها إلى بُعد لا يزال يسلب عشق الجماهير حتى في أزمنتنا الحاضرة.

في ذكراه، لا يحتفل الكطلان بتذكر نجمهم الأسطوري “الرفيع”، بل يحتفلون بإرثٍ لا يزال ينبض في كل تمريرة، في كل ملعب، في كل حلم لطفل مع كرة. يقولون عنه في برشلونة أنه “إذا كانت كرة القدم عرضًا موسيقيا، فإن كرويف كان قائد الأوركسترا، وكاتب كلمات الأغنية التي تطرب كل من يسمعها”.

مخترع كرة القدم الحديثة

الحديث عن يوهان كرويف هو الحديث عن عقل يرى ما لا يستطيع الآخرون حتى تخيله. وُلد في 25 أبريل 1947 في أمستردام، نشأ في حي بجوار ملعب أجاكس، النادي الذي كان سيكون لوحته الأولى. هناك، تحت إشراف رينوتز ميتشيل، الأب الروحي لـ”الكرة الشاملة”، أصبح كرويف الريشة التي رسمت طريقة جديدة لفهم اللعبة. هل المراكز الثابتة؟ مملة. هل الرقابة الفردية؟ محدودة.

كان كرويف يؤمن بكرة قدم مرنة، حيث يهاجم الجميع ويدافع الجميع، فوضى منظمة تحطم الخصوم وتبهر الجماهير.

مع أجاكس، فاز بثلاث بطولات دوري أبطال أوروبا مرتين (1971-1973) وثماني بطولات دوري هولندية. ثم في عام 1973، وصل إلى برشلونة كمنقذ في أوقات صعبة. كانت إسبانيا تحت حكم الدكتاتور فرانكو، وكان برشلونة قد مرّ بـ14 عامًا دون أن يفوز بلقب الدوري. وصل كرويف، وفي موسمهم الأول، لم يفوزوا فقط بلقب الدوري، بل أهانوا ريال مدريد بفوز تاريخي 5-0 في البرنابيو. في ذلك اليوم، لم تعد كرة القدم مجرد رياضة في كتالونيا؛ بل أصبحت درسا ساحرا من المتعة الإحتفالية.

لكن تحفته الكبرى كلاعب كانت في كأس العالم 1974 مع هولندا. رغم أنه لم يرفع الكأس، فإن “البرتقالي الميكانيكي” سحر العالم. وهناك ابتكر كرويف تلك الحركة التي خدع بها يان أولسون مدافع السويد، خدعة بسيطة ولكن عبقرية لدرجة أن الأطفال يمارسونها اليوم في الشوارع وفي ألعاب الفيديو.

باني صرح كروي

إذا كانت عبقرية كرويف ظهرت للعالم كلاعب، فإنها تأكدت لما تحول إلى مدرب أيضا. عاد إلى برشلونة في عام 1988 وحوّله إلى “فريق الأحلام”. فاز بأربع بطولات دوري متتالية وأول بطولة دوري أبطال أوروبا في 1992 في ويمبلي أمام سامبدوريا. ولكن أبعد من كل هذه الألقاب، ترك فلسفة تقنية للمستقبل: الكرة هي الامتلاك، والحيازة هي القوة، والأكاديمية هي المستقبل. كانت لا ماسيا، الأكاديمية الشهيرة للبارصا، هوسه اليومي وحلما رافقه بالليل والنهار، ومن هناك خرجت جواهر حافظت على أسلوبه. لخص بيب غوارديولا، أحد تلاميذه، ذلك بشكل مثالي:”كرويف بنى الكاتدرائية، ونحن فقط نحافظ عليها”.

كانت فترته في أجاكس، كمدرب، زاهية بالألقاب أيضًا، حيث فاز بكأس أوروبا في 1987. لكن تأثيره يتجاوز الأندية. “الجودة بدون نتائج لا معنى لها. النتائج بدون جودة مملة” هكذا كان يعتقد يوهان كرويف، وهكذا عاش كرة القدم كنوع من التوازن بين الآداء الإحتفالي والانتصار.

إرث أبعد من الملاعب

عندما داهمه المرض الخبيث في 2016 وأجبره على مغادرة الحياة عن عمر يناهز 68 عامًا، كان فقط رحيلا جسديا، حيث ترك مؤسسة يوهان كرويف، التي تقدم عن طريق الرياضة عناية للأطفال في أوضاع هشة، ومعهد يوهان كرويف، الذي يُكوّن الأطر القادمة في التدبير الرياضي، وهناك ملاعب تحمل اسمه في أمستردام وبرشلونة، وتماثيل موزعة بين هولندا وكطالونيا، وحتى تسمية سباق، “كرويف ليغاسي 14K” في برشلونة، الذي سيجمع الآلاف في أبريل 2025 تكريمًا له.

لكن إرثه المؤثر الكبير يظهر في كرة القدم بشكل أسبوعي، في كل مرة ترى فريق “البارصا” يهيمن بالتمريرات القصيرة، يضغط عاليًا أو يبدأ من الخلف، فأنت تشاهد كرويف. غوارديولا، تشافي هيرنانديز، فرانك ريكارد، بيتر بوس، لويس إنريكي ورونالد كومان: الجميع يتغذى من مصدره. “كرة القدم هي لعبة تُلعب بالعقل”، كان يقول كرويف دائما. وهو لعبها كما لم يفعل أحد.

ذكرى رحيل رمزي

في الذكرى التاسعة لرحيل يوهان كريف، لازال “الكطلان” يستحضرون مناقبه بتأثر. يقولون عنه في برشلونة أنه لم يترك لهم فقط أهدافًا، وألقابًا، وأقوالًا تستحق تدبر عمقها الفلسفي، بل ترك لهم طريقة جذابة لكي يعيشوا بها كرة القدم. “يجب أن تُلعب كرة القدم دائمًا بشكل جذاب، يجب أن تلعب بشكل هجومي، يجب أن تكون عرضًا إبداعيا” هكذا كان يقول الأسطورة كريف. وهكذا كانت حياته الكروي عرضًا فنيا جديرا بالتخليد إلى الأبد.

مساعده في البارصا ريتشاك يقول:”كان كريف يذكرنا أن أهم شيء في كرة القدم هم المشجعون، أن يعود الناس إلى منازلهم سعداء. إنه وقتهم الحر ويجب أن نقدم لهم شيئًا ليتمتعوا به”.

تحفة لاماسيا

ستظل جماهير برشلونة مدينة ليوهان كرويف، الرجل الذي قدم كل شيء من أجل نادي برشلونة. الانتصارات، الذاكرة، التاريخ، الفلسفة، القيم و”فريق الأحلام”، لكن تبقى أكاديمية ” لاماسيا” أهم إنجاز حقن به يوهان كرويف النادي. لقد وصل الهولندي إلى مقاعد تدريب برشلونة في عام 1988 ليس فقط لصنع التاريخ، بل لزرع فلسفة وتوفير هوية مميزة وعلامة يعرف الناس البارصا من خلالها عن طريق نظرة إلى الملعب.

في “لاماسيا” سيُذكر دائمًا كأكثر مدرب جعل الشباب يشاركون في الفريق الأول: 32 لاعبًا في سبع سنوات، إضافة إلى تقديمه فلسفة “التيكي تاكا” الشهيرة التي تميز بها النادي، ثم المنتخب الإسباني. وضع “الرفيع”، وهو اللقب الذي كان يُعرف به كرويف، استراتيجية لتسهيل وصول اللاعبين من أكاديمية الناشئين إلى الفريق الأول، من خلال تطبيق نفس أسلوب لعب الفريق الأول في جميع الفئات السنية. وبهذا، بفضل عمل كرويف، أصبحت “لاماسيا” مصنعًا متفردا للنجوم الموهوبين إلى اليوم.

لقد جعل كرويف من “لاماسيا” مدرسة لتعلم الإبداع الكروي، وواحدة من أفضل المدارس الرياضية في العالم، تشتغل بإتقان على “مرافقة الرياضي من اليوم الأول الذي يصل فيه إلى النادي ويبدأ في الفئات السنية، سواء في تكوينه الرياضي أو الأكاديمي أو الشخصي. يتم تدريبه، في النهاية، من أجل الحياة”.

تاريخ كرة القدم لازال يذكر الأسماء الشهيرة التي كانت نتاج تأثير فلسفة يوهان كرويف التي حقن بها أكاديمية لاماسيا. وآثاره المشبعة بالإبداع والفرجة لا تزال حية في جدران الصرح التاريخي القابع في أقصى المدينة الرياضية “جوان غامبر” بمدينة برشلونة.