“يقوّض ثقة المواطنين”.. قوانين حساسة تمرّ تحت قبة برلمانية شبه خالية

في مشهد بات يتكرر بشكل مقلق، عرفت جلسة تشريعية عمومية عقدت يوم الثلاثاء 22 يوليوز 2025 بمجلس النواب، غيابًا لافتًا لعدد كبير من البرلمانيين، رغم أن الجلسة خُصصت للدراسة والتصويت على نصوص تشريعية “حساسة ومثيرة للجدل”، من بينها مشروع قانون المسطرة الجنائية، وقانون التراجمة المحلفين، ومشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة.
ويثير هذا الحضور البرلماني “الهزيل”، الذي لا يتجاوز أحيانًا 62 نائبًا من أصل 395، تساؤلات عميقة حول مشروعية العملية التشريعية في ظل غياب ما يمكن اعتباره نصابًا سياسيًا وأخلاقيًا، حتى وإن توفرت الشروط الشكلية القانونية.
“إخلال بالواجب النيابي”
وتتكرر هذه الظاهرة بشكل لافت، رغم الأهمية القصوى للنصوص المعروضة، التي تلامس قضايا حيوية متعلقة بالعدالة والحقوق والحريات والإعلام. وهو ما ينبه إيها خبراء معتبرين ذلك “إفراغا للعمل التشريعي من مضمونه الديمقراطي، وتحويل البرلمان إلى مؤسسة شكلية لا تعبّر عن الإرادة الشعبية”.
في هذا السياق، اعتبر عبد الغني السرار، أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بالجديدة، أن ظاهرة الغياب ليست جديدة، بل أصبحت “آفة سياسية مألوفة”، وذلك ليس فقط في أوساط النواب أنفسهم، بل لدى المواطنين الذين يتابعون جلسات البرلمان عبر قنوات التلفزة العمومية، “حيث كثيرًا ما يظهر البرلمان شبه فارغ، في مشهد لا يليق بمؤسسة تمثيلية من هذا الحجم”.
وأكد السرار في تصريح لصحيفة “صوت المغرب” أن “هذه الظاهرة تشكل تحديًا حقيقيًا أمام عمل هياكل البرلمان بغرفتيه، النواب والمستشارين”، مضيفًا أن استمرارها يثير الاستغراب، خاصةً وأنها تمثل “إخلالًا بالواجب النيابي والأخلاقي الذي تقتضيه وظيفة التمثيل البرلماني”.
وأضاف المتحدث أن النظام الداخلي لمجلس النواب، المعدل في يوليوز 2024، تضمن إجراءات واضحة وصارمة للحد من هذه الظاهرة، من خلال الجزء الحادي عشر من مدونة الأخلاقيات البرلمانية، والتي تم التأكيد على دستوريتها بموجب قرار المحكمة الدستورية رقم 243/24 الصادر بتاريخ 7 غشت 2024.
وأوضح السرار أن المادة 395 من النظام الداخلي تُلزم أعضاء المجلس بحضور اجتماعات اللجان والجلسات العامة، وتحدد العقوبات في حال الغياب غير المبرر، بدءًا من التوبيخ الكتابي، ومرورًا بتلاوة اسم النائب الغائب علنًا، وصولًا إلى اقتطاع من تعويضاته الشهرية.
لكن المفارقة، يضيف الأستاذ الجامعي، أن “النواب الذين صوتوا على هذه المدونة هم أنفسهم من يعرقلون تفعيلها، ويقاومون مقتضياتها”، وهو أمر وصفه بـ”غير المفهوم والغريب”، خاصةً وأن ظاهرة الغياب مستمرة “بل وتفاقمت في الآونة الأخيرة، رغم التهديدات بالعقوبات الإدارية والمالية”.
وشدّد السرار على أن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فقط في طابعها اللأخلاقي، بل في “تأثيرها المباشر على السير العادي للمؤسسة التشريعية”، محذرا من أن “الغياب المستمر يفتح المجال أمام تغول السلطة التنفيذية ومحاولة الاستفراد بالوظيفة التشريعية، التي تعد اختصاصًا دستوريًا حصريًا للبرلمان”.
وفي سياق متصل، أبرز الباحث أن هذه الظاهرة تهدد أيضًا “الاستقرار المؤسساتي”، خاصةً مع تذبذب الحضور داخل الغرف التشريعية، سواء من الأغلبية أو المعارضة، “مما يضعف النقاش البرلماني ويُضعف عملية التمثيل، خصوصًا في الملفات المصيرية التي تهم المواطنين، مثل مناقشة مشاريع قوانين كبرى كقانون المسطرة الجنائية والقانون التنظيمي للإضراب”.
واختتم عبد الغني السرار تصريحه بالتنبيه إلى الأثر الخطير لظاهرة الغياب على العلاقة بين المواطن ومؤسساته، موضحًا أن “استمرار الغياب يفقد النائب مصداقيته، ويدفع المواطن إلى فقدان الثقة في العمل السياسي ككل، مما يزيد من تعميق أزمة المشاركة السياسية، ويغذي العزوف عن الانتخابات”.
من جانبها، حذرت الباحثة في القانون الدستوري والعلوم السياسية، مريم ابليل، من استمرار هذا النمط البرلماني، الذي “يُقوض ثقة المواطنين في المؤسسات، ويُفرغ الديمقراطية التمثيلية من مضمونها الفعلي”، داعية إلى مراجعة عميقة في طريقة اختيار النخب، وفي النظام الداخلي للمؤسسة التشريعية.
ظاهرة “شبه ملازمة”
واعتبرت الباحثة، أن الغياب المستمر للبرلمانيين خلال الجلسات التشريعية بات ظاهرة “شبه ملازمة” للممارسة البرلمانية في المغرب، وهو ما يُؤثر بشكل مباشر على ثقة المواطنين في المؤسسات.
وقالت ابليل، في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، إنها اطلعت على الأرقام المتعلقة بالحضور داخل البرلمان، ووجدت أنها “مقلقة”، خاصة أن مناقشة عدد من القوانين المصيرية “تتم بحضور محدود للغاية”، مضيفة أن قانون المسطرة الجنائية، باعتباره من القوانين التي تمس جوهر حقوق المواطنات والمواطنين، تم التصويت عليه بحضور 62 نائبًا فقط من أصل 395.
وصادق مجلس النواب، يوم الثلاثاء 22 يوليوز 2025، بالأغلبية، على مشروع القانون رقم 03.23 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، في إطار قراءة ثانية، وقد حظي المشروع بموافقة 47 نائبًا، مقابل معارضة 15، دون تسجيل أي امتناع.
وشددت ابليل على أن هذا النوع من الممارسات “يؤدي دورًا سلبيًا للغاية في تقويض الثقة التي تبنيها الدولة عبر مجهودات مختلفة لتعزيز المشاركة السياسية والثقة في الأحزاب والمؤسسات، لكن الغياب في محطات حساسة يهدد بهدم ما تمّ بناؤه”.
وأكدت الباحثة على ضرورة إعادة النظر في النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، بما يسمح بتشديد القيود على الغياب، داعية إلى توسيع حالات التنافي لضمان التفرغ التام للمهام البرلمانية.
وأبرزت أيضًا أهمية فرض إلزامية النصاب القانوني للتصويت في القوانين الأساسية، مشيرة إلى أن بعض القوانين التنظيمية تشترط حدًا أدنى من الحضور ليُعتَبر التصويت قانونيًا، وهو ما يمكن أن يشكل وسيلة ردعية فعالة إذا تمّ احترامه بصرامة.
تراكم التشريع
وحول أسباب الغياب، أرجعت الباحثة ذلك في جوهره، إلى “سوء اختيار الأحزاب للنخب التي تمثلها داخل البرلمان”، معتبرة أن النخب الواعية بمهامها الدستورية والمسؤولة وطنيًا تلتزم بالحضور والمشاركة الفعالة.
وأشارت في الوقت ذاته إلى وجود أسباب ظرفية مرتبطة بزخم النصوص القانونية المطروحة خلال الدورة، خصوصًا مع اقتراب نهاية الدورة البرلمانية وضرورة الانتهاء من عدد كبير من المشاريع.
وأكدت ابليل أن الحل لا يكمن في التسريع العشوائي أو التراكم، بل إن القانون يتيح تنظيم دورة تشريعية استثنائية إذا دعت الضرورة، لاستكمال مسار المصادقة على القوانين المهمة.
وفي معرض حديثها عن الحلول، أشارت مريم ابليل إلى أن رئاسة مجلس النواب حاولت التصدي للغياب من خلال عدة آليات، منها، نشر أسماء النواب المتغيبين، واقتطاع جزء من تعويضاتهم، ومنح تعويضات مرتبطة بالإقامة، وتقديم تحفيزات رمزية لتشجيع المواظبة.
لكنها أكدت أن “هذه الإجراءات تبقى مجرد حلول ترقيعية لا تعالج المشكل من جذوره، لأن الإشكال الحقيقي يكمن في طبيعة النخب التي تصل إلى البرلمان، وهي مسؤولية الأحزاب السياسية في المقام الأول”.