story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ولن يَرْمِش لي جفنٌ

ص ص

استشهد واقفاً كما يليق ببطل.

يحيى السنوار هزم الاحتلال حيّا وميّتا. قبل يوم من استشهاده روّج إعلامٌ غربي وعربي أنه يرتدي ملابس نسائية ويتخفّى بين المدنيين، وقبله قالوا إنه يختبئ تحت الأرض محيطاً نفسه بالمحتجزين الإسرائيليين يتخذهم أذرعا بشرية، وذهب خاسئون إلى أنه فرّ خارج غزة تاركاً أهلها للمحرقة. لكنه حتى وهو يستشهد يصدر “بيان تكذيب” من خلال قاتليه، أنه بقيَ شامخا يُقاتل، وأنه كان قريباً من مناطق مواجهة الاحتلال لا يهتزّ و”لا يَرْمِش له جفن”.

خسارة كبيرة مُنيت بها حماس وكل المؤمنين بالمقاومة باستشهاد مهندس طوفان الأقصى الذي تجرّأ على اجتياز الحدود، الجغرافية والسياسية، حين أطلق كبرى معارك التحرّر التي أفْقَدت إسرائيل توازنها وتحاول استعادته بالجثث والجماجم وقتل الأطباء والمسعفين والصحافيين.

استشهاد السنوار مكسبٌ إسرائيلي تنافسَ أركانُ دولة الاحتلال لتسويق أنفسهم بعده، بل أخذتهم نشوة استشهاده إلى حدّ عرْضِ الاستسلام على تلك البقعة الجغرافية الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بعنفوان مقاوميها وآلام أهلها، والتي دمّروها وقتلوا 43 ألف إنسان فيها، ووزّعوا 100 ألف بين مصاب ومفقود، وجوّعوها ومنعوا الماء عنها، ودمروا مستشفياتها، وحرقوا أهلها في الخيام أحياء، وقطعوا الكهرباء عن مرضاها في الإنعاش.. ولم يروها ترفع الراية البيضاء استسلاما لإبادتهم.

فقدت حركة التحرر الوطني الفلسطيني (الفلسطيني فقط أم تحررنا الجماعي؟) قائدا، انتصر للمقاومة حيّا وميتا، وقضى نحبه كما تمنى في قولته الشهيرة: (أكبر هدية يمكن أن يقدمها لي الاحتلال هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدا على يده). وأيضا يوم تحدّى الاحتلال وخرج يمشي في شوارع غزة شامخا أنه (لن يرْمِش لي جفن).

في فلسطين تقاتل الإرادةُ والحقُ الأعْزلين من كل إمكانات مادية الظلمَ المُدجّج بكل سلاح. في فلسطين شعبٌ لم يفْتُر طيلة 70 عاما عن طلب الحريّة.

في فلسطين إقدام على الحياة بالموت. وفي فلسطين بقيّة إنسانٍ لا ينامُ على ضَيْم.

وفي فلسطين (إنّه جهاد، نصرٌ أو استشهاد). وبين حدّي هذه الحياة المُقاوِمة (نصر أو استشهاد). حياةٌ مقاوِمةٌ تألم وتقاسي في ظل اختلال ميزان القوى لصالح محتلٍ مجرم. حياةٌ مقاوِمةٌ تتلمّس طريقة الحرية بدماء القادة الذين يرفضون مع شعبهم أن يعيشوا غرباء في أرضهم.

“نصرٌ أو استشهاد” إرادةُ المقاومين حين يرسمون طريقهم بوضوح: أن تمضي مقاومتهم إلى نصر يتحقّق بالتراكم في مسار تحرّري طويل مليء بالتضحيات والآلام، يوازيه ويعادله ويكافئه استشهادٌ يكون انتصارا فرديا على الاحتلال، يفْتِلُ في حبْل النصر الجماعي عبر الفداء.

وإن استشهاد السنوار لن يكون هزيمةً للمقاومة ولا نصراً للاحتلال، بعدما أصبحت الأرض موازية ومعادِلةً للحياة. وإن استشهاد السنوار هو مزيدٌ من تغذية العداء لإسرائيل، ومزيدٌ من تغذية العقل والوجدان بصورة الأبطال الذين لا يستسلمون، في أوطاننا التي يتسرّب إليها مرض الخيانة والعمالة والجُبن والاستسلام.

وإن استشهاد السنوار تصويبٌ للتاريخ وتمزيقٌ لصفحات التزوير الذي كان على أشدّه قبل عامٍ مع هرْولة المهرولين إلى أحضان نتنياهو، وهو تأكيد على حقّ أصحاب الحق، وأنهم الأصل والفَصْل ما بقي مقاومون.

وإن استشهاد السنوار لا يختلف عن استشهاد من سبقوه من قادة المقاومة الكبار، من خليل الوزير وفتحي الشقاقي ويحيى عياش وأبو علي مصطفى وصلاح شحادة والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي والرئيس ياسر عرفات وإسماعيل هنية، وغيرهم الكثير.. والذين لم تتوقّف مسيرة الكفاح بعدهم.

ولو كان السنوار يريد “حياة الماعز” ما اختار طريق (النصر أو الاستشهاد) مع إدراكه فروقا هائلة في القوة، ولما تجرّأ على أن يدفع إسرائيل، بطوفان الأقصى، إلى الخروج بوجهها الإجرامي سافراً أمام العالم وهي ترتكب الإبادة، في أكبر عملية فضْح سياسي وإنساني في التاريخ الحديث.

استشهد السنوار لأنه مطلوبٌ لإسرائيل حين مرّغ وجْهَ ردْعِها في الوحْل، ولأنه دمّر كتيبة في جيشها في ساعات، ولأنه رسّخ في عقْل الفلسطيني أنه يمكن أن يُهاجم الاحتلال في كسْر لمعادلة أن إسرائيل تُهاجِم ولا تُهاجَم.
هذا السنوار مات واليد على الزناد، ليُخلّف صورةَ جثمان يعلوه غبار المعركة كما يليق بشموخ المُقاوِمين. مات وما منحهم فرصة أن يخرجوه من حفرةٍ ويصوّروه هارباً خائفاً. مات ليحيا الشعب وتبقى القضية، وله من اسمه نصيب (يحيى).

قصارى القول
السنوار قاتل لأجل الوطن والحرية. وهذه معركة الشرفاء التي لا يخوضها المُرْجفون العاطلون عن الحلم في التحرر. خاض معركته طلباً للحياة، وتأكيدا على أن مقاومةَ المحتّلين حقّ الشعوب الذي لا يسقط بالآلام ولا بقتل القادة أو حيازة دعم أميركا والعالم، وتحصيل تواطؤ أنظمة العرب.

وإن النصر لا يتحقّق بجولةٍ، وإن المحتّل يمكن أن يملأ السمعَ والبصرَ بالأوهام، ويسوّق قتل المقاومين نكسَةً للمظلومين، لكن في الذاكرة أن النصر لأصحاب الحقّ ماداموا يرفضون ترك الأرض.

والاحتلال هباءٌ منثورٌ حين يصير أطفال غزةَ الجائعون والنازحون رجالاً غداً يحملون في عقلهم ووجدانهم أيقونية مشهد السنوار على أريكةٍ جريحاً ينازع الموت وآخر حياته أن يرمي بإرادةِ مقاومٍ طائرةً مُسيّرةً بعصى.. سيكون بين أطفال غزة المرعوبين اليوم من جراء فظاعات الاحتلال سنوارٌ وهنيةٌ وأبو عبيدة وألف ضيف.. وهذا قَدَرُ الفلسطينيين مع الحرية في مواجهة احتلال مجرم، وقد تخفّفوا من التعويل على عربٍ مشغولين بتملّق نتنياهو.