وهبي: الكم الهائل من الشكايات غير معقول.. ونوايا الجمعيات تثير الشكوك

رفض عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، بشكل قاطع إدخال أي تعديل على المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية، مؤكدًا تمسكه التام بصيغتها الحالية، حيث شدد على أن الدولة، باعتبارها الجهة التي تمنح التمويلات، هي المسؤولة عن أموالها، وليست الجمعيات، كما اعتبر أن المؤسسات التي أنشأتها الدولة هي وحدها المخولة بحماية المال العام.
ووفق أحكام المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية، “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسًا للنيابة العامة”، وذلك بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات.
كما تشمل قائمة الإحالات الممكنة، حسب مشروع القانون، طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، وكذلك إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أو أي هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك.
وفي ظل الجدل المتصاعد حول هذه المادة، كشف وهبي، خلال المناقشة التفصيلية لمشروع القانون رقم 03.23 المتعلق بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 الخاص بالمسطرة الجنائية، أنه ما بين سنتي 2020 و2024، توصلت النيابة العامة بـ106 شكاية مقدمة من الجمعيات بخصوص قضايا الاختلاس والتبديد، تم حفظ 31 قضية منها، فيما لا تزال 61 قضية في طور البحث، و8 قضايا أمام قاضي التحقيق، وأُحيلت على المحاكمة 8 قضايا فقط.
وأضاف أن النيابة العامة في مجالس الجماعات والأقاليم توصلت ما بين 2020 و2024 بما يقارب 259 وشاية تتعلق بالاختلاس والتبديد، تم اتخاذ قرار الحفظ في 112 شكاية، و132 لا تزال في طور البحث، وأُحيلت على المحاكمة خمس قضايا، واحدة منها في طور التحقيق، وتم الحكم بالإدانة في ثمان قضايا فقط.
وفي تعليقه على هذه الأرقام، عبر الوزير عن استغرابه من هذا “الكم الهائل” من الشكايات، معتبراً الأمر “غير مقبول”، موضحاً أن “مجرد تقديم شكاية أو وشاية ضد أحد الأشخاص يمسّه عائلياً، وسياسياً، واجتماعياً، خاصة إذا تم التشهير به في وسائل الإعلام قبل انتهاء مرحلة البحث”، مؤكداً أنه “لا يمكن للدولة والمؤسسات أن تعمل مطلقاً وفق هذا المنطق”.
وفي السياق ذاته، انتقد وهبي ظاهرة التشهير الإعلامي التي ترافق تقديم الشكايات، قبل صدور أي حكم أو انتهاء البحث، مؤكدا أنه “لا يمكن لمؤسسات الدولة أن تعمل وفق منطق الاشتباه والشبهات”، كما شدد على أن “الفساد ظاهرة موجودة في كل الدول، لكن يجب معالجتها عبر المؤسسات الرسمية”، منبّها إلى أن “هناك مؤسسات قائمة بالفعل، مثل القضاء والنيابة العامة، تتكفل بهذه المهام”.
واعتبر المسؤول الحكومي أن “فتح المجال أمام الجمعيات لتقديم الشكايات يفرغ دور النيابة العامة من محتواه”، متسائلًا عن جدوى الإبقاء عليها في حال تم اعتماد هذا التوجه، حيث أوضح أن مؤسسات الرقابة الرسمية، مثل المجلس الأعلى للحسابات، والمفتشيات العامة، والهيئة الوطنية للنزاهة، تقوم بأدوار كافية في هذا المجال، وبذلك رفض بشكل قاطع أن تضطلع الجمعيات بدور موازٍ لمهام الدولة الرقابية، كما نبه إلى أن “بعض الجمعيات لا تلتزم بالحياد، بل تمارس الابتزاز المالي وتتعامل بانتقائية في تقديم الشكايات”.
وفي هذا الإطار، رفض وهبي، إدخال أي تعديل على المادة الثالثة من مشروع القانون المعني، حيث قال إنه “لن يقبل أي تعديل كيفما كان”، معتبرًا أن “المادة ضرورية لحماية المؤسسات والمسؤولين، خصوصًا المنتخبين المحليين، من ما وصفه بـ”الوشايات الكيدية” التي تُقدَّم في كثير من الأحيان بدون أدلة واضحة وتؤدي إلى التشهير والضرر السياسي والاجتماعي”.
وأثار رفض التعديلات غضب عدد من النواب، الذين اعتبروه تجاوزًا لاختصاصاتهم، حيث أوضحوا أن الفصول 70 و83 و84 من الدستور تمنح البرلمان صلاحية التشريع، كما أكدوا أن تصريحات من هذا النوع تسيء للممارسة الديمقراطية في البلاد، داعين إلى احترام دور البرلمان في مناقشة وتعديل القوانين.
ورفض برلمانيون مضمون المادة الثالثة من القانون المذكور، مشددين على أن “النظام الدستوري المغربي يقوم على مبادئ فصل السلط وتوازنها، والتعاون، بالإضافة إلى الديمقراطية والمواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة”، وأضافوا أن “الفصل الأول من القانون يتضمن مبادئ عامة نص عليها الدستور، خاصة الفصل 12 الذي تحدث عن أدوار الجمعيات المختلفة”.
وأضاف البرلمانيون أن “هذه الجمعيات، إذا لم تكن مختصة بمراقبة الاختلاسات واستعمال المال العام، فالسؤال المطروح هو ما هو دورها الحقيقي في هذا المجال”، كما أشاروا إلى أن “مقتضيات المادة التي تمنع تحريك المتابعة في جرائم المال العام يجب أن تكون ضمن حدود ضيقة، مقبول عليها من قبل النواب”، معتبرين أن “المرجعية الدستورية تركز على مبادئ الدولة الحديثة، المشاركة، التعددية، والحكامة الجيدة، التي يجب تقويتها”.
وتابعوا أن “الجرائم المتعلقة بالفساد تشكل خطراً على المجتمع والدولة، وتوازي في خطورتها جرائم الإرهاب، لذا يجب تعزيز يقظة المجتمع وحساسيته تجاه هذه الجرائم”، كما أكدوا على “ضرورة معالجة ظواهر التشهير والافتراء المرتبطة بالتبليغ، مع تطوير القوانين الخاصة بمكافحة الفساد بما يتناسب مع متطلبات التضييق على الممارسات الفاسدة، دون التضييق على عمليات التبليغ”.
وفي معرض رده على مداخلات النواب، أوضح وهبي أن “التصويت على التعديلات من اختصاص البرلمان، لكنه كرر تمسكه بعدم قبول أي تعديل على المادة الثالثة”، معتبرًا أن “ذلك لا يشكل خرقًا للدستور، وأكد أن الديمقراطية لا تُبنى بالتشهير وتدمير المؤسسات، بل بحمايتها وتقويتها”، مشددا على أن “رئيس الجماعة هو الحلقة الأضعف ويحتاج إلى دعم حقيقي”.
وحول حق الجمعيات في التقييم، قال الوزير إن “الفصل 12 من الدستور يمنحها دور التقييم فقط، وليس المتابعة، كما أوضح أن الفصل 36 يتعلق بالسلطات العمومية، أي القضائية والإدارية، وليس الجمعيات، مضيفا أن التقييم لا يعني إطلاقًا الاعتقال أو الإدانة القضائية”.
كما أشار إلى أن “هناك فرقًا واضحًا بين الخطأ في التدبير والجريمة”، داعيًا إلى تصنيف الأخطاء بشكل دقيق، حيث أكد أن “بعض الخلل التدبيري لا يجب أن يتحول إلى جريمة إلا في حالات واضحة”، كما شدد على أن “الحكومة الحالية لا يمكن تحميلها مسؤولية إخفاقات الحكومات السابقة في محاربة الفساد”.
وصادقت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب، في ختام اجتماع امتد إلى ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء/ الأربعاء 14 ماي 2025، بالأغلبية، على مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23 برمته، وذلك بحضور وزير العدل عبد اللطيف وهبي.